جلنك عمر
مرّ شهرين على الحملة العسكريّة التي قادتها هيئة تحرير الشام، والتي أسفرت عن الإطاحة بنظام بشار الأسد وفرض الهيئة نفسها حكومةَ أمر واقع في دمشق، ومع ذلك، لا يزال الوضع في شمال وشرق سوريا مختلفاً بشكلٍ ملحوظ، فمنذ ذلك الوقت، صعّدت المجموعات المرتزقة الموالية لتركيا، والتي تُسمّي نفسها “الجيش الوطني السوريّ”، من هجماتها على منطقة سد تشرين، الواقعة على نهر الفرات ما بين كوباني ومنبج، وهدفها انتزاع السيطرة على هذا السد الاستراتيجيّ من قوات سوريا الديمقراطيّة (قسد)، ولكن رغم كثافة هجماتها، بما في ذلك القصف والغارات الجوية التي تشنّها الطائرات التركيّة المُسيّرة والحربيّة، أحرزوا القليل من التقدّم الملموس.
وبالتزامن مع حملة هيئة تحرير الشام ضد النظام السوريّ، والتي بدأت في 27 تشرين الثاني 2024، استغلت مجموعات الجيش الوطني السوريّ حالة الفوضى لاستهداف مناطق انتشار قوات تحرير عفرين وقوات سوريا الديمقراطيّة، وتركزت هذه الهجمات على جيب الشهباء/ تل رفعت شمال حلب – الذي يضم نحو 150 ألف مُهجّر من منطقة عفرين منذ عام 2018 – بالإضافة إلى أجزاءٍ من منطقة منبج، وسرعان ما تقدّم ما يسمى بـ”الجيش الوطني السوريّ” بعد انسحاب قوات تحرير عفرين وقوات سوريا الديمقراطيّة باتجاه نهر الفرات، وحوّل هذا الانسحاب خطَ الفراتِ إلى جبهةٍ ملتهبة لمدة شهرين تقريباً، مع قتال عنيف في موقعين رئيسيين: سد تشرين وجسر قرقوزاق.
استراتيجية تركيا الأوسع نطاقاً لمنعِ الكُرد من لعبِ دورٍ هام في مشهد سوريا السياسيّ مستقبلاً
يتمتع سد تشرين، ثاني أكبر سد في سوريا، بقيمة اقتصادية وعسكريّة كبيرة. فقد اكتمل بناؤه في أواخر التسعينيات، وهو يتحكم في بحيرة اصطناعية توفر مياه الشرب والري والكهرباء لعشرات الآلاف من السكان، خاصةً في كوباني ومنبج، كما أنها تشغل محطات ضخ المياه التي تغذي حلب، ورغم الحصار الذي تفرضه تركيا على نهر الفرات وانخفاض منسوب المياه، لا يزال السد حيوياً للبنية التحتية الإقليميّة، كما أنه نقطة عبور استراتيجية رئيسية على نهر الفرات، ما يجعله جائزة عسكريّة لأي جهة تسعى للسيطرة على شمال وشرق سوريا، حيث حررت قوات سوريا الديمقراطيّة السد من “داعش” عام 2015، ولعب ذلك دوراً محوريّاً في العمليات التالية، مثل تحرير منبج في عام 2016.
وتبرر تركيا عملياتها العدوانية في شمال وشرق سوريا بذريعة مخاوفها المتعلقة بالأمن القوميّ، واصفةً قوات سوريا الديمقراطيّة على أنّها امتداد لحزب العمال الكردستانيّ الذي تعتبره أنقرة “منظمة إرهابيّة”، ورغم إنكار قوات سوريا الديمقراطيّة ومحاولات إشراك المجتمع الدوليّ في استراتيجيتها العسكريّة، إلا أن تركيا تُصِرُّ على استراتيجيتها العسكريّة، ويعتقد كثير من الكرد أن السرديّة التركيّة تهدف إلى منعهم من أن يصبحوا طرفاً سياسيّاً فاعلاً في مستقبل سوريا ومن تحقيق الإدارة الذاتيّة، ويبدو أن النهج الذي تتبعه أنقرة في شمال سوريا هو جزء من استراتيجية أوسع لقمع الطموحات السياسيّة الكرديّة.
وتتجاوز أهداف تركيا مواجهة قوات سوريا الديمقراطيّة، فهي تسعى إلى زعزعة استقرار قوات سوريا الديمقراطيّة والإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، فمن خلال استهداف البنية التحتية مثل سد تشرين، تهدف تركيا إلى شلِّ اقتصاد المنطقة، وتدهور الظروف المعيشيّة، وربما إثارة السخط الشعبيّ، الذي يمكن استخدامه لحشد الدعم للمجموعات المرتزقة الموالية لتركيا أو حتى نظام دمشق، فضلاً عن ذلك، تنظر تركيا إلى النفوذ المتزايد الذي يقوده الكرد في شمال وشرق سوريا على أنّه تهديد لسكانها الكرد، الذين يُقدّر عددهم بنحو 30 مليون نسمة.
إن التكتيكات العسكريّة التركيّة في المنطقة هي جزء من استراتيجية أوسع نطاقاً لتأكيد السيطرة ومنع الكرد من لعب دور مهم في المشهد السياسيّ السوريّ في المستقبل، بالنسبة للكرد، لا يمثل سد تشرين مورداً حيويّاً فحسب، بل يمثل أيضاً رمزاً للمقاومة والبقاء، وسيكون لخسارته تداعيات اقتصادية مُدمّرة، خاصةً بالنظر إلى استخدام تركيا المستمر للمياه والكهرباء كسلاح ضد السكان الكرد، كما أن خطر زعزعة الاستقرار الإقليميّ كبير، ولا يقتصر تأثيره على كوباني فحسب، بل يمتد على طول نهر الفرات حتى الحدود العراقية، كما أن وجود “داعش” والجماعات الأخرى التي تسعى إلى استغلال الفوضى يزيد من تعقيد الوضع.
واشنطن والضغط على أنقرة
ومع ذلك، تواصل قوات سوريا الديمقراطية مقاومتها، وتُظهِر صموداً في مواجهة الهجمات المستمرة، ويُظهر استخدامها للاستراتيجيات العسكريّة مثل الأنفاق والطائرات بدون طيار FPV، المعروفة محليّاً باسم ”بروسك“، قدرتهم على التكيّف والتصميم، ويهدد الصراع الدائر حول سد تشرين بالتصعيد إلى صراعٍ إقليميّ أوسع نطاقاً، ولا يستقطب الجهات الفاعلة المحليّة فحسب، بل الجهات الفاعلة الدوليّة أيضاً، وإذا ما تفاقم الوضع، فقد يؤدي ذلك إلى إعادة إشعال فتيل عدم الاستقرار في جميع أنحاء المنطقة وتأجيج عودة ظهور الجماعات المتطرفة مثل “داعش”، مع ما يترتب على ذلك من عواقب وخيمة على سوريا والعراق وغيرهما.
في هذا السياق المتقلب، يلعب المجتمع الدوليّ – ولا سيما الولايات المتحدة – دوراً رئيسيّاً في التوسط بين تركيا وقوات سوريا الديمقراطيّة لمنعِ المزيد من التصعيد، وقد دعمت الولايات المتحدة قوات سوريا الديمقراطيّة في الحرب ضد “داعش”، ومن مصلحتها منع عودة التطرف في المنطقة.
إنّ الوضع في شمال وشرق سوريا هش، ومن الضروريّ التوصّل إلى حلٍّ دبلوماسيّ مُدارٍ بعنايةٍ لتجنب المزيدَ من الصراع وضمان السلام والاستقرار على المدى الطويل، كما يجب على واشنطن أن تمارسَ الضغطَ على أنقرة لوقف أعمالها العدائيّة تجاه الشعب الكرديّ والسعي إلى حلٍّ سلميّ يحترم حقوقهم وتطلعاتهم.
