محمد عيسى
عانى السوريون منذ أكثر من عقد تبعات صراعٍ معقّد تسبب في تزايد الأزمات الإنسانيّة والسياسيّة، وسط تعثر مساعي الجهود الدوليّة وقصور الجهود المحليّة لتحقيقٍ حلّ دائم. واصطدمت جولات المفاوضات في جنيف وأستانا وفيينا بصعوبات سياسيّة وعراقيل كبيرة، بسببِ غياب التمثيل الحقيقيّ للشعب السوريّ وتدخل القوى الإقليميّة والدوليّة. وفي المقابل، برز نموذج الإدارة الذاتيّة في شمال وشرق سوريا كحلٍّ سياسيّ واقعيّ يجسّد وحدة مكونات الشعب السوريّ، ويضمن فرص تحقيق الاستقرار بعيداً عن التجاذبات الإقليميّة والدوليّة.
في خضمّ الصراعات التي عصفت بسوريا منذ أكثر من عقد من الزمن، تعددت المبادرات الدوليّة والمحليّة سعياً لتحقيق حلّ سياسيّ يعيد الاستقرار إلى البلاد، غير أن جميعها اصطدمت بتعقيدات جغرافية وسياسيّة عميقة. فقد كانت الاجتماعات الدوليّة، بدءاً من جنيف وصولاً إلى أستانا وبيانات فيينا، جميعها محطات فارقة في محاولات التوصل إلى حل سياسيّ يحترم تطلعات الشعب السوريّ ويحفظ وحدته وسيادته. إلا أن تلك المبادرات افتقدت إلى الممثلين الحقيقيّين للشعب السوريّ بكل مكوناته، فغابت عنه القوى الفاعلة مثل الإدارة الذاتيّة التي باتت نموذجاً يُطرح اليوم كبديل حقيقيّ يمكن أن يكون أساساً لأيّ حلّ مستدام.
جنيف من الأملِ إلى الإخفاق
انطلقت أولى المحاولات الدوليّة في مدينة جنيف في 30 حزيران 2012 بمبادرة من المبعوث الأمميّ كوفي عنان، وشكّلت تلك الخطوة بدايةً لتحركٍ دوليّ جادٍ يسعى إلى إيجاد حلٍّ سياسيّ مستدام في سوريا. وتضمنت خطة عنان التي تألفت من ستِ نقاطٍ الملامحَ الأولى لصياغة حلِّ سياسيّ يتمثل في تشكيلِ هيئة حكم انتقاليّة تمتلكُ صلاحيات كاملة وفتح بابٍ للحوار الوطنيّ. غير أن هذا المخرج السياسيّ اصطدم بتعقيدات الواقع السوريّ، ورفض النظام السوريّ تقاسمَ السلطة مع المعارضة، في حين رفضت الأخيرة التعاون مع النظامِ الذي اعتبرته مسؤولاً عن القتلِ والتدمير. الأمر الذي عمّق الهوة بين الجانبين وجعل أيّ مسارٍ سياسيّ يواجه عقبات حقيقيّة.
كانت هذه المحاولة الدوليّة أولى المحطات التي كشفت عن التعقيداتِ العميقةِ التي تواجهها أيّ محاولة جادة للتوصلِ إلى حلٍّ سياسيّ في سوريا. فقد أظهرت تلك المفاوضات أنّ الخلافاتِ بين النظام السابق والمعارضة لم تكن مجرد اختلافات سياسيّة عابرة، بل كانت صداماً حقيقيّاً على السلطة، ما أعاق أيّ فرصة للتفاهم. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ غيابَ أيّ تمثيلٍ حقيقيّ يعكسُ مصالحَ الشعب السوريّ بكلّ مكوناته، جعل المفاوضات تقتصرُ على طرفين فقط، ما أدّى إلى تقويضِ أيّ فرصٍ للتوصل إلى توافق سياسيّ مستدام. فبينما كانت خطة كوفي عنان تهدف إلى تشكيل هيئة حكم انتقالية، كان الطرفان (النظام والمعارضة) يرفضان بشكل قاطع التعاون أو تقديم تنازلات كافية. النظام السوريّ اعتبر وقتها إن أيّ خطوة لتقاسم السلطة تهديد لوجودها، في حين اعتبرت المعارضة أن النظام مسؤول عن القتل والتدمير، ولا يمكن الدخول في أيّ حوار دون رحيله. وهكذا، استمرت الأطراف في التشبث بمواقفها المتعارضة دون الالتفات إلى المتطلبات الواقعيّة للمرحلة، مما أدى إلى فشل جميع الجهود السابقة التي ركزت على الحلول السياسيّة، في ظل غياب أيّ شراكة حقيقيّة أو قبول بتقديم تنازلات متبادلة.
فيينا والقرار 2254 تصعيد متبادل للفشل
بيانات فيينا التي صدرت في 30 تشرين الأول 2015، وما تلاها من قرار مجلس الأمن رقم 2254 في 18 كانون الأول من العام نفسه، شكّلت أيضاً محاولة جديدة لإعادة صياغة مرجعية الحل السياسيّ في سوريا. وقد تبنت تلك البيانات أفكاراً مشابهة لبيان جنيف، لكنها افتقرت إلى آليات واضحة لتنفيذ تلك الخطوات. فاكتفت بطرحِ الحلّ السياسيّ من خلال انتخابات ودستور جديد، دون تحديد البدائل أو الخيارات البديلة في حال عدم التنفيذ، ما ترك الباب مفتوحاً لعرقلتها.
علاوة على ذلك، تركت هذه المحطات الدوليّة الطريقَ مفتوحاً لمزيد من التدخلات الإقليميّة والدوليّة دون التزام حقيقيّ بمرجعية واحدة، لتتحول القضايا الرئيسيّة إلى ساحات تصعيد واتهام متبادل. فقد شهدت هذه المرحلة تصعيداً في المواقف الإقليميّة والدوليّة، حيث تمثل ذلك بوجود تدخلات من القوى الإقليميّة، ما زاد تعقيد المسار السياسيّ. واستمرت التجاذبات بين الأطراف الخارجيّة المدعومة بمصالح دوليّة متضاربة، ما أدّى إلى تعميق الهوة بين الشعب السوريّ والأطراف الدوليّة التي انحازت إلى المصالحِ، وتحوّلت إلى تبني مساعي تقديم مساعدات إنسانيّة قاصرة، أكثر من الحلِّ السياسيّ المستدام.
كانت مفاوضات آستانة مجرد محاولة لتوزيعِ النفوذ بين القوى المتصارعة، دون الالتفات إلى الاحتياجات الحقيقيّة للشعبِ السوريّ. وقد شهدت هذه الجولات مزيداً من الانقسامات وتباعد المواقف، ما قاد إلى فشل متكرر للمفاوضات. وبدلاً من التوصلِ إلى حلولٍ سياسيّة شاملة، أصبحت آستانا وسيلة لتحقيق مصالح أطراف إقليميّةٍ ودوليّة على حساب السوريّين، ما ضاعف تعقيد المشهد السياسيّ.
وهكذا استمر الجمود الذي بدأ مع فشل جولات جنيف، لينتقل إلى آستانا ثم فيينا، حيث أصبح حل الأزمة السوريّة مجرد انعكاس لتجاذبات القوى الخارجية وصراعاتها، دون أيّ اعتبار لمصالح الشعب السوريّ. فقد تحولت المفاوضات إلى مجرد غطاء لتصفية الحسابات الإقليمية والدوليّة، ما عمّق الهوة بين الأطراف وأدى إلى المزيد من التأزم. والمحصلة كانت استمرار حالة النزاع، مع استمرار التدخلات التي جعلت من الحل السياسيّ أمراً بعيد المنال.
آستانا المبادرة الروسيّة تتجاوز الإطار الأمميّ
مع فشلِ جولاتِ جنيف، برزت مبادرة “آستانا” التي رعتها روسيا وضمّت إلى جانبها تركيا وإيران وعقدت أولى اجتماعاتها في 23/1/2017. وعقدت 22 جولة من المحادثات آخرها في 11/11/2024، فيما كان الاجتماع الوزاريّ لأطراف آستانا في الدوحة عشية سقوط النظام السوريّ في 7/12/2024.
مثّلت محادثات آستانا منعطفاً جديداً في مسارِ الأزمة السوريّة وكانت محاولة ناقصةً للوصول إلى حلٍّ سياسيّ، إذ إنّها لم تمثل مكوناتِ المجتمع السوريّ. واقتصرتِ المشاركة على وفدِي النظام والمعارضة المدعومين من القوى الإقليميّة الثلاث، مع غيابٍ لأيّ تمثيلٍ للأطراف الأخرى الفاعلة والمعنية بالحلِّ مثل الإدارة الذاتيّة لشمال وشرق سوريا. ولم تحقق اجتماعات آستانا أدنى تقدمٍ على مسار إنجازٍ الحلّ السياسيّ.
هذه المحاولة، كجولات جنيف السابقة، عانت من ضعف التمثيل وعدم وجود شراكة حقيقيّة تشمل الأطراف السوريّة. فبينما كانت جولات جنيف، أضافت آستانا تعقيداً جديداً بتركيزها فقط على الوفود المدعومة من القوى الإقليميّة. وهذا ما عمّق الهوة بين أطراف التفاوض وجعل أيّ تقدم يصطدم بتجاذبات خارجيّة تؤثر بشكلٍ كبير على نتائج الاجتماعات ومخرجاته المبتورة والتي اقتصرت على بياناتٍ شبه مكررة. فقد كانت المحادثات في آستانا تمثل استمراراً لفشل جولات جنيف، لكنها لم تأتِ بحلولٍ حقيقيّة بسبب غياب الإرادة السياسيّة الحقيقيّة للوفود المدعومة من الخارج، وغياب التمثيل الحقيقيّ للمجتمع السوريّ.
لعبت تركيا دوراً سلبيّاً في إطار آستانا، وشكّلت شراكتها حالة تناقض، فهي دولة احتلال في سوريا وتدعم بشكلٍ مباشرٍ العديد من الجماعات الإرهابيّة لتحقيق أجنداتها الخاصة. وأدى وجود الجانب التركيّ إلى تركيز المفاوضات على مصالحه الاستراتيجيّة واستمرارِ الصراع، واستخدم الاتفاقات كغطاءٍ لتمرير أجندته العسكريّة وتوسيع نفوذه على حساب وحدة الأراضي السوريّة وسيادة الشعب السوريّ. بالتالي، كانت تركيا طرفاً معطلاً للحلٍّ السياسيّ الشامل، وأضافت مزيداً من التعقيد، في ظلّ تحوّل التفاوض إلى قناةٍ لزيادةِ التوترِ والتجاذب الإقليميّ.
ورغم أنّ محادثات آستانا حاولت تقليل العنف نسبيّاً في بعض المناطق عبر ابتداع آلية “خفض التصعيد”، إلا أنّها كانت عمليّاً غطاءً لمواصلةِ الأسلوب العسكريّ والقضم التدريجيّ للجغرافيا واستعادة قواتِ النظام السيطرة على المناطق التي خسرتها خلال الأزمة، وبذلك فشلت آستانا بأنّ تكون منصة فعّالة للتوصل إلى توافقٍ سياسيّ شامل، واستمر التجاذب بين القوى الخارجيّة التي استخدمت المفاوضات كوسيلة لتعزيز مصالحها، دون الاهتمام بواقع الشعبِ السوريّ وتطلعاته للخروج من الأزمة. وهذا ما جعل الحل السياسيّ مجرد عنوانٍ ومحاولة لإطالة الصراع بدلاً من إنهائه.
نموذج الإدارة الذاتيّة الحل السياسيّ الحقيقيّ على الأرض
بالتوازي مع الإخفاقات الدوليّة والمفاوضات الصوريّة، برز نموذجُ الإدارة الذاتيّة لشمال وشرق سوريا نموذجاً واقعيّاً للحلِّ السياسيّ الذي يجسّد وحدة مختلف مكونات الشعب السوريّ دون استثناء. وفيما أفضت جولات التفاوض في جنيف وآستانا وفيينا إلى فشلٍ ذريعٍ، قدّمت الإدارة الذاتيّة حلاً عمليّاً وفعّالاً على الأرض، يقوم على الشراكةِ الوطنيّة الحقيقيّة بين الكرد والعرب والسريان وغيرهم من الشعب، مع إعطاء الأولوية للحوار الداخليّ بعيداً عن التدخلات الإقليميّة والدوليّة.
هذا النموذج أثبت فعّاليته في تحقيق قدرٍ كبيرٍ من الاستقرار السياسيّ والاجتماعي، من خلال تنظيم مؤسسات مدنيّة وعسكريّة قائمة على التشارك والمشاركة الديمقراطيّة، ما يعزز مبدأ التوافق والتفاهم بين الأطياف المختلفة. وحرصت الإدارةُ الذاتيّة على إشراك جميع القوى السياسيّة والمجتمعيّة في رسم ملامح الحلِّ المستدام، بعيداً عن المصالح العابرة والتجاذبات الإقليميّة التي طالما أضعفتِ الحلول السياسيّة في سوريا. فبدلاً من الاعتماد على الحلول المؤقتة التي تفتقر إلى آليات التنفيذ، يمثل هذا النموذج بديلاً واقعيّاً للحلولِ السياسيّة التي دعت إليها الأمم المتحدة في جولات جنيف وأستانا وفيينا، لكنها فشلت في تحقيقها على الأرض.
وكان من الضروريّ مشاركة الإدارة الذاتيّة في جميعِ المفاوضات الدوليّة الخاصة بسوريا، كونها كانت تمتلك بالفعل الحلَّ السياسيّ الواقعيّ القائم على التعاون بين الشعوب السوريّة. فالأطراف الخارجيّة، على الرغم من جهودها الظاهرة، لم تكن قادرة على تقديم أيّ حلّ حقيقيّ يقضي بوقف إطلاق النار وينهي الأزمة، حيث أن سياساتها كانت دائماً تفتقر إلى الشمولية، وغلب عليها الصراع على النفوذ والمصالح الجغرافية. من هنا، كان الحل بالفعل موجوداً في نموذج الإدارة الذاتيّة، وهو الحل الذي يجسد إرادة السوريّين دون استثناء. لذا، لو تم إشراك هذه الإدارة في المفاوضات بشكل جدي، لكانت قد مكنت من تحقيق اختراق حقيقيّ في الأزمة، بدلاً من استمرار الأزمات والتجاذبات الإقليمية التي سيطرت على مجريات الحل السياسيّ.
الحل الحقيقيّ للأزمة السوريّة يكمن في تبني نموذج شامل للحوار الوطني يجمع كافة الأطراف دون إقصاء أو تهميش. فالمجتمع السوريّ، بتنوعه العرقيّ والدينيّ والطائفي، بحاجة إلى منصة حواريّة مشتركة تتيح للجميع التعبير عن تطلعاتهم بحرية وشفافية، بعيداً عن أيّ انقسامات أو مصالح سياسيّة ضيقة.
وينبغي أن يستند الحوار الوطنيّ إلى مبادئ التفاهم المتبادل والاحترام المتبادل، ليشكّل قاعدة صلبة لمعالجة القضايا الجوهريّة التي تعيقُ الاستقرار، وعبر إشراك جميع مكونات الشعب السوريّ دون استثناء، يمكن بناء مستقبل مشترك ووضع حدٍّ للأزمةِ المستمرة، وتأسيس بيئة لاستقرارٍ دائم يضمنُ الحقوق وفرص الشراكةِ المتساوية لجميع السوريّين.