علي زاخراني
جاء الإسلام ليقيم حياة قائمة على العدل والرحمة، وحفظ الكرامة الإنسانية، حيث جعل النفس البشرية من أعظم المخلوقات، التي يجب احترامها وصيانتها، وكانت أولى رسائل الإسلام في هذا الشأن واضحة وجلية، حيث قال الله تعالى: “مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا”، حيث تحمل هذه الآية في طياتها تحذيرًا شديدًا من التهاون في قضية الدماء، وتؤكد أن الاعتداء على نفس واحدة بغير حق يعادل في جُرمه الاعتداء على البشرية جمعاء، لما يمثله هذا الفعل من استخفاف بحق الحياة الذي كرمه الله، كذلك، فإن الإسلام ينظر إلى قتل النفس جريمة لا تسقط بالتقادم، وقد جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: “لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم”، فهذا النص النبوي يؤكد أن قيمة حياة الإنسان تفوق كل ما في هذه الدنيا.
الإسلام وحدود القتل المشروع
ورغم تحريم الإسلام للقتل، فإنه وضع ضوابط دقيقة لتحديد الحالات، التي يُباح فيها القتل، مثل القصاص العادل في جرائم القتل العمد، حيث قال الله تعالى: “وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ”، لكن هذه الإباحة مشروطة بتحقيق العدالة، وعدم تجاوز الحدود الشرعية، وهي من اختصاص القضاء الشرعي القائم على مبادئ العدل.
أما خارج هذه الحدود، فإن القتل يُعد من أعظم الكبائر، حيث جاء التحذير شديدًا في قول الله تعالى: “وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ”، وبالنظر إلى هذه الآية الكريمة، نجد أن الإسلام يجعل سفك الدماء بغير حق من خصال الكافرين والفاسقين، ويتوعد مرتكبيه بالعذاب الشديد.
ما يجري في سوريا.. مشاهد الألم والمأساة
وعلى مدار السنوات الماضية، كانت سوريا مسرحًا لمأساة إنسانية مروعة، حيث انتشر القتل وسفك الدماء على يد أطراف متعددة، من بينها المرتزقة والجماعات المسلحة التي تستهدف المدنيين الأبرياء. كانت هذه الدماء التي سالت شاهدًا على غياب الرحمة والإنسانية، وتجاوز حدود الدين والأخلاق.
فالجرائم التي تُرتكب بحق المدنيين في سوريا هي جرائم مروعة بكل المعايير، حيث يتم استهداف الأطفال والنساء والشيوخ بلا وازع من ضمير. ومن المؤسف أن هذا النزيف البشري يقف وراءه أجندات دولية وإقليمية، تدفع المرتزقة والجماعات المسلحة لتدمير النسيج الاجتماعي السوري وإشاعة الفوضى.
وتُعد هذه الانتهاكات اعتداءً صريحًا على القيم الإنسانية والدينية، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه” [صحيح مسلم]. وبالنظر إلى ما يحدث، نجد أن من يشارك في قتل الأبرياء وتشريدهم يخالف صريح هذا الحديث النبوي، ويضع نفسه في مواجهة مباشرة مع الله ورسوله.
الموقف الشرعي والإنساني من هذه الجرائم
من واجب المسلمين أن يقفوا وقفة جادة أمام هذه الجرائم، ليس فقط بالكلمات، بل بالأفعال، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: “من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان”، فإن المذابح التي تحدث في سوريا تستوجب من الأمة الإسلامية أن تتحرك لإنقاذ الأرواح البريئة، سواء من خلال تقديم الدعم الإنساني للمحتاجين، أو العمل على إنهاء النزاعات بطرق سلمية تحفظ كرامة الإنسان.
كما أن المجتمع الدولي يتحمل مسؤولية قانونية وأخلاقية تجاه ما يحدث في سوريا، ويجب عليه أن يتخذ خطوات فعلية لوقف سفك الدماء ومحاسبة المتورطين، وفق القوانين الدولية التي تُجرّم الجرائم ضد الإنسانية.
دعوة للسلام وإنهاء الصراع وحرمة الدماء في الأشهر الحرم
إن ما يجري في سوريا هو تذكير صارخ بأن غياب العدالة والرحمة يؤدي إلى الكوارث، وأن الإنسان إذا تخلى عن مبادئ الدين والأخلاق، تحول إلى أداة للدمار. ومن هنا، ندعو الأطراف المتنازعة إلى تحكيم العقل والعودة إلى طاولة الحوار، لأن استمرار النزاع لا يجلب سوى المزيد من المعاناة.
ومن القيم العظيمة التي أقرها الإسلام هي حرمة الدماء، وقد جاءت هذه الحرمة مضاعفة خلال الأشهر الحرم، وهي: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب. قال الله تعالى: “إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ”، فهذه الأشهر ليست كغيرها، فقد جعلها الله مواسم للأمان والسلام، وحرم فيها القتال وسفك الدماء إلا لضرورة دفاعية مشروعة.
وتحقيق السلم في هذه الأشهر كان جزءًا من النظام الإنساني في الجاهلية، وجاء الإسلام ليؤكد هذا المبدأ ويجعله جزءًا من المنظومة التشريعية، ومن المحزن أن ما نشهده في سوريا، وفي غيرها من بؤر النزاع، يظهر استخفافًا بهذه الحرمات التي أقرها الله، فإن قتل الأبرياء وتشريدهم خلال الأشهر الحرم هو انتهاك مزدوج: أولاً لحرمة الدماء التي كرمها الإسلام، وثانيًا لخصوصية هذه الأشهر التي حُرمت فيها الحروب والمآسي.
لذلك، فإن كل قطرة دم تُسفك في هذه الأشهر تُعد من الكبائر التي يشتد فيها الإثم، ويستوجب مرتكبها عقوبة أشد عند الله. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا”، فكيف يمكن للعقل أن يتصور أن من يدعي الإسلام قد ينتهك هذه الحرمات على مرأى من العالم؟
إن إعادة هذا المفهوم إلى الواجهة ضرورة شرعية وإنسانية. يجب أن يُذكر الجميع بأن الأشهر الحرم هي فرصة لوقف نزيف الدماء، وإعادة التفكير في عواقب الفتن التي لا تجر إلا الويلات. ومن هنا، فإن من واجب كل مسلم العمل على وقف الحروب، خاصة في هذه الأشهر المقدسة، وتحقيق السلام الذي أمر الله به.
فإن حرمة الدماء في الإسلام ليست مجرد نصوص تُتلى، بل هي قيم ومبادئ يجب أن تُترجم إلى أفعال تحمي الإنسان وتمنع الظلم. إن ما يحدث في سوريا هو امتحان لنا جميعًا، كأمة إسلامية ومجتمع دولي. نسأل الله أن يعيد الأمن والسلام إلى سوريا، وأن يحقن دماء المسلمين في كل مكان، وأن يرد كيد الظالمين إلى نحورهم، ويجعل عاقبة الظلم خسرانًا مبينًا.