صلاح الدين مسلم
تشهد المنطقة موجة سلام غامضة حذِرة بين الأطراف الكردية والتركية والعربية، إلّا أن هذه الموجة محفوفة بالمخاطر، إذ تتأرجح بين تيارين متضادين: دُعاة السلام، وإن كانوا مضطرين إليه، ودعاة الحرب الذين يشكلون الأغلبية، هذه الثنائية تفرض واقعاً معقداً، حيث لا يُنظر إلى السلام كخيارٍ استراتيجي بقدر ما يُنظر إليه كتكتيك مرحلي، يخضع لتوازنات القوة والمصالح السياسية والاقتصادية.
يعود تمسك بعض الأطراف بالحرب إلى عوامل متعددة، منها التنشئة الثقافية القائمة على الصراع، والمصالح الشخصية التي تعززها ظروف الحرب، فضلاً عن النشوة التي تمنحها السلطة في أوقات النزاع. إن الحرب، بالنسبة لكثيرين، ليست مجرد مواجهة عسكرية، بل هي منظومة فكرية تمنح أتباعها شعوراً بالهوية والهيمنة، ومن المفارقات أن أكثر من يدعو إلى الحرب هم أولئك الذين يعيشون في أمان بعيداً عن ساحات المعركة، بينما يكون السلم مطلباً أساسياً لمن يعايشون أهوالها بشكلٍ يومي.
أما دعاة القومية المتشددة البدائيّة الضيّقة، فهم الأكثر تحريضاً على الحرب، حيث تُختزل هوياتهم السياسية في فكرة التفوق العرقي أو الثقافي، مما يجعلهم غير قادرين على تصور مستقبل لا تحكمه الصراعات المسلحة. وبالمقابل، فإن الفئات التي تدرك خطورة الحرب، هي تلك القريبة من الميدان والتي تعاني من تبعاتها المباشرة، سواء من الناحية الاقتصادية أو الإنسانية أو حتى النفسية.
ويتسم الفكر في الشرق بالعاطفية، مما أدى إلى غياب نظريات سياسية متماسكة نابعة من المنطقة نفسها، فغالبية الأفكار التنويرية التي أثرت على المجتمعات الشرقية في القرن العشرين جاءت من الغرب. ولهذا، فإن المفكرين القلائل الذين سعوا إلى تطوير مشاريع فكرية محلية، مثل القائد المفكّر عبد الله أوجلان، واجهوا رفضاً داخلياً وقبولاً حذراً في الخارج.
إن أفكار المفكّر عبد الله أوجلان، التي تتجاوز القوميات التقليدية وتسعى إلى بناء مجتمع ديمقراطي تحرري، لم تجد صدى واسعاً بين النخب السياسية التقليدية، لكنها في الوقت ذاته أثارت قلق القوى الإقليمية والدولية، مما أدى إلى اعتقاله عبر تحالف دولي معقد.
كما أن الذهنية الشرقية تعاني من أزمة في التعامل مع السلام كحالة دائمة، حيث يغيب التفكير الاستراتيجي الذي يمكن أن يحوّل الهدنات إلى اتفاقيات طويلة الأمد. في المقابل، تهيمن عقلية المساومات السياسية قصيرة المدى التي تجعل السلام مجرد فترة استراحة بين جولات الحرب.