صبري يوسف (أديب وتشكيلي سوري)
هذا الأسلوب في السَّرد هو أسلوب جديد في كتابة الرِّواية، ضمن كليشيه أو سياق: “مائة × مائة، ومائة × 50، أي مئة فصل وكل فصل يتضمّنُ مائةَ كلمة تماماً، وخمسين فصلاً، وكل فصل يتضمَّنُ مائةَ كلمة أيضاً مِنْ دونِ زيادةٍ أو نُقصان.
هذا النَّوع من السَّرد يُمكنُ أن يُصنّفَ تحتَ عنوان: “الرِّواية المكثَّفة”، حيثُ يتمُّ سرد فضاءَات القصّة بطريقةٍ موجزة للغاية، وهذا الأسلوب يُحيلُنا إلى توفّرِ جهودٍ كبيرةٍ لدى الكاتب الَّذي يخوضُ هكذا تجربة، لأنَّ الأسلوب يجعل الكاتبَ أنْ يختارَ مفرداتِهِ وعالمَهُ السَّرديَّ بتركيزٍ شديدٍ، كي يتمكّنَ من إيصالِ فكرتِهِ ورؤاه بأقلِّ الكلماتِ وبأعمقِ المعاني، ولا يتحمّلُ هذا النَّوع مِنَ السَّردِ أيَّ استرسالٍ، كما لا يناسبُهُ الحشو والشًّروحات الزّائدة، وتتطلَّبُ هذهِ التَّجربةُ الإبداعيّةُ، تحدِّياً عالياً مِنَ الكاتبِ للولوجِ إلى أعماقِ ما يقتضيهِ هذا الأسلوبُ مِنَ الكتابةِ الإبداعيَّةِ. لهذا لكلِّ كلمةٍ أهمّيتها في البناءِ الفنّي للقصصِ / الفصولِ الَّتي تشكِّلُ بمجملِها فضاءَ العملِ الرِّوائي. وهو سريعُ الإيقاعِ، مَا يجعلُهُ مُناسِبًا للقرَّاءِ الَّذينَ يفضِّلونَ السَّردَ المختصرَ والمكثّفَ.
يندرجُ هذا الأسلوبُ تحتَ سياقِ الأدبِ “الميكروي” أو السَّردِ المكثّفِ جدَّاً، حيثُ تُستخدمُ الكلماتُ بدقّةٍ عاليةٍ، ويقدِّمُ الرِّوائي قصَّةً مُتسلسلةً ضمنَ فصولِها عبرَ حَبكةٍ مُتكاملةٍ ومُتعانقةٍ في فصولِها ضمنَ سياقٍ لُغويٍّ مُتماسكٍ ومُحدَّدٍ بعددِ الكلماتِ.
برزَ هذا الأسلوبُ مِنَ الكتابةِ الأدبيّةِ حديثًا ضمنَ تيارِ الأدبِ التَّجريبي والكتابةِ المكثَّفةِ. ولُهُ علاقةٌ بالقصَّةِ القصيرةِ جدًا (Flash Fiction)، والتي عُرِفَتْ في الأدبِ الإنكليزي والغربي مُنذُ منتصفِ القرنِ العشرين، حيثُ يتمُّ الاعتمادُ على الاختصارِ الشَّديدِ والإيجازِ مِنْ دونِ الإقلالِ مِنْ مضمونِ وفضاءِ وجوهرِ القصّةِ.
في الأدبِ العربي القديم والحديث، لا يزالُ هذا النّمطُ نادرَ الانتشارِ، لكنَّهُ قَدْ يجدُ مكانَهُ مَعَ ازدهارِ الكتابةِ التَّجريبيّةِ المتنوِّعةِ، ومِنْ خلالِ التَّجربةِ الرقميّةِ والسَّردِ القصيرِ عبرَ المَنابرِ والمِنصّاتِ الحديثةِ.
أهدى حميد عقبي العمل الرِّوائي إلى روحِ القاصِّ والكاتبِ الفلسطيني محمّد طميلة
تتمحورُ عوالمُ الرِّوايةِ حولَ الموتِ، حولَ الرُّوحِ، حولَ الرَّحيلِ، حولَ التَّواصلِ مَعَ الأحبَّةِ الرَّاحلينَ. وحولَ الكثيرِ مِنَ المواضيعِ. وعرَضَ فصولَها بمهارةٍ عاليةٍ ومنسابةٍ حبكتِها مَعَ الفصولِ بسلاسةٍ ورهافةٍ بارعةٍ. وأتوقف عبرَ هذهِ الورقةِ عندَ الفصولِ العشرةِ الأولى.
ـ يتحدَّثُ عَنْ موتِهِ، يحِنُّ إلى التَّدخينِ، تساؤلاتٌ عديدةٌ تراودُهُ، لَمْ يرَ الملاك، لغةٌ مكثَّفةٌ بتنوُّعاتِ الحدثِ.
ـ بعدَ مرورِ ثانية مِنْ موتِهِ، يشعرُ ببرودةٍ قارسةٍ، تبرّعَ بأعضائِهِ، حنينٌ للتدخينِ، الحياةُ بعدَ الموتِ.
ـ صوتُ الرُّعبِ، مشاهدٌ متداخلة أشبهُ ما تكونُ سرياليّةً، ينسى التَّدخينَ، هل ينمو للموتى أجنحةٌ؟
ـ يتلاشى الزَّمنُ، يسمعُ رنينَ هاتفٍ، لا أحد استجوبه، يشعرُ بالبردِ، كأنَّهُ وطواطٌ، يحِنُّ للدخانِ، دفءٌ!
(يكتبُ وكأنَّهُ يصوِّرُ لنا مشاهدَ مسرحيّة أو نص سيناريو وتتداخلُ فيهِ المشاهدُ بطريقةٍ مجنَّحةٍ ومتشابكةٍ).
ـ خيِّلَ إليه، أنَّ رغباتِهِ تنتهي بالموتِ، يشعرُ باقتلاعِ أعضائِهِ، لا يشعرُ برغبةٍ في التَّدخينِ، أعادوا قلبَهُ، ربّما لا يناسبُ لإنسانٍ آخرَ.
ـ يرى أضواء، يشعرُ وكأنَّهُ يتشبَّثُ بجذعِ شجرةٍ، يسمعُ صوتَ امرأةٍ، ربَّما هي زوجتُهُ، “الحي أبقى من الميت”، قالَ أحدهم. يسمع صوتاً، احضروا دفاتر الاستجواب. يشعرُ بالبردِ مِنْ جديدٍ ويحلُّ عليهِ الظّلامُ!
ـ يضيءُ المكانَ بعدَ ظلمةٍ داكنةٍ، ينظرُ حولَهُ فيرى ما يُشبِهُ الغابةَ، يندهشُ مِنْ شكلِهِ، يشعرُ بالدِّفءِ رَغمَ البردَ الَّذي لازمَهُ، يشعرُ وكأنَّهُ يتنفَّسُ اصطناعيّاً، قلبُه ينبضُ قالَ أحدُهم، تراودُهُ تساؤلاتٌ متعدِّدةٌ.
ـ يريدُ أنْ يتذكّرَ المرأةَ الَّتي تبكي، قالَتْ: “أهداني قصيدةً هذا الصَّباح”. ماتَ فجأةً، يتأمَّلُ حولَهَ، يقفزُ نحوَ جذعِ شجرةٍ، يشعرُ بلمسةٍ منها، لمْ نسمحْ لَهُ بالمغادرةِ يسمعُ نباحَ كلبٍ. هَلْ هو كلبُهُ رافقَهُ إلى مثواهُ الأخيرِ؟
ـ يبدو وكأنَّ الكلب يقتربُ منه، يراهُ حزيناً، وأليفاً، شعرَ وكأنَّ هزّة أرضية وقعَتْ، تساقطَتِ الأشجارُ، وتشقَّقتِ الأرضُ، انتابَهُ حالةَ ضياعٍ، لَهُ اسم في سجلَّات الموتى، السَّماءُ تمطرُ: “جسدي يتبلَّلُ”.
ـ تزدادُ الأمطارُ غزارةً، يملأ فمَهُ بالماءِ ولا يبلعُهُ، يقومُ بأفعالٍ غريبةٍ ولا يفهمُ معناها، يتوقّفُ المطرُ عَنِ الهُطولِ، تهبُّ الرِّيحُ، يذكِّرهُ الهاتفُ بالزَّمنِ بكلِّ دقَّةٍ، تتحرَّكُ جذوعُ الأشجارِ، يُحاولُ أنْ يقفزَ لكنَّه يتسمَّرُ بالجذعِ، تنزلقُ الجذوعُ إلى هُوَّةٍ عَميقةٍ، تلتهمُها لظى النِّيرانِ. لا مفرَّ مِنَ الحسابِ ولهيبِ الاشتعالِ!
يتميَّزُ حميد عقبي برؤيةٍ تجديديّةٍ، في هذهِ التَّجربةِ الفريدةِ، يجرُّبُ كلَّ شيءٍ، الكتابةُ عنده حالةُ تجدُّدٍ مستمرٍّ، فها هو يكتبُ روايةً مِنْ خمسينَ فصلٍ، كلُّ فصلٍ مائةُ كلمةٍ، هذهِ المغامرةُ في الكتابةِ تنمُّ عَنْ رؤيةٍ مفتوحةٍ في فضاءِ الإبداعِ وبجرأةٍ كبيرةٍ، لأنَّ الإبداعَ ساحةٌ مفتوحةٌ للتجريبِ في شتَّى مساراتِ تدفُّقاتِ وهجِ الإبداعِ بشتّى صورِهِ وأجناسِهِ.
لو نظرْنا بدقَّةٍ لكلِّ فصلٍ مِنْ فُصولِ هذا العملِ الرِّوائيِّ، “100× 50 ” فهو بمثابةِ قصّةٍ قصيرةٍ جدّاً، أو نصٍّ أدبيٍّ، أو مقطعٍ أو مشهدٍ مِنْ عملٍ مسرحيٍّ، ولهُ علاقةٌ وارتباطٌ مِعَ الفصلِ الَّذي يليهِ، رَغمَ أنَّ لكلِّ فصلٍ بداية ونهاية، وهذا الرَّبطُ في خلقِ موضوعٍ متكامل ومتداخل هو مهارةٌ بديعةُ مِنَ الكاتبِ، بأنَّ ينسجُ لنا عالمَهُ بطريقةٍ مُنسابةٍ ومستقلّةٍ ومتداخلةٍ بنفسِ الوقتِ مَعَ فضاءِ النَّصِّ ككلٍّ! فهو يتركُ جملةً أو مفردةً في نهايةِ كلِّ فصلٍ ويبدأُ بالفصلِ الّذي يليهِ يبني رؤيةً وفصلاً جديداً منطلقاً مِنَ الفكرةِ الأخيرةِ وكأنَّهُ ينسجُ معمارَهُ الرِّوائي على إيقاعِ هذهِ المفرداتِ والاقفالِ المتداخل والمتعانق مَعَ فصولِ العملِ الرِّوائيِّ، والَّذي يُخيَّلُ للقارئِ أنَّ لكلِّ فصلٍ عالمَهُ رَغمَ هذا التَّداخلِ والتَّداعياتِ المتتاليةِ المُنسابةِ في فصولِ الرِّوايةِ.
والسُّؤالُ كيفَ تشكّلَ حميد عقبي كاتباً؟ تشكَّلَ مِنْ خلالِ عدَّةِ مشارب أدبيّة، حيثُ ينطلقُ مِنْ فضاءِ الإخراجِ والمسرحِ والتّشكيلِ والشِّعرِ ووهجِ السَّردِ القصصيِّ والرّوائيِّ فيقدِّمُ لنا أعمالاً إبداعيّةً بارعةً.
“حميد عقبي، روائي ومخرج وتشكيلي يمني مقيم في باريس”.