كوباني/ سلافا أحمد ـ فقدت “تالا”، الطفلة الكوبانية، الوحيدة والمدللة، والتي لم تتجاوز شهرها التاسع من عمرها بعد، أعز ما تملك في الحياة، لتبقى يتيمة الأبوين، نتيجة قصف المحتل التركي على سد تشرين.
بعينين صغيرتين تجولان في الأرجاء، محاولة رؤية والداها الشهيدان، تبحث وكأنها تعلم أن والداها قد رحلا وتركاها وحيدة في هذه الحياة، وصرخاتها الناعمة تملاً كل مكان، حيث تبكي دون أن تستطيع النطق بكلمة ماما أو بابا، الطفلة التي تيتمت في طفولتها نتيجة قصف المحتل التركي على سد المقاومة تشرين.
قصة الطفلة تالا ورحيل والديها
“تالا” الطفلة، التي لم تكمل عامها الأول بعد، الطفلة التي أصحبت وجهاً آخر لمعاناة أطفال إقليم شمال وشرق سوريا، الذين استفاقوا على واقع التيتم قبل الشعور بإحساس وحنان الوالدين حتى.
فقد حضرت “تالا” مراسم وداع والديها الشهيدين الأخيرة، دون أن تستوعب ماذا يجري حولها، فيما لا تزال عيناها الصغيرتان تبحثان عنهما، ولوهلة تبتسم لرؤية صورة أمها وأبيها، ومن ثم تعود لتبكي من جديد؟
فالكل من حولها كان يبكي من شدة الحزن، لتبكي هي أيضاً وكأنها تعلم ما يجري، وإنها على علم بأن تلك لحظاتها الأخيرة مع والديها، وأنها ستبقى وحيدة طوال عمرها، دون أم تنتظرها عودتها من المدرسة، ولا أب يحميها من قساوة الحياة ويغرمها بحنانه.
فكيف لها تستوعب رحيل والديها، وهي لا تزال طفلة، غير قادرة على تحمل ألم الفقد؟ وما ذنبها أن تبقى يتيمة طوال عمرها؟ فهل كانت ضحكتها البريئة تهدد أمن المحتل التركي، حتى أقدم على استهداف والديها؟
والدا الطفلة تالا، وسبب استشهادهما؟
“أدهم علي مصطفى”، مواليد 1987 من قرية حلنج التابعة لمدينة كوباني بمقاطعة الفرات في إقليم شمال وشرق سوريا، من عائلة مؤلفة من سبعة أشخاص، درس مرحلتي الابتدائية والإعدادية في مدينته كوباني، وسافر بعدها إلى الجزائر لإكمال مسيرته الدراسية هناك، ليتخرج بعدها من كلية الهندسة المعمارية، تحقيقاً لحلم والده الذي لطالما حلم أن يصبح ابنه “أدهم” والد الطفلة “تالا” مهندساً.
وخلال تعرض مدينة كوباني لمعارك طاحنة إبان تصديهم لهجمات مرتزقة داعش الإرهابية عام 2014، وانهيار غالبية المدينة نتيجة المعارك، توجه أدهم إلى مدينته ليشارك في المرحلة المعمارية للمدينة، ليترك بصمتها في بناء موطنه.
وقد عمل بكل جهده وطاقته على إعمار مدينته رغم الحرب والدمار الشامل الذي شهدته كوباني، ضمن الظروف المحدودة.
وأثناء عمله بأحد المشاريع الخدمية والمعمارية في مدينة كوباني، التقى المهندس “أدهم علي” برفيقة دربه “هيزا”، التي كانت تعمل ضمن مؤسسات الإدارة الذاتية في مقاطعة الفرات ليسطروا بعدها قصة حبهم، ويتزوجا في عام 2023، لتأتي بعدها ثمرة حبهم الجميلة “تالا” الرقيقة والجميلة، التي ولدت في 24-4-2024.
أما والدة تالا “هيزا محمد مصطفى”، من مواليد عام 2002 من قرية جند شرقي مدينة كوباني بمقاطعة الفرات، كانت الفتاة الوحيدة لعائلتها، وكانت تعمل كعضوة في مكتب التشغيل في مدينة كوباني، لكن بعد زواجها من أدهم وحملها بطفلتها الوحيدة تالا، أجبرت على ترك عملها.
وإبان الهجمات الاحتلالية التي تشنها الفاشية التركية على جسر قرة وزاق وسد تشرين منذ الثامن من كانون الأول للعام المنصرم، توجه أدهم وزجته هيزا برفقة الشابتين رونيزا وعدلة عبد القادر إلى ساحة المقاومة في سد تشرين تنديداً بالهجمات تركيا الاحتلالية وحماية السد من الانهيار، مع القوافل المساندة إلى السد.
ومع وصول الآلاف من الأهالي في القافلة الثانية لمقاطعة الفرات المتوجهة من مدينة كوباني، قصفت الفاشية التركية بشكل مباشر وبطائراتها الحربية تجمعات وسيارات المدنيين على جسم السد، مما استشهد على أثرها خمسة مدنيين وأصيب 40 آخرون.
وكان من بين الشهداء الخمس الزوجان العاشقان والدا الطفلة تالا “أدهم وهيزا”، الذين فضلوا حماية السد ومساندة المقاتلين في جبهات القتال على طفلتهم الصغيرة التي تركوها خلفهم وحيدة دون أم أو أب.
رغم حبهم الكبير لتالا.. فضلا قضيتهم عليها
وفي السياق، قالت ابنة عم الشهيد أدهم في لقاء مع صحيفتنا روناهي، “مردية علي”: “إن أدهم وهيزا كانا زوجين محبين كثيراً ضمن العائلة، وكان أدهم يدير عائلته بحب وحنان فائقة، عندما رزق بطفلتهم تالا كانت فرحة الزوجين لا توصف، وكأنهما ملكا الدنيا كلها”.
وتابعت: “فقد كانا يدللان طفلتهما تالا بشكل غير مفرط، وكانت ترافقهم طول الوقت، وكأنهم يربون ملاك صغير بين أديهم”.
وأضافت: “كان أدهم في ذلك اليوم في عمله، ومع معرفته للقصف التركي الذي يستهدف قرى كوباني وسد المقاومة “تشرين”، قرر التوجه إلى السد ليشارك مع أبناء بلدته المقاومة التاريخية الذي يبدونها بوجه الطغاة والمتربصين والمحتلين، لكن هيزا لم تقبل ذهابه وحده لارتباطهما المتين ببعضهما ومشاركتهما لجميع تفاصيل حياتهما، حيث قررا الذهاب، وترك طفلتهما الصغيرة في منزل عمة تالا”.
وأكملت مردية حديثها والدموع تنهمر من عيناها: “كان هيزا وأدهم يحبان تالا كثيراً، ولما تركاها، وقبل ذهابهما قال والدها (حبي وتعلقي الشديد، يخلقان شعور غريب أحياناً بأنني سأتركها يتيمة يوماً ما)، وبالفعل فعلها وتركا تالا يتيمة دون أبوين”.
ولفتت قائلة، بأن “أثناء توجههم إلى السد كان معنويات الزوجين عالية جداً، حتى أنهم ذهبوا إلى منزل خال أدهم ليصطحبا رونيزا وعدلة عبد الله القادر اللواتي جرحى نتيجة القصف أيضاً”.
وأوضحت مردية، بأن ترك تالا لم يكن هين على هيزا وأدهم، فحين مغادرتها عادا مرة أخرى نحو تالا ليعانقاها بكل قوة ويقبلوها وكان الدموع تنهمر من عينا هيزا، مضيفةً، فعلى الرغم ذلك لقد تركا طفلتهما، وكأنهما كانا يعلمان بأنه العناق الأخير لطفلتهما.
وأكدت مردية، فقد حاولنا معهم بألا يذهبا معاً من أجل تالا، إلا أنهم أصرا وذهبا معاً”.
وأكملت مردية حديثها: “وقد حاولت شقيقة أدهم وأصرت على إقناعه بعدم الذهاب إلى السد لخطورته، إلا أنه لم يستمع لها، وقد قالت لهما، ألن تفكروا بتالا إذا أصابكما مكروه، فالفعاليات هناك فيها خطورة كبيرة، وتشاهدان القصف المستمر هناك، ولكن لم يستمع أدهم لشقيقته، وأكمل مسيرته برفقة هيزا نحو السد”.
وتابعت متسائلة: “ما ذنب هذه الطفلة البريئة بأن تتيتم بهذه الطريقة المفجعة؟، ما ذنبها أن تدفع ثمن حروب وجرائم لا تعرف عنها شيئاً؟، ما ذنبها أن تتحول حياتها إلى ذكرى مؤلمة؟
وقالت: “ففي كل مساء تبكي تالا باحثة عن والديها، حيث أنها تستفقد كثيرا لهما رغم صغر سنها، فعيناها لا تبطلان البحث عنهما”، مضيفةً، فوالدتها لم تكن تفارقها أبداً، فما ذنب هذه الطفلة الصغيرة تتحمل كل هذا.
ونددت مردية، هجمات الفاشية التركية الإرهابية المستهدفة المدنيين: “ترتكب الفاشية التركية أفظع أنواع الجرائم والانتهاكات أمام مرأى ومسمع العالم أجمع، في أي دولة يسمح باستشهاد المدنيين دون سبب، لما قتل الكردي أصبح متاحا لجميع.
وفي الختام، شددت “مردية علي” على ضرورة الرفع من وتيرة النضال حتى الانتقام لشهدائهم: “رغم جميع هجمات استهدافات المحتل التركي التي تسعى لإبادتنا، إلا أننا موجودون وسنحمي أرضنا بمقاومتنا ونضالنا التاريخية، وسننتقم لشهدائنا ولن نسمح
لأحد باحتلال شبر واحد من أرضنا”.