عبد الرحمن ربوع
منذ سقوط نظام الأسد أُثير الكثير من الكلام حول الحوار الوطني، وهو مصطلح أدخلته البعثة الأممية إلى سوريا للتقريب بين النظام والمعارضة، خصوصًا بعد عام 2018، بعد نجاح روسيا وتركيا وإيران في “أستانة” بإقناع المجموعات المسلحة بتسليم سلاحها، ووقف الأعمال العسكرية، وإجراء “مصالحة” مع النظام أو النفي الطوعي إلى إدلب وحلب.
كما أكد اجتماع اللجنة الوزارية العربية في العقبة يوم 14 كانون الأول 2024 على ضرورة الوقف الفوري لجميع العمليات العسكرية في سوريا واحترام حقوق الشعب السوري بكلِّ مكوناته. مبينًا إن “المرحلة الحالية تستوجب حوارًا وطنيًا شاملًا، وتكاتف الشعب السوري بكل مكوناته وأطيافه وقواه السياسية والاجتماعية”.
وكان من الطبيعي إن العملية السياسية التي ترعاها الأمم المتحدة بين المعارضة والنظام تستوجب وجود حوار موسّع ومفصّل قبل الشروع بإجراءات العملية الانتقالية المبنيّة على أساس القرار 2254. كما تم بناء مبادرة اجتماع العقبة بعد سقوط النظام على نفس الأساس لعدة أسباب، أولها وأهمها إن اللجنة الوزارية العربية لم يكن لديها أي تصوّر موحّد لحل الأزمة السوريّة أو للتعامل مع سوريا سياسيًا ودبلوماسيًا، لا قبل سقوط نظام الأسد ولا بعده، وكان الجميع يستعمل ديباجة موحدة: لا نتدخّل في الشأن السوري، على السوريين حل أزمتهم الداخلية بأنفسهم، ونحن مع وحدة سوريا أرضًا وشعبًا.
وكان لكل دولة عربية وغير عربية، معنية بالشأن السوري، ويهمها إنهاء الحرب، وتعافي سوريا، وإعادة بناء العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية معها وجهة نظر خاصة مبنيّة على ظروف كل دولة، وكل نظام حاكم في هذه الدول، وطبيعة ومدى تأثره بالأزمة السوريّة، وما ترتب عن هذه الأزمة من خلل أمني يهدد أمن واستقرار منطقة الشرق الأوسط ككل، حيث تحولت سوريا إلى أكبر مصدر للمخدرات وللإتجار بالبشر والإرهاب، وأصبحت الأزمة السوريّة أزمة عالمية تعاني منها الكثير من الدول، كما عانى منها النظام الدولي ومنظومة الأمم المتحدة بكل مؤسساتها ومنظماتها واستنزفت الكثير من الموارد.
وبسبب رغبة سلطة دمشق الحالية ورئيسها في التجاوب الإيجابي مع الأمم المتحدة والبعثة الأممية، لأن كل الوفود الأوروبية والأمريكية التي التقته “نصحته” بالتعاون مع المبعوث الأممي غير بيدرسون، لأنه الأقدر على ربط سوريا بالمجتمع الدولي، ونقل الرسائل من وإلى سوريا. كما نصحوا بالاستفادة مما اشتغلت عليه البعثة الأممية خلال عشر سنوات من ملفات متعلقة بالسلم الأهلي والحوار المجتمعي واللجنة الدستورية ومكافحة الإرهاب والحكومة الانتقالية، لأن هذه الملفات تمت صياغتها بناءً على الكثير من الجهود التي شارك فيها سوريون خبراء في هذه المجالات، وسيوفرون على الحكومة المؤقتة الكثير من الوقتِ والجهد.
لكن، ولأن العديد من السوريين، وليست سلطة دمشق أو رئيسها فقط، يرفضون الوصاية الأممية على سوريا، ويفضلون إدارة المرحلة الانتقالية بملكية سوريّة خالصة؛ تم تحييد البعثة الأممية عن إدارة المشهد في سوريا، والاكتفاء بغير بيدرسون وفريقه كمستشارين “مرحب بهم” في دمشق، يقدمون النصائح، وينقلون الرسائل، ويصدرون تقييمهم عن سوريا للمجتمع الدولي، دون أي تدخّل مباشر أو غير مباشر.
ولأن بيدرسون والعديد من الوفود الأجنبية والمحلية أكدوا مرارًا على ضرورة الحوار السوري كطريق لتعافي سوريا بعد الحرب، ولتقريب وجهات النظر بين السوريين “المتحاربين”.. تم تأسيس لجنة تحضيرية لإجراء حوار وطني في سوريا للتأكيد للمجتمع الدولي أن الحكومة المؤقتة والحكومة الانتقالية اللاحقة ستقومان بواجبهما “الوطني” في رعاية حوار وطني يُفضي إلى السلم الأهلي والمجتمعي المنشود، وينهي سنوات طويلة من الاحتراب والتحريض والتمييز والكراهية.
لكن، لأمر ما، تم أخذ الحوار الوطني إلى منطقة أخرى بعيدة كل البُعد عن أسس الحوار الوطني وأسبابه ومرتكزاته المفترضة، وتم تحويله إلى حوار بين مؤيدي السلطة الحالية فقط حول مواضيع هامشية لا علاقة لها بالحوار، ولا بالوطنية. وكلها في المجمل نقاشات حول مطالب فئوية تتعلق بالخدمات المعيشية، وفي أحسن الأحوال ناقشت موضوع العدالة الانتقالية، لتقنين التعامل مع الأطراف الأخرى “غير المشاركة” في الحوار الوطني الدائر.
وقد تم استبعاد العديد من القوى السياسية والعسكرية وإقصاء مكونات مجتمعية تحت شعار: استبعاد كل من تلوثت يداه بالدم السوري، وكأن مؤيدي السلطة الحالية كلهم حمائم سلام، ولم يرتكبوا أي جريمة، مع أن كثيرين منهم يمكن اتهامهم، على الأقل، بجرائم لا حصر لها مثل جرائم التحريض والكراهية والعنصرية والتعصب الديني والعرقي والتمييز الجنسي والديني والقومي، وكلها جرائم تعاقب عليها القوانين الوطنية والدولية.
فعن أي حوار نتكلم، هل هذا الحوار قادر بالفعل على تحقيق الغرض منه؟ وما فائدة أن يتحاور مع أشخاص متوافقين فكريًا وسياسيًا وينتمون في مجملهم إلى طيف واحد من الشعب كان قبل “8 كانون الأول 2024” يدعم المعارضة وينشط في الثورة، واليوم يجد نفسه في صف سلطة الأمر الواقع القائمة؟ فلماذا الحوار إذًا؟ وهل تقديم مقترحات للحكومة الحالية أو للرئاسة يقتضي حوارًا مجتمعيًا تقوم به فئة محددة من الشعب، نسبة كبيرة منها لا تؤمن بالحوار أصلًا، وتصنِّف الآخرين على أنهم كفار أو عملاء أو انفصاليين.. وتضع كل الحاضنة الشعبية للنظام السابق في موضع الاتهام، فيما هي تمارس اليوم نفس ما كانت تلك الحاضنة تمارسه وربما أكثر.
باختصار.. لا أعتقد إن “الحوار الوطني” الحالي يمكن أن يُفضي إلى شيء إلا بعض التوصيات التي تُرفع لمقام الرئاسة للنظر فيها لتتم صياغة بيان أو خطاب يلقيه الرئيس بعد عدة أسابيع، ويعلن فيه التزامه بتحقيق كل المطالب التي تم تقديمها من توصيات مؤتمر الحوار الوطني، دون أن يكون لهذا المؤتمر أي دور فاعل أو مؤثر في إدارة المشهد السياسي في سوريا في هذه المرحلة كما يتوهم البعض. اللهم إلا إذا تجرأ أو تشجع مؤتمر الحوار الوطني الحالي وأوصى بعقد مؤتمر “حقيقي” للحوار الوطني، يُشرِك فيه كل مكونات المجتمع السوري، للوصول إلى صيغة عيش مشترك، وعقد اجتماعي جديد لكل السوريين، يقطع العلاقة مع الماضي المؤلم في ظل النظام البائد، ويؤسس لدولة مواطنة ونظام حكم رشيد يحترم كل السوريين ويشارك فيه كل السوريين.