سيّد أحمد رضا
في كتابه الصادر حديثًا «عمتكم النخلة، أم الكرم والخير»، يقتبس الكاتب والصحفي إبراهيم بشمي، عنوانه من حديث «أكرموا عمتكم النخلة»، الذي يجعل منها كائنًا متميزًا عن غيرها من الشجر، وهو ما يكشف عنه المؤلف من خلال ستة فصول يسرد فيها العلاقة العضوية، والرمزية، والثقافية، والتاريخية، التي تجمع المجتمع البحريني والعربي بهذه الشجرة، التي تمثل بحضورها وتجلياتها ومنتجاتها إرثًا عريقًا متصلاً بمختلف أبعاد إنسان المنطقة.
يأخذ الكتاب، الصادر مؤخرًا عن (هيئة البحرين للثقافة والآثار) بطباعة فاخرة، منحًا إبداعيًا من خلال السرد القصصي الذي انتهجه بشمي آلية لكسر جمود اللغة العلمية الرتيبة، مستعينًا بلغةٍ سردية تمتاز بالتشويق والإثارة. فيأخذ القارئ في رحلة ثرية بالمعلومات والاستشهادات، ما يجعل الكتاب مشرعًا فنيًا حيث نفذ برؤية جمالية من إخراج وتنفيذ الفنانة زهراء الشيبة، ورسوم للفنانة روان الحوسني، بالإضافة للوحة الغلاف للفنان راشد العريفي.
سرد يتقصّى الحياة النخيلية
يبدأ بشمي كتابه بنصٍ مقتبسٍ للإمام أبي حامد الغزالي، يفصل فيه النخلة وعطاءاتها ورحلتها، لينطلق في سرد الحكاية، التي تزود القارئ بجمٍ من المعلومات التي عمل على جمعها وإعادة صياغتها سرديًا، حيث النخلة هي الصوت الروائي الذي يكشف من خلال فصول الكتاب مختلف المناحي المرتبطة بشجر النخيل؛ من مكوناتها، وآليات التعامل معها، وتقنيات زراعتها، وتفاصيل حياتها في الأرض، والبيئة الطبيعية لها، وصولاً لانتقالاتها، وفصل الفسيلة عن أمها، والتطورات التي شهدتها على مر الزمن، بالإضافة للمنتجات التي تقدمها، وتاريخها عبر الحضارات، وحضورها في الأمثال، والفنون، والشعر.
هذه النظرة الشاملة تجعل الكتاب كتابًا موسوعيًا فريدًا من حيثُ أسلوب الصياغة، إذ لم يستخدم بشمي التقليد الجامد في كتابة الموسوعات، بل جعل الكتاب حكاية تتفرع فصولها بتفرع عطاءات النخلة وتعددها، ولهذا يلفت بشمي «إلى أن اللغة السردية القصصية التي استخدمتها في الكتاب، بعيدة عن التقعيد، لجعله كتابًا في متناول مختلف الفئات العمرية»، مشيرًا إلى أن الكتاب صالح لمختلف الفئات العمرية، إذ يقول ضاحكًا: «كنت أنوي تحديد الفئة العمرية المناسبة من 9 إلى 99 سنة، لكني نسيتُ وضع هذه الملاحظة على الغلاف!».
مشروع بحثي ممتد لأكثر من عقدين
بدأ بشمي في مشروع كتاب «عمتكم النخلة» في العام 2002، بيد أن الظروف لم تسعفه لإنجازه آنذاك، فتوقف لأكثر من عقد، «بعدها استأنفت اشتغالاً بحثيًا تقصيت من خلاله عن مختلف المناحي المتصلة بالنخلة على مدى ثلاث سنوات، لأعيد قولبة المعلومات وصياغتها، لإنجاز هذا الكتاب الموسوعي»، والذي صدر في 327 صفحة من القطع الكبير. وفي هذا السياق، يلفت بشمي: «اضطررت لحذف 50 صفحة، كنتُ أتناول فيها قصة مؤتمر دولي خيالي عن النخلة»، وذلك مراعاةً للحجم الإجمالي النهائي للكتاب.
وقد خصص بشمي الفصول الستة لتغطية مختلف المناحي، فبالإضافة للجوانب التقليدية المتعلقة بالنخلة وزراعتها ومنتجاتها وما يستفاد منها، يخصص بشمي فصلاً بعنوان «قالوا في الأمثال»، يجمع فيه الأمثال العربية المتصلة أو المستوحاة من النخلة، بالإضافة للأمثال الشعبية في البحرين، ودول الخليج العربي، والعراق، ومصر، وتونس، مقدمًا شروحًا لمعاني الكلمات العامة، ومغزى المثل.
وفي فصل «جيوغرافيكا الشعر»، يمرّ بشمي على ذكر النخلة في الشعر على مر العصور، من الأغاني البابلية وصولاً للشعر المعاصر. فيما يذهب في فصل «النخلة والفنون»، للكشف عن حضور النخلة في الفنون التشكيلية، واستلهامها في العمارة، والزخرفة، والديكور، والتطريز، ليقدم نظرةً شاملةً تغطي مختلف المناحي المرتبطة بهذه الشجرة التي ارتبطت ارتباطًا عضويًا وثقافيًا بإنسان المنطقة، فأضحت جزءًا من طعامه، وثقافته، وتاريخه، وتراثه…
«متحف في كتاب»
يعنون بشمي أحد فصول كتابه بـ«متحف في كتاب»، بَيد أن الكتاب بكامله يمثل متحفًا حقيقيًا نظرًا للاشتغال الفني الذي اتسق مع النص، لكنهُ في هذا الفصل يسرد سيرة لنخلة وحضورها في مختلف الحضارات الكبرى، عبر حوارٍ بين علماء التاريخ والآثار من مختلف الحضارات، ليصل إلى مكانة النخلة في الحضارة الدلمونية، حيث «وضع الدلمونيون أطراف سعف النخيل مع موتاهم رمزاً للإله (إنزاك) ليرعاهم عند انتقالهم إلى العالم الآخر»، منتقلاً إلى مكانتها في الحضارة السومرية، والفرعونية، والإغريقية.. وصولاً إلى تمثلاتها اليوم في موطنها الأم الجزيرة العربية، وانتقالاتها لبعض الأمكنة الأخرى في عصورٍ لاحقة.
كما لا يهمل بشمي جانب ما تعانيه النخلة، إذ يخصص الفصل قبل الأخير «صراع في البستان»، لتناول الآفاق والأمراض التي تتعرض لها النخلة، وأعداؤها الطبيعيون. ليودع القارئ في الفصل الأخير بالجانب الجمالي المتعلق بتوظيف النخلة وموتيفاتها في مختلف مناحي الفن، كما أسلفنا.