عبد العزيز قاسم (إعلامي وكاتب صحفي)
لم أزل أفتّشُ بشغفٍ وقلقٍ في صفحاتِ الإنترنت، أتعقبُ خيوطَ الحكاية التي أحاطت بمصرعِ “جين هاكمان”، ذلك العملاق السينمائيّ الذي أضاءَ سماءَ الفنِّ السابع بوهجِ موهبته الخارقة، حينما رحل قبل أسبوعين (في 26 شباط 2025)، عن عمرٍ ناهزَ الخامسةَ والتسعين. كان خبرُ وفاتِه صاعقةً، لكن ما زادَ من وقعها على النفسِ تلك الملابساتُ المأساويةُ التي أحاطت برحيله، والتي بدت كأنها مشهدٌ ختاميّ كُتبَ بأسلوبٍ دراميٍّ فاجع، يليقُ برجلٍ أتقن أدوارَ الأشرار حتى ظنّ البعضُ أنه يعيشها.
في منزلهما الهادئ بمدينةِ “سانتا في” بولايةِ “نيو مكسيكو”، عُثر على جثّةِ “هاكمان” وزوجه، عازفةِ البيانو “بيتسي أراكاوا”، وكلبهما الوفيّ الذي لم يُفارقهما حتى الموت. تسابقت التفسيراتُ بين الشائعات؛ البعضُ زعم أن ثمةَ انتحارًا مزدوجًا، وآخرون أشاروا إلى شبهةٍ جنائيةٍ تُنبئ عن مؤامرةٍ خفيّة. كان من الصعبِ تصديقُ أن الرجلَ الذي أدّى دورَ الشريفِ الصارم والقاتلِ البارد في فيلم (Unforgiven)، يمكنُ أن يموتَ بهذهِ البساطة، وهو الكابويّ الذي أردى الجميعَ برصاصه.
انكشف الستارُ عن الحقيقةِ قبل يومين؛ تبيّن أن “بيتسي”، تلك الروحَ الرقيقةَ التي أفنت سنواتها في كنفه، قد أُصيبت بفيروس “هانتا” النادر، ذلك السّم الصامت الذي انتزعها من الحياةِ في لحظةٍ غادرة، بينما كان “هاكمان” يعيشُ لُجّةَ الزهايمر، ذلك الضبابُ الكثيفُ الذي سلبَ منه وعيه وذاكرته، فلم يُدرك أن شريكتَه قد قضت، وعاش أسبوعًا كاملاً بعد رحيلها، كشبحٍ يتأرجح بين الحياة والموت، لا يعرفُ كيف يأكلُ أو يقضي حاجته أو يتناولُ أدويته، حتى أسلم قلبَه المنهك روحه للأبد، تاركًا الكلب الأمين في قفصه، يئنُّ جوعًا وعطشًا حتى نفق، مُلتحقًا بصاحبيه في سفرٍ لا عودةَ منه، وكأن القدرَ أراد أن يُكملَ لوحةَ المأساةِ بألوانها القاتمة.
عندما قرأتُ النهايةَ؛ تقلّصت ملامحي، وارتجف قلبي، وكفّي تضربُ كفًّا في نوبةٍ من الذهول والغضب الممزوجِ بالحسرة. أين أبناؤه الثلاثة – كريستوفر، وإليزابيث، وليزلي – من هذا الأب الذي رسّخ كارزميّته وعملاقته في كلّ العالم؟ أَيُعقلُ أن تمرَّ أيامٌ طوال، أسبوعان أو ثلاثة، دون أن يطرقَ أحدهم بابَه أو يسألَ عنه؟ وأين الجيران، أولئك الذين كانوا يومًا شهودًا على أنفاسه وحركاته؟ هل خذله الجميع، أم أن الزمنَ قد أدار ظهره لهذا البطلِ الذي كان يومًا رمزًا للقوةِ والجبروت؟ تجاوزتُ الأقاربَ في أسئلتي، فإن عجز الأبناء عن البرّ، فمن يُرجى بعدهم؟ لكن القلبَ يظلُّ يئنُّ، يرفضُ أن يستسلم لفكرةِ أن يُتركَ عملاقٌ كهذا في مواجهةِ الموت وحيدًا، كورقةٍ ذابلةٍ تسقطُ من شجرةٍ نسيها الربيع… وأين؟ في بلادِ الإنسانية، تلك المفردة المظلومة التي وضعوها في أولويةِ دستورهم!
أيقظتني هذه النهايةُ المفجعةُ من غفلتي، لأيَمِّمَ تجاه مجتمعنا، أتأمَّلُ في نسيجه، وأدعو الله راجيًا أن يُديمه نعمةً وحصنًا. هنا، حيثُ الأبناء -غالبًا- يتسابقون لاحتضانِ آبائهم، يسكنون معهم تحت سقفٍ واحد، خشيةَ أن تسرقَ الوحدةُ منهم لحظةً من أنفاسهم. كم من أبٍ مُسنٍّ وأمٍّ عجوزٍ وَجَدا في مبادراتِ أبنائهما عزاءً، للدرجةِ التي يزوّجون الأبَ بمن تملأ عليه فراغه، وتحنو عليه إن فقد زوجه، ولا يتركون الأمَّ دقيقةً وحدها، بينما الأسئلةُ اليومية -خاصةً من البنات – تتراقصُ كأنغامٍ عذبةٍ في أسماع الآباء، والأيدي تتسابقُ لخدمتهم بحبٍّ لا يعرفُ الكلل.
إنه برٌّ متوارث، كالجينات، لا نكادُ نرى فيه استثناءً، وإن تفاوت البرُّ بين الأبناء، فإن جذوره ضاربةٌ في أعماقنا، محمولةٌ على توجيهٍ ربَّانِّيٍ كريمٍ: “وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا”، موجّهةً إلينا، خاصةً في شيخوختهم، عند اشتعال الرأس شيبًا، وتراخي الجسد، حيث يغدو العطاءُ لهم عبادةً وجنّةً.
ماذا أقول وأنا أتلمّظُ فجيعةً، متأملًا مصيرَ ذلك الممثل الذي أذهلنا بأدواره في (The French Connection) و(Mississippi Burning)، ثم انتهى إلى ظلمةِ الإهمال؟ يا سادة: ارفعوا أكفّ الشكرِ لله على نعمةِ الأبناء، وألحّوا في الدعاء أن يجعلهم من البارّين الصالحين. بادروا ببرِّ آبائكم ما دامت أنفاسهم ترفرفُ بينكم، فكما تُروون عروقهم اليوم بالحبِّ والعناية؛ ستجنون من أبنائكم غدًا ثمار الوفاء، وكلنا يُدرك بأنَّ البرَّ والعقوق دَينٌ يُقضى في الدنيا قبل الآخرة. لا تتركوا آباءكم يتجرّعون مرارةَ الوحدة، فما أصعب أن يموتَ المرءُ دون أن تُمسكَ يدَه يدٌ دافئة، أو تُغلق عينيه عينٌ دامعة.
الحمدُ لله ألف مرةٍ على أُسرٍ متلاحمة كالحصون، والله أسأل ألا يزحف إلينا ذاك السرطان المجتمعي الذي سربلَ الغربَ وفتك به، داء التفككِ الذي يُحوّل الأبناءَ إلى ظلالٍ عابرة، ويترك الوالدين يُواجهون الرحيل وحدهم، كأنهم لم يكونوا يومًا شجرةً وارفة الظلال، استظلّوا تحتها، وأحال أبطالهم إلى جثثٍ منسية، فلا نذوقُ مرارة الوحدةِ التي تُطفئ الأرواح قبل الأجساد.
وتبقى صرخةُ الضمير تتردّد: أين إنسانيتهم حين يتركون أيقوناتهم للموتِ بصمتٍ، ودون شهودٍ؟