هيفيدار حنان
في ليلة مظلمة، عندما كان أطفالنا يغفُون في براءة على أمل أن يستيقظوا في صباح جديد مليء بالسلام، استهدفت طائرة مسيّرة للاحتلال التركي مزرعة بين قرية قومجي، وبرخ بوطان جنوب كوباني، فارتقى في الاستهداف ثمانية أطفال أبرياء للشهادة، بابتسامتهم يُضاء العالم، حلموا بحياة هادئة في قريتهم. ثمانية آمال كانوا يحملونها في أعينهم، ولكنهم غادروا فجأة في لحظة عابرة. لم تكتفِ الطائرة باستهدافهم فقط، بل أصابت الوالدين اللذين كانا بجانبهم، ليكتمل المشهد الحزين بمصابين آخرين كان بوسعهم أن يكونوا أحياء لو أن العدالة قد وجدت طريقها.
إن هذه المجزرة الوحشية التي ارتكبتها الطائرات التركية، ليست مجرد حادث عابر في يوم عادي، بل هي شهادة حية على كمية رخص دم الأطفال في هذه الأرض. أين العدالة؟ أين المحاسبة؟ هل سيظل هؤلاء الأطفال جزءًا من إحصائيات الضحايا المجهولين؟ لماذا تُركت دماؤهم لتسفك بلا رادع؟
وتدعي تركيا، أن عملياتها العدوانية في إقليم شمال وشرق سوريا جزء من حرب ضد “الإرهاب”، وتسعى إلى محاربة ما تسميه “التهديدات الأمنية”. لكن في أي قانون يسمح أن يُستهدف المدنيون في بيوتهم؟ أن تمزق طائرات مسيّرة، بلا رحمة، حلم أطفال لم يعرفوا سوى السعي وراء الأمل؟ أين القيم الإنسانية؟ أين الأخلاقيات في مواجهة هذه الهمجية؟ أليست حياة الأطفال في نظر تركيا أغلى من أية دوافع سياسية أو أمنية؟ ألم يكن الأجدر أن تحميهم القوانين الدولية بدلاً من أن تكون ضحاياها؟
فكلما زادت المذابح، زادت الأسئلة التي تطرح نفسها: لماذا لا تحاسب تركيا على هذه الانتهاكات؟ هل لأننا نعيش في مناطق نائية؟ أم لأن دماء السوريين، أقل قيمة من دماء الآخرين؟ أين هو العالم الذي يفترض به أن يردع العدوان، أن يدافع عن حقوق الإنسان، أن يرفع صوته ضد الظلم؟ أم أن “الصمت” هو الرد الأمثل على دماء الأطفال الأبرياء؟
لا ينبغي أن يُغفل مشهد مثل هذا، حيث يُترك طفل يقتل، وتُنهب طفولته كما لو كانت لا شيء. لا يمكن لأي شخص أن ينسى ذلك اليوم الذي ارتفعت فيه روح ذلك الطفل إلى السماء، لتكون واحدة من ملايين الأرواح، التي تمزقت بسبب حروب لا علاقة لهم بها. وتظل الأسئلة تتردد في ذهنك: لماذا لا يكترث أحد لهذا القتل العشوائي؟ لماذا لا تجد أصوات هؤلاء الأطفال أي آذان صاغية؟ هل يمكن للضحية أن تنام في سلام، بينما المجرم لا يزال يواصل إجرامه؟
فالحياة في إقليم شمال وشرق سوريا أصبحت كابوسًا مستمرًا، تتساقط فيه الأرواح كما تتساقط الأوراق في الخريف. في كل يوم، يواجه الأهالي تهديدات الموت من الجو، في حين أنهم كانوا يعيشون حياتهم ببساطة، يسعون وراء لقمة العيش أو يحلمون بمستقبل أفضل. ثم يأتي الموت ليخطفهم، دون أن يميز بين صغير أو كبير. كل هجوم، كل قذيفة، كل طائرة مسيّرة، تُهدم معها حياة كاملة وتُترك عائلات كاملة في ظلام الحزن والخذلان.
ولكن السؤال الأكثر إلحاحًا هو، “لماذا لا تحاسب تركيا؟ لماذا لا يتوقف هذا القتل؟ هل لأنها دولة ذات نفوذ، وعضو في حلف الناتو، وتتمتع بعلاقات استراتيجية مع القوى الغربية؟ هل لأن مصالح الدول الكبرى تجعل من الصعب على المجتمع الدولي أن يتحرك بشكل حاسم ضدها؟ لكن، هل يمكن أن نغض الطرف عن الدماء التي تُراق؟ هل يمكن أن نغمض أعيننا عن الأطفال الذين لا ذنب لهم سوى أنهم وُلدوا في هذه الأرض المنكوبة بالحروب والاقتتال؟”.
كلما وقع هجوم على مدنيين، تتجدد فينا الأسئلة نفسها، ومعها الأسى والحزن. نعم، قد يدين المجتمع الدولي هذه المجازر، قد تصدر بيانات تعبر عن القلق، ولكن إلى متى ستظل هذه التصريحات حبرًا على ورق؟ ماذا عن الأفعال؟ ماذا عن ردود الفعل التي تُوقف هذه الوحشية؟ أين هي الإجراءات التي يجب أن تضمن أن هؤلاء الأطفال لن يُقتلوا مرة أخرى؟ أين هو العالم الذي نادى بحقوق الإنسان، والذي يفترض أن يحمي الأبرياء من مثل هذه الانتهاكات؟
وتستمر المنظمات الإنسانية في تقديم العون، في محاولة جبر الأضرار، لكن هناك جرحًا أكبر من أن يُشفى بكلمات أو مساعدات. هذا جرح الأمل المفقود، جرح الطفولة الضائعة، جرح المجتمعات التي ترزح تحت وطأة الموت والدمار. ولا أمل في الشفاء حتى يتحمل المجتمع الدولي مسؤولياته الحقيقية، حتى يوقف هذا النزيف المتواصل من الأرواح البريئة.
فما حدث في قرية قومجي وبرخ بوطان ليس مجرد حادث عابر، بل هو جريمة حرب، جزء من سلسلة لا تنتهي من المذابح التي راح ضحيتها مدنيون أبرياء، لا علاقة لهم بأي نزاع أو صراع سياسي، ومع ذلك، تبقى أصوات هؤلاء الأطفال صامتة في السماء، رغم أن العالم لم يتحرك لحمايتهم.
لا يمكن أن نتخيل أن يبقى العالم مكتوف الأيدي أمام هذه الفظائع. لا يمكن أن يمر هذا الواقع دون أن يتحرك المجتمع الدولي لوقف المجازر، لضمان محاسبة من تسببوا في هذه المآسي، وإلا سنظل نشهد يومًا بعد يوم المزيد من الفقد، والمزيد من الألم.