صلاح إيبو
منذ تولي هيئة تحرير الشام السلطة في دمشق عقب انهيار نظام الأسد، بدأت بتوجيه رسائل عدة للمحيط العربي والدولي، ونجح قائد هيئة تحرير الشام في بعضٍ من خطاباته الدبلوماسية وكللت الفترة الماضية بزيارات عربية وغربية إلى دمشق، وعقد اجتماعات عربية وغربية خاصة بالشأن السوري، لكن ما يحدث في الأرض السورية بالواقع يؤرق بعض القوى الغربية والعربية، لذا تنتهج غالبية القوى اليوم التعامل الحذر مع سلطات الأمر الواقع في دمشق لدرجة يمكننا اعتبارها استمرار نهج “خطوة بخطوة” التي مارستها الدول العربية برضي غربي مع نظام الأسد سابقاً.
عقد الاجتماع الوزاري لخارجية الدول العربية وبعض الدول الغربية في الرياض قبل مدة، وجاء استكمالاً لسلسة الاجتماعات التي كانت تعقد مع حكومة الأسد منذ 2023، وهذا الاجتماع الثاني الذي يعقد بعد سقوط نظام الأسد، الأول كان في الأردن (مدينة العقبة)، مخرجات الاجتماعين كانت متقاربة وهي مساعدة الشعب السوري في تحقيق الاستقرار والانتقال السياسي في إطار دولة سورية موحدة، إضافة لمطالب أخرى تتوافق مع بنود القرار الدولي 2545 والنقاط التي وضعتها الدول الغربية أمام سلطات أمر الواقع في دمشق لتحقيق الاستقرار والتشاركية وحماية الأقليات والمكونات.
مسار الأردن – السعودية الذي بدأ منذ عام 2022 بمبادرة أردنية لحل الأزمة السورية، وفك العزلة العربية بشكلٍ تدريجي مع نظام الأسد كان بقبول أمريكي غير صريح، واستمر هذا المسار وتطور خلال عامين، لكن نتائجه على الأرض لم تظهر ولم يبدِ النظام السوري (نظام الأسد) تجاوب سريعاً وهو ما فتح الباب أمام إسقاطه بشكل سريع.
الدور السعودي
بعد سقوط الأسد انقسمت الدول العربية بين مؤيد للحكام الجدد الذين تبوؤ السلطة في دمشق، وبين متخوف منهم، لكن الوجود العربي في سوريا مهم جداً ولاسيما أن تركيا هي التي ستكون صاحبة السطوة الرئيسية في سوريا بعد انتهاء النفوذ الإيراني، ولن يكون ذلك في صالح غالبية الدول العربية على المدى البعيد.
منذ عام 2022 أولت الولايات المتحدة الأمريكية اهتماماً كبيراً بعلاقاتها الاستراتيجية مع السعودية، وسعت لإعطائها دوراً فاعلاً في منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي، ونقل الملف السوري من الأردن الدولة التي تعتبر حليفة للناتو ضمناً إلى السعودية، وبهذا بات للسعودية ثقل عربي أكبر واقتصادي أوسع في المنطقة، ومع طرح موضوع التطبيع الإسرائيلي السعودي، وإعطاء ميزات عدة للسعودية عبر عقد صفقات بيع الأسلحة لها وإقرار برنامج تعاون عسكري وآخر في مجال الطاقة بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية الأمر الذي سيمنح السعودية حق إنشاء مفاعلات نووية لأغراض سلمية في المستقبل القريب، وبموافقة أمريكيا وإسرائيل.
إعطاء هذه المميزات الأمنية والاستراتيجية للسعودية لا يأتي من فراغ، الهدف الأمريكي الأول إنجاح صفقة التطبيع الإسرائيلي السعودي، والذي يعد أحد أهم مسارات إسرائيل لبناء الشرق الأوسط الجديد، والثاني هو جعل السعودية قوة رئيسية وأساسية وفاعلة في الشرق الأوسط وهذا سيكون بلا شك معارض لدور بعض الدول الأخرى كـ قطر وتركيا، ناهيك عن الأسباب الاقتصادية والمشاريع التجارية الكبرى التي تقودها أمريكا من ناحية وإسرائيل من ناحية أخرى.
مشاريع متناقضة
مشروع خط التجارة المار من الهند عبر السعودية وإسرائيل إلى أوروبا، ومشروع غاز شرق المتوسط المشترك بين إسرائيل ومصر وقبرص واليونان، مقابل مشروع نقل الغاز القطري التركي إلى أوروبا عبر سوريا، ومشروع خط التنمية الذي تهيمن عليه تركيا في العراق ومن المؤكد أن يتم ربطها بسوريا مع تزايد نفوذ تركيا في سوريا.
تضارب مصالح المشاريع هذه، توازيها مشاريع أخرى للصين في المنطقة، وهي إحدى أهداف أمريكا على المدى البعيد والذي سيكون أساسياً في سياسية ترامب القادمة تقويض النفوذ الصيني في مناطق عدة من العالم ومن ضمنها الشرق الأوسط.
ما حقيقة المخاوف؟
الاستقطاب الاقتصادي السابق، يترافق مع مخاوف أمنية مباشرة لبعض الدول العربية تجاه حكام دمشق الجدد يجعل الانقسام العربي في الوقت الحالي، والذي قد يتطور مستقبلاً فيما يخص سوريا أمر في غاية الأهمية، الطبيعة الأيديولوجية التي تتمتع بها هيئة تحرير الشام والتي كانت جزءاً من القاعدة في السابق، واحتضانها عناصر أجنبية من جنسيات عربية وشيشانية وأوزبكية، وغيرها يزيد من المخاوف الأمنية لغالبية الدول العربية نتيجة وجود مشاكل حقيقة في العالم العربي مرتبط بالتيارات الدينية السياسية، وعلى رأسها مصر، والأردن، والعراق، والكويت.
مصر إلى الآن ترسل رسائل خوف ضمنية، وهي من أكثر الدول المتوجسة من وصول هيئة تحرير الشام إلى الحكم، مبديةً مخاوفها بشكلٍ علني في مؤتمر الرياض، وقالت إنها لا ترغب في رؤية تشكيلات في سوريا تهدد أمن مصر، وجاء ذلك بعد إعلان “أحمد منصور” (مواطن مصري ينتمي لتيار الإخوان المسلمين في مصر وظهر في صورة مشتركة مع أحمد الشرع في دمشق برفقة أحد أعضاء حزب العدالة والتنمية التركي) عن حركة ثوار 25 يناير، والتي اعتمدت النضال ضد مصر لإعادة حكم الإخوان في مصر.
الإعلان عن تشكيل هذا الجسم جاء من إدلب مركز انطلاق الشرع نحو دمشق، ومن المستبعد أن يكون الإعلان عن هذا الجسم قد جاء بدون علم الشرع وتركيا، وهي رسالة مباشرة لمصر بضرورة عقد علاقات جيدة معها لحماية أمنها، ورسالة تركية أخرى أن دعم تركيا للإخوان المسلمين لن ينتهي بل سيستمر في الأراضي السورية بعد تطبيع تركيا علاقاتها مع مصر العام الفائت.
وفقٍ لمعلومات عدة نشرتها مصادر إعلامية، أن “منصور” ومنذ دخول الشرع إلى قصر الشعب بدأ بتحريك الشارع المصري عبر المنشورات المناهضة لحكم السياسي.
هنا بلا شك مصر لن تكون بلا حراك، إذ وجهت مصر رسالة سياسية لتركيا باستقبال السياسي للمشير حفتر قائد التمرد في ليبيا، وبهذا ستكون الساحة الليبية مقابل الساحة السورية وهذا سيعيد التوتر للعلاقات المصرية التركية التي بدأ أردوغان بتطبيعها مطلع عام 2022 وانتهى بلقاء الرئيس المصري مع أردوغان العام المنصرم.
تنامي نفوذ الإخوان في الأردن
رغم زيارة وزير خارجية المملكة الأردنية إلى سوريا إلا أن مخاوفها متزايدة ومباشرة، نتيجة وجود بيئة اجتماعية جاهزة في الأردن بإمكان أي قوة خارجية تحريكها ضد حكم الملك عبد الله، وسبق أن حذرت الأردن من وجود مخططات إيرانية لدعم الفلسطينيين والإخوان المسلمين هناك، اليوم حلت قوة أخرى مكان إيران وهذه القوة لن تكون أقل قدرة من تحريك تلك الكتلة في الأردن، ولاسيما أن الانتخابات النيابية الأخيرة في الأردن أظهرت تقدم كبيراً للإخوان في البلاد.
إضافة إلى مشاكل أمنية على الحدود المشتركة من تهريب الأسلحة والمخدرات والتي لم تتوقف إلى اليوم، وفي حال انهيار الأمن في جنوب سوريا أو ظهور بوادر خطيرة على أمن الأردن لا يستبعد أبداً أن تقوم الأردن بإجراءات أمنية وعسكرية لحد التدخل العسكري المحدود في الأرضي السورية، لكن تحاول الأردن كسب الوقت والاستفادة من الحالة الراهنة والسعي لتهيئة ظروف عودة اللاجئين السوريين المقيمين في الأردن إضافة للفوائد الاقتصادية من فتح الحدود السورية الأردنية ومشروع إمداد الكهرباء الأردنية لسوريا.
الإمارات حذرة
الإمارات هي الأخرى تتوجس بشكل كبير من السلطة الجديدة في سوريا، وظهر ذلك خلال لقاء وزير خارجية الإمارات لوزير الخارجية المعين في السلطة الجديدة في دمشق، تخوف الإمارات مشابه لخوف الكويت ومصر وهو مد الحركات الإسلامية السياسية، وتعتبر الإمارات من أكثر الدول العربية تشدداً من الناحية الأمنية في الداخل ولها تعاون أمني واسع لمنع النشاطات الإسلامية في الإمارات، وهذا سيدفعها لمراقبة الوضع في سوريا، ولاسيما أن لها تنسيقاً أمنياً في إطار التحالف الدولي لمناهضة داعش مع قوات سوريا الديمقراطية.
العراق تغلق حدودها
تتشارك العراق مثل الأردن بحدود واسعة وصحراوية مع سوريا، وكتدبير احترازي قامت العراق بإغلاق كامل الحدود والمنافذ الحدودية مع سوريا، وذلك لمخاوف أمنية على شقين الأول المد السني في الداخل العراقي، وخوف انتعاش حركات إسلامية سنية في الموصل، ومحافظة نينوى وربطها بالداخل السوري، والثاني عودة ظهور داعش في سوريا والعراق ولاسيما إن نشاط داعش مستمر في البلدين، والسبب الثالث هو التنسيق الأمني والسياسي بين إيران والعراق والذي سيؤثر على علاقة العراق بسوريا الجديدة.
خلال زيارة الوفد الأمني العراقي إلى سوريا قبل أسابيع، ظهرت مؤشرات الخوف من المستقبل، وعقبه تصريحات عراقية غير رسمية لمخاوف متزايدة، وخلال استقبال رئيس الوزراء العراقي “السوداني” الرئيس الإيراني في بغداد الأسبوع الماضي، أبدى البلدان مخاوفهم من الوضع في سوريا وأن الوضع قد يتأزم ولن يتم قبول تحول سوريا إلى مركز تهديد لدول الجوار.
انعكاسات الحالة السورية على العراق لا تنحصر في الشأن الأمني بل هي مرتبطة بالتهديدات الإسرائيلية لميلشيات موالية لإيران، إضافة لتزايد النفوذ التركي في سوريا والذي سينعكس على الداخل العراقي في حال سيطرة تركيا على كامل التراب السوري وهو ما يستدعي من العراق وبعض الدول العربية منع ذلك لحماية أمنها القومي.
تعتبر الكويت دولة صغيرة نسبياً لكن لها ثقل اقتصادية وسياسي في رسم سياسيات دول الخليج العربي، وقد تمكن الإخوان في الكويت من تنظيم كتلتهم ومحاولة مصادرة الحكم في البلاد من خلال زيادة نفوذهم في مجلس الأمة، مما دفع أمير البلاد لحل المجلس عام 2024 وعدم انتخابه لمدة أربع سنوات، وهو إجراء احترازي لمنع وصول الإخوان لمراكز هامة في البلاد، وهناك مخاوف كويتية مباشرة إن تشكل سوريا خطراً أيديولوجيا وسياسياً على البنية السياسية والاجتماعية في الكويت، لذا منعت الكويت بشكلٍ مؤقت حركة الطيران المدني بينها وبين سوريا.
دول تترقب
المخاوف السابقة لهذه الدول تتشاركها دول عربية أخرى ومن ضمنها السعودية، والبحرين، والمغرب، والجزائر، وتعتبر الجزائر أكثر المتضررين من تغير النظام في سوريا، لكن ثمة دول عربية أخرى تنظر لانقلاب الحكم في سوريا نظرة إيجابية وعلى رأسها قطر التي سعت منذ السنوات الأولى للأزمة السورية دعم المحور السياسي الإسلامي والتنسيق مع تركيا في إسقاط الأسد، وبعد التغيير في سوريا سارعت قطر لحفظ مقعدها عربيا وإقليمياً في سوريا الجديدة وصرحت بشكلٍ واضح عن رغبتها إعادة تنشيط فكرة إقامة خط نقل الغاز القطري عبر سوريا وتركيا إلى أوروبا، إضافة لأهداف أخرى غير معلنة بعد.
تونس وليبيا (المنقسمة على قسمين) ربما هما من أكثر الدول المستفيدة من الوضع الحالي في سوريا، لما يشكله من توافق أيديولوجي أولاً والدعم التركي للدول الثلاث ثانياً، إلا أن الوضع المنقسم في ليبيا ربما يؤثر على العلاقات الليبية مع السلطات الجديدة في سوريا، فيما تبقى الصومال تدور في سياق السياسة التركية نتيجة هيمنة تركيا على الضلوع السياسي والإنساني هناك لدرجة كبيرة.
مخاوف مشتركة
لا تقتصر على الدول العربية بل هناك مخاوف مشتركة بين الغرب والعرب، تتمثل بالمجموعات المتشددة المتواجدة في صفوف هيئة تحرير الشام، وعودة نشاط داعش في سوريا والعراق، وسط سعي هيئة تحرير الشام لتمكين نظامها في سوريا عبر فترة انتقالية وتشكيل نوة للجيش تحفظ هذا التكوين في المستقبل كنظام مشابه للحرس الثوري الإيراني والحرس الجمهوري السوري في النظام السابق، وهو ما سيعيد سوريا إلى حكم استبدادي ذي طابع ديني حتى لو تم تشكيل حكومة تشاركية شكلية تدير الأمور المدنية والعامة في البلاد.
ناهيك عن زيادة النفوذ التركي في سوريا، وما يترتب عليه من انعكاسات سلبية إقليمياً ودولياً، ومخاوف من عودة نشاط إيران إلى سوريا عبر المجموعات المتعددة العاملة في الجغرافية السورية، وبالتالي لن يكون مع الصعب عودة طرق الإمداد بالسلاح والمال لحزب الله في لبنان عبر سوريا، ولاسيما إن إيران أفصحت عن ذلك بشكل مباشر عدة مرات منذ سقوط الأسد.
السياسات القادمة
هذه الأسباب إضافة لحسابات دولية أخرى تتعلق بالمشاريع الغربية الجديدة في الشرق الأوسط والتحولات التي تجري في النظام العالمي منذ بدأ الحرب الروسية الأوكرانية، ستدفع الدول العربية الفاعلة (محور السعودية –الأردن ـ مصر ـ الإمارات) لإتباع سياسة متوازنة تجاه سوريا وعدم إعطاء الشرعية الكاملة للنظام الجديد إلا عبر التنسيق المباشر مع الغرب وإسرائيل من خلف الستار، لأن سيطرة أي دولة منفردة على سوريا في المستقبل سيكون لها تبعات خطيرة بعد عقود على استقرار المنطقة أولاً وسياسات الفاعلين ثانياً.
من المتوقع ألا تقع أمريكا في الخطأ الذي وقعت فيه بالعراق بعد انهيار نظام صدام الحسين، وتسليم العراق إلى إيران التي بدأت بترتيب أوراقها في المنطقة والتوسع عبر ازرع وتنظيمات عدة منها شيعية وسنية، وبالتالي لن تسمح أمريكا بانفراد تركيا للسيطرة على الساحة السورية، وهذا يتطلب تعاوناً عربياً مع الغرب، والذي سيكون للأردن والسعودية دور هام فيه.