صبري يوسف (أديب وتشكيلي سوري)
بنى الرِّوائي والمخرج اليمني حميد عقبي روايةَ “طفل الميزان” ، على إيقاعٍ سرديٍّ رصينٍ في آفاقِ الحوارِ والبناءِ الفنِّي المتماسكِ، والّتي صدرَتْ حديثاً عن دار الدَّراويش للنشر والترجمة، وقد اعتمدَ في بِناءِ عالمِهِ الرِّوائي على لُغةٍ سَلسةٍ سَهلةٍ، مُعبِّرةٍ، وجنحَ نحوَ بناءِ مشاهدَ تتقاطعُ مَعَ رؤيةٍ سينمائيّةٍ سرديّةٍ مُوغلةٍ في جُموحاتِ خيطِها السَّرديِّ الَّذي تَنامى بطريقةٍ مُشوِّقةٍ في تشابُكاتِ أحداثِ الرِّوايةِ، ومَحبوكةٍ بتدفُّقاتٍ سلسةٍ في سيرِ أحداثِ الرِّوايةِ، مُركِّزاً على حِوارٍ عميقٍ بَينَ شَخصيّاتِ الرِّوايةِ، ومُتوغِّلاً في تفاعُلاتِ أحداثِ السَّردِ بأسلوبٍ مُتناغمٍ مَعَ تنامي خيوطِ الحِوارِ، وكأنَّنا نحضرُ فيلماً سِينمائيَّاً، حيثُ تمكَّنَ مِنْ تصويرٍ أدقِّ المُشاهدِ والأحداثِ لحظةً بلحظةٍ، ولَمْ يغفلْ دقائقَ المشاهدِ بكلِّ ما فيها مِنْ تفاصيلَ، وأعطى للأحداثِ حقَّها في تداخُلاتِ عوالمِها وكأنَّهُ يكتبُ روايتَهُ على إيقاعِ سيناريو لفيلمٍ سينمائيٍّ عميقِ الرُّؤيةِ، بكلِّ ما في أحداثِ الرِّواية مِنْ تجلِّياتٍ مُعبِّرةٍ، حيثُ نراهُ كيفَ قطَّعَ الفصلَ الأوَّلَ إلى اثني عشرَ مَشهداً، وأيضاً بقيّةَ الفصولِ تَخلَّلها مشاهدُ بعناوينَ مُتنوِّعةٍ، وأعطى لكلِّ مَشهدٍ عنواناً فرعيَّاً، يصفُ فيهِ وقائعَ سيرِ الأحداثِ بكلِّ رهافةٍ وترميزٍ زاخرٍ بالمَعاني.
أطلقَ الرِّوائيُّ على الشَّخصيَّةِ المُحوريّةِ للروايةِ اسمَ عبدالحميد، وهو اسمٌ مرتكزٌ على اسمِ الرِّوائي (حميد)، وكأنَّهُ يتحدَّثُ بطريقةٍ ما عَنْ نفسِهِ، وتتقاطعُ عوالمُ وآفاقُ هذهِ الشَّخصيّةِ مَعَ شخصيَّةِ الرِّوايةِ، لهذا نراهُ يُسقِطُ الكثيرَ مِنَ الاسقاطاتِ والتَّرميزاتِ على هذهِ الشَّخصيّةِ، وعلى شخصيَّاتِ روايتِهِ، مِنها زوجتُه سرية، الّتي تَحمَّلَتْهُ كثيراً، مَعَ أنَّهما تزوَّجا عَنْ حبٍّ، وامتلَكَتْ ابنتُهُ رقيّة طاقاتٍ مُدهشةً في رؤاها وتوقُّعاتِها وتواصُلها، ومخاطرها المُدهشةِ، وابنُهُ عبدُ السَّلامِ كانَ يحبُّ طفلَ الميزانِ، الَّذي كانَ يرمزُ إلى الأطفالِ المُندفعينَ إلى تحقيقِ طلباتِهم حتَّى وإنْ قادَتْهم إلى التَّضحيةِ بأنفُسِهم دِفاعاً عَنْ تحقيقِ رغباتِهم، وقَدْ أعطى الرِّوائيُّ أدواراً مُناسبةً لزوجتِهِ وابنتِهِ وابنِهِ ولكلِّ شخصيّاتِ روايتِهِ بأسلوبٍ مُشوَّقٍ، وفيما هو في أوجِ توجُّساتِهِ وتساؤلاتِهِ، التقى مَعَ صديقِهِ سعد بعدَ انقطاعٍ طَويلٍ، وتوقَّعَ أنْ يكونَ مِنْ قِبلِ السُّلطةِ السِّياسيّةِ، لكنَّهُ تبيّنَ لَهُ أنَّهُ أرادَ أنْ يلتقيَ بِهِ لأنَّهما أصدقاءُ مُنذُ أيَّامِ الدِّراسةِ. وبعدَ لقائِهِ معَهُ تبيّنَ أنَّ أهدافَهُ بعيدةٌ عَمَّا توجَّسَ أنْ تكونَ حولَ قضايا سياسيّةٍ، وقد طلبَ مِنهُ أنْ يُخرِجَ لَهُ فيلماً عَنْ طِفلِ الميزانِ، ثمَّ عرّفَهُ على فتاةٍ جميلةٍ اسمها سمر، وتوطَّدَتِ العلاقةُ بينَ عبدِ الحميدِ وسَمر، واستطاعَ الرِّوائيُّ أنْ يُمسِكَ بخيوطِ روايتِهِ بمهارةٍ ودقَّةٍ بكلِّ تشعُّباتِها، حيثُ تمكَّنَ مِنْ أنْ يحقِّقَ توازناً فيما بينَ شخصيَّاتِ الرِّوايةِ الَّتي تمحورَتْ حولَ واقعِ اليمنِ وحروبِهِ المدمِّرةِ وتشظِّياتِ الأوضاعِ، كما سلّطَ الضَّوءَ على العلاقاتِ الأسرويَّةِ والعاطفيّةِ أيضاً.
ترتكزُ الرِّوايةُ على طِفلِ الميزانِ الَّذي حملَ عنوانَ الرِّوايةِ، ولَمْ يظهرْ لنا خلالَ سَردِ الرَّوايةِ، لكنَّهُ ظهرَ كرمزٍ مِنْ رموزِ الأطفالِ، الّذينَ ضحَّوا بأنفُسِهم في سبيلِ تحقيقِ بعضِ أمانيهم حتَّى وإنْ قدَّموا أنفُسَهم ضحيةً لغيرِهم، وأصبحَ طفلُ الميزانِ أحدَ محاورِ ورموزِ هذا العملِ، وقدْ جسَّدَ الرِّوائيُّ دورَهُ ببراعةٍ فائقةٍ، مِنْ خلالِ الإشارةِ إليه عبرَ الأطفالِ الَّذينَ اقتدوا بِهِ، ومنهم ابن عبد الحميد نفسه، عبد السلام.
تمكَّنَ الرِّوائي أنْ يعطيَ للزمانِ والمكانِ حقَّهما في سيرِ الأحداثِ، وانتقل بخيوطِ الأحداثِ بطريقة بارعةٍ، ومُتناغِمةٍ، وحقَّقَ نجاحاً في تقنيةِ القطعِ، والانتقالِ مِنْ مشهدٍ إلى آخرَ، ومِنْ حدثٍ إلى آخرَ، فكانَ يقودُ خيوطَ الحوارِ والأحداثِ بشكلٍ متوازنٍ، ومَدروسٍ، وكأنَّهُ يصوِّرُ لنا فيلماً سينمائيَّاً في نقلِ مَساراتِ الأحداثِ، وقَدْ ساعدَتْهُ أنْ يحققَ نجاحاً في هذا المنحى خِبراتُهُ العميقةُ في فضاءِ الإخراجِ والسِّيناريو والتَّمثيلِ، مِمَّا جَعلَهُ يُعمِّقُ حيثياتِ الحوارِ والحركةِ والانتقالِ مِنْ مشهدٍ إلى آخرَ بمهارةٍ عاليةٍ.
سلّطَ الرِّوائيُّ قلمَهُ على واقعِ اليمنِ الغائصِ في الصِّراعاتِ والحروبِ، وركّزَ على ضَرورةِ أنْ يحملَ المُبدعُ والمُفكِّرُ ونخبةُ المجتمعِ فوقَ أجنحتِهم بُعداً إنسانيَّاً، بعيداً عَنِ الانحيازِ للسلطةِ السِّياسيَّةِ القمعيّة، وضَرورةَ أنْ يكونَ للمبدعِ دورٌ وئاميٌّ بالوقوفِ في وجهِ الحروبِ، حتَّى وإنْ كانَ لديهِ شططٌ ما في موقفٍ ما، ونزوةٌ ما ضمنَ ظرفٍ ما، ولكنْ عليهِ ألَّا يتمادى في شططِهِ ونزواتِهِ، ويحافظَ على نفسِهِ ومواقفِهِ وأسرتِهِ، مُتجنِّباً الانجرافَ نحوَ حَلبةِ الصِّراعاتِ وتسلُّطِها على رقابِ الشَّعبِ البريءِ، وزجِّها في حروبٍ فتاكةٍ، ففي المعاركِ يخسرُ المتصارعين والمتحاربين، ولا يكتشفونَ هذهِ الخسائرَ المريرةَ إلَّا بعدَ فواتِ الأوانِ. كما انتقدَ الرّوائيُّ نهجَ الحربِ والعنفِ والصِّراعاتِ مِنْ خلالِ عدمِ انجرافِهِ إلى عوالمِهم رغمَ ما لدى المُنجرفينَ لمراكزِ السُّلطةِ والقرارِ الكثيرُ مِنَ الإغراءَاتِ والمميّزاتِ الّتي يحصلونَ عليها مِنْ خلالِ مراكزِهم وسلطتِهم، وقَدْ كانَ ضدَّ هذهِ المُمارساتِ الَّتي تؤثِّرُ سلباً على المواطنِ الفقيرِ الَّذي لا حولَ ولا قوَّةَ لَهُ!
تمكّنَ الرّوائي مِنْ أنْ يوزّعَ أدوارَ الشَّخصيَّاتِ، وينهي كلَّ شخصيّةٍ دورَها بطريقةٍ مُناسبةٍ وموائمةٍ لمسارِ بناءِ عالمِهِ الرِّوائيِّ، فقَدْ قُتِلَ سعدُ في جبهاتِ القتالِ والحربِ أثناءَ أداءِ مهمَّتِهِ الرَّسميّةِ، وكانَ قَدْ سلَّمَهُ مَبلَغاً كبيراً مِنَ المالِ قبلَ أنْ يلتحقَ بمهمَّتِهِ، وكأنَّهُ شَعرَ باقترابِ أجلِهِ، وأرادَ أنْ يكفِّرَ عَنْ ذنوبِهِ، وربّما شعرَ أنَّ عبد الحميد أولى منه بهذه الفلوس، لأنّه شعرَ أنَّهُ سيوزِّعُها على مَنْ يستحقُّها، وهي أصلاً مِنْ مالِ الشَّعبِ. وقَدْ تمَّ تدميرُ بنايةِ أمِّ البناتِ فماتَتْ جميعُهنَّ، هَلْ هذا المَشهدُ والفكرُ يُشيرانِ إلى رحيلِ المُنحرفينَ والمشتغلينَ بهذهِ الأعمالِ غيرِ الشَّريفةِ، كما تمَّ تدميرُ الفندقِ الفاخر الَّذي كانَتْ فيهِ سمر، بعدَ أنْ أعطَتْهُ كلَّ ما عندها مِنْ مَالٍ، وقدَّمَتْ أجملَ ما عندَها مِنْ حبٍّ لعبد الحميد وعاشَتْ أجملَ الأيَّامِ ولو لأيَّامٍ معدوداتٍ، ثمَّ رحلَتْ، وعادَ عبدالحميد إلى أسرتِهِ، سالماً وخالياً مِنْ أيَّةِ ارتباطاتٍ مَعَ النِّساءِ أو مَعَ أصدقاءَ أو زملاءَ لهم علاقةٌ بالسُّلطةِ، وأقفلَ الرِّوائيُّ الرِّوايةَ بهدوءٍ وسلاسةٍ، وكأنَّهُ يريدُ أنْ يقولَ للمتلقّي لِمَ لا نبني أسَرَنا بعيداً عَنْ لهيبِ الحروبِ وويلاتِ القتلِ والدَّمارِ، ونبني أوطاننا بما فيه خيرُ المواطنِ والوطنِ مَعاً، كفاناً غَوصاً في مَتاهاتِ الحروبِ والخرابِ، حياتُنا قصيرةٌ للغايةِ ولا تَتحمَّلُ كلَّ هذهِ الصِّراعاتِ، ونحنُ نحتاجُ للفرحِ والحبِّ والوئامِ فيما بيننا وفي أوطانِنا وفي أُسرِنا ومَعَ مَنْ يحيطُ بنا. إنَّها روايةٌ مفعمةٌ بالاحتجاج لما حلَّ بأوطاننا مِنْ كوارثَ، ومِنْ هدرٍ لقوتِ الشعبِ، راغباً أنْ يحُلَّ السَّلامُ في ربوع الوطن الملظّى بأتونِ النَّارِ، تضمّنَتْ رحيقَ الشَّعرِ في بعضِ متونِها، وأماني كبيرة، والكثيرَ مِنَ النّقدِ لواقعِ الحالِ، والكثيرَ مِنْ تجلِّياتِ بوحِ الخيالِ!