حمزة حرب
في ظل ما تشهده سوريا من تدخلات لدولة الاحتلال التركي، والتي بدورها تهدد الأمن القومي في الشرق الأوسط، يجد السوريون بأن الموقف العربي الموحد سيكون له دور في إيقاف هذا التهديد، في حين تتولى قوات سوريا الديمقراطية مهمة الحفاظ على ذلك الأمن حتى اليوم.
بعد التطورات الأخيرة في سوريا التي أدت إلى سقوط حكم بشار الأسد، والتي أشار خلالها أردوغان إلى أن “الانقسامات التي أعقبت الحرب العالمية الأولى حالت دون جعل حلب وحماة وحمص وإدلب جزءاً من تركيا، مثل غازي عنتاب وإسطنبول”، هذه التصريحات تفتح الباب على مصراعيه أمام النوايا الخبيثة التي تفوح منها رائحة العودة إلى التاريخ وإحياء الإمبراطورية العثمانية البائدة، وهو ما يسعى له أردوغان في ضم شمال سوريا المحتل إلى بلاده بعد محاولات ركوب الموجة واستغلال بهجة السوريين بإسقاط نظام بشار الأسد ليتوغل ويتغول في السيطرة والهيمنة على الجانب السياسي والعسكري المستقبلي في سوريا، وهذا جل ما يخشاه السوريون.
الدور العربي وأمنه المهدد من تركيا
تتحدث مجمل التطورات السياسية والعسكرية إن دولة الاحتلال التركي في عهد حزب العدالة والتنمية تشكل عقبة كبيرة أمام تحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة العربية، حيث تمتلك تركيا الأردوغانية أطماعاً واضحة وأجندة تنافسية مع قوى إقليمية أخرى مثل إيران، وتحاول من خلالها استعادة هيمنتها وإحياء حلم الإمبراطورية العثمانية البائدة.
ولذا تحاول القوى العربية الفاعلة في الوقت الراهن، مثل المملكة العربية السعودية وجمهورية مصر العربية، التصدي للأطماع التركية في إطار جهود هذه الدول لصون الأمن القومي العربي وحماية مصالح الشعوب في هذه المنطقة خصوصاً من البوابة السورية التي يستخدمها أردوغان لإحداث خرق بهذا الاتجاه.
فكانت اضطرابات عام 2011 التي شهدتها العديد من الدول العربية، وما رافقها من فوضى وانهيار عدد من الأنظمة العربية شكلت فرصة مناسـبة للمشروع التوسعي الذي ظل رئيس دولة الاحتلال رجب أردوغان يحلم به منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في عام 2002.
حيث كان، ولا يزال، أردوغان يحلم باستعادة نفوذ القوة العثمانية القديمة ذات النفوذ الاستعماري الاقليمي الكبير، منطلقاً من التدخل في شؤون الدول العربية المجاورة والسعي للعب دور فاعل في إعادة “هندسة” المنطقة العربية بما يتـوافق مـــع طموحاته وأحلامه التوسعية.
دور الاحتلال التركي لا يشمل الشرق الأوسط إنما ينظر إلى المجتمعات العربية على أنها مجتمعات تابعة وهذا الدور لم يستهدف العلاقات التركية الاسرائيلية، بل تم الحفاظ عليها في مستوى يرتضيه الطرفان في توافق شبه ضمني، وبما يحفظ مصالحهما ويتوافق مع قواعد التعاون بل والتحالف الاستراتيجي الذي يمثل المظلة التاريخية للعلاقات رغم بعض الاشتباكات الإعلامية والسياسية التي تصب إجمالاً في سلة مصالح كلا الطرفين أو أحدهما على الأقل، كما يلاحظ أن العلاقات التركية الايرانية تتسم بتعاون أكثر من الطابع التنافسي الذي يشير إليه بعض الباحثين.
وهناك توافق ضمني على حدود المصالح والنفوذ وحرص متبادل على تفادي أي عوامل قد تؤدي إلى التوتر في العلاقات بين البلدين، باعتبار أن كلا منهما يمثل ظهيراً استراتيجياً للآخر في ملفات عدة فتركيا تعد منفذاً حيوياً لإفلات إيران من قبضة الحصار والعقوبات الأمريكية، وتركيا في المقابل ترى في علاقاتها مع إيران ورقة مهمة للحفاظ على مصالحها في العراق المجاور، وأيضاً لضمان التنسيق المشترك فيما يخص “هندسة” العلاقات الاقليمية ولاسيما دور دول مجلس التعاون حيث يلاحظ الاقتراب المتبادل والحذر.
ولا يقتصر السعي التركي للتدخل في المنطقة العربية على سوريا وليبيا ومحاولة الضغط على بعض الدول والأضرار بمصالحها بل يشمل محاولات مستمرة للتسلل في منطقة القرن الأفريقي، حيث تبدي أنقرة اهتماماً استثنائياً بدول القارة الأفريقية منذ سنوات مضت.
بطبيعة الحال يستند الاحتلال التركي إلى التنظيمات المصنفة إرهابياً كتنظيم الإخوان المسلمين فتلبية التطلعات الإخوانية تأتي في صدارة أولويات السياسة الخارجية التركية في المنطقة العربية، حيث يعتقد أردوغان أن حلفاءه الأيديولوجيين يمكن أن يكونوا البديل لأنظمة الحكم في دول عربية عدة، ويتجاهل مساحات الرفض الشعبي الهائلة للتنظيم وتوجهاته.
لكن هذه الاستراتيجية تعتبر ورقة ضغط تستخدمها دولة الاحتلال للضغط على مصر والسعودية والسعي للحد من دورهما الإقليمي وتهديد الأمن القومي العربي منذ انهيار نظام حكم تنظيم الإخوان المسلمين في مصر عام 2013، والدعم القوي الذي قدمته المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات لمصر في تلك الظروف، بما مكًنها من تجاوز الصعوبات الاقتصادية في أغلبها، حيث تشكّلت لدى أردوغان قناعة بأن السعودية ومصر يقفان حجر عثرة في وجه تحقيق أطماعه التوسعية بالمنطقة.
يعد التدخل التركي في سوريا نموذجاً لاستهانة تركيا بالأمن القومي العربي ومصالح الشعوب العربية، ومكتسبات شعوبها، فبخلاف المتاجرة بملايين اللاجئين السوريين على أراضيها واستغلالهم في ابتزاز دول الاتحاد الأوروبي، كانت تركيا هي مدخل تأجيج الصراع والأزمة في سوريا فضلاً عن بروز الدعم التركي لأنشطة التنظيمات الإرهابية المتطرفة في سوريا.
تركيا والسعودية والصراع الخفي في سوريا
شهد العقد الماضي أسوأ مراحل العلاقات الثنائية بين تركيا والسعودية من جهة وسوريا من جهة أخرى، وكانت الدولتان شريكتين في الموقف السلبي من النظام السوري وعملت كلّ منهما على طريقتها للمساهمة في إسقاطه، وكان ذلك علانية وليس بالسر.
هذا الموقف المشترك من سوريا كان بالرغم من الخلاف الحاد بين الرياض وأنقرة، الذي وصل الى ذروته مع حادثة قتل الصحفي جمال الخاشقجي في الثاني من تشرين الأول ٢٠١٨ داخل القنصلية السعودية في إسطنبول، حيث انقطعت العلاقات وبدأ كيل الاتهامات والاستثمار بالحادث.
ويعود جذر الخلاف إلى تبنّي الدولتين فكراً إيديولوجياً إسلامياً سُنياً مختلفاً عن الآخر مما ينعكس بشكل دائم على حدة التنافس، لا بل الصراع هو صراع محتدم خفي على زعامة العالم الإسلامي السني وكما كان العداء للنظام السوري والعمل على إسقاطه قاسماً مشتركاً للدولتين كذلك العودة إلى التطبيع معه وإعادة العلاقات الدبلوماسية والسياسية مع بشار الأسد قبل سقوطه أيضا تشكّل رغبة مشتركة في توقيت مشترك للدولتين السعودية وتركيا، ولكل منهما توجهه الخاص.
السعودية إلى جانب الدول العربية اكتشفت ولو متأخرة إن ترك الساحة السورية كان لصالح قوى إقليمية سواءً كانت إيران من جهة أم تركيا من جهة ثانية وعودة السعودية بما لها من ثقل سياسي واقتصادي عربي، يُقلّل حكماً من الدور غير العربي في سوريا.
أما دولة الاحتلال التركي فكانت ترغب في تطبيع علاقاتها مع النظام لتقوية علاقتها بكل من طهران وموسكو الحليفتين لدمشق وبالتالي تقوية البرامج الاستراتيجية بين الدول الثلاث على المستويات العسكرية والاقتصادية، مع العلم أنهم شركاء فاعلون تجمعهم منصة أستانة التي أدّت دورا سياسيا وعسكرياً سلبياً طيلة الأزمة السورية، واستطاعت أن تحافظ على نوع من التواصل والحوار في وقت كان الصوت الوحيد في الميدان للبارود والنار.
بينما اشترك الجانبان بهدفٍ واحد غير متفق عليه وغير معلن وهو أن مرحلة الحرب أصبحت في فصولها الأخيرة وأن المستقبل هو لإعادة الإعمار وبدء الاستثمار في السوق السورية التي تعدُّ حيّة ناشطة وواعدة نظراً للحاجة إلى ترميم البنية التحتية والإعمار وفتح الأسواق وسوق الخدمات من كهرباء ومياه واتصالات وسط بدء الحديث عن دور وشراكة مع القطاع الخاص في هذه المجالات، بعد عقد من الانغلاق والحصار والعقوبات التي لا زالت تشكل بالسياسة الضغط الأكبر على الاقتصاد لكن كان هذا في ظل وجود الأسد وقبل سقوطه.
مع سقوط الأسد تغيرت المعادلات وبدأ كل طرف يرى في الطرف الأخر الخصم على الساحة ويحاول اقتطاع الحصة الأكبر من الكعكة السورية ولكن الاحتلال التركي يسير بدوافع استراتيجية ذات عمق تاريخي متجذر بالأماني وهو الاحتلال الكامل والاقتطاع والضم كما حدث بلواء إسكندرون وبعض المناطق السورية التي ضمها لتركيا.
تعلم السعودية أنها لن تستطيع أن تقود العالم العربي من دون سوريا، لِما لها من دور وموقع مهم في صلب هذا العالم وأساسه وبما أن تغيير النظام أصبح واقعاً ملموساً وسقط الأسد فلا تريد تكرار خطأ العراق عندما ترك ساحة فارغة للتمدد الإيراني بعد سقوط نظام صدام حسين ولازالت الدول العربية تدفع ضريبة ذلك الفراغ الذي لم تملأه حينها.
أما في الهدف الإيديولوجي والعقائدي سُنيّاً، فالسعودية وتركيا تدركان أن دمشق بتاريخها وعشائرها ومساجدها وديمغرافيتها هي الرافعة الأساسية للقيادة السنية في المنطقة من منظورهم الخاص، وبالتالي منها إلى العالم، فهي بيضة القبّان.
ومَن يستحوذ على استمالة الشارع السني السوري تكون له الأفضلية في السباق على كرسي الزعامة السنية في المنطقة وهو المنصب الفخري الذي تدور رحى حرب ضروس فيما بين النظام الإخواني في تركيا والنظام السلفي في السعودية فكل يرى نفسه صاحب الكلمة الفصل في العالم الإسلامي السني وهذا ينعكس على السياسيات التي تقوم بها كلتا الدولتين مهما كان الطابع الدبلوماسي طاغي في التعامل الثنائي.
قسد خط الدفاع الأول لحماية الأمن القومي لدول الشرق الأوسط
على الحدود الشمالية السورية كانت قوات سوريا الديمقراطية خط الدفاع في مكافحة المجموعات المتطرفة من المرتزقة التي استخدمتها دولة الاحتلال التركي لتمرير مشاريعها في سوريا وفي الدول العربية عموماً وأفشلت شعوب إقليم شمال شرق وسوريا بكردها وعربها وسريانها وكل الشعوب مخططات الاحتلال ودوره الخبيث بتفتيت المنطقة.
وعلى هذا النحو يرى خبراء أن الجهة الوحيدة التي من الممكن أن تشكل درعاً حقيقية لمكافحة المشاريع الاحتلالية والتوسعية التي من الممكن أن تنفذها تركيا على الأرضي السورية ومنها إلى الدول العربية الأخرى هي قسد كقوة منظمة وفعالة ومتمرسة في الميدان.
فمع توغل الاحتلال التركي منذ سقوط النظام ومحاولته الهيمنة على القرار السياسي وتوغله في المفاصل السياسية والأمنية والعسكرية يتبين توجه أردوغان وسعيه لتحقيق مشاريعه ومن أولى أولوياته محاربة قسد تحت ذرائع واهية يسوقها للعالم لشرعنة ممارساته بينما الدول العربية وبقيادة المملكة العربية السعودية تدرك حجم الخطر القادم.
يأتي اجتماع الرياض بعد لقاء استضافته مدينة العقبة الأردنية منتصف الشهر الماضي، أكدت خلاله لجنة الاتصال الوزارية المعنية بسوريا الوقوف إلى جانب الشعب السوري في هذه المرحلة التاريخية لإعادة بناء وطنه على الأسس التي تحفظ أمنه واستقراره وسيادته ووحدته، وتلبي حقوق شعبه في حياة آمنة، حرة، مستقرة، كريمة على أرضه.
وشددت اللجنة، المُشَكّلة بقرار من جامعة الدول العربية، على دعم عملية انتقالية سلمية سياسية سورية جامعة، تتمثل فيها كل القوى السياسية والاجتماعية، وترعاها الأمم المتحدة والجامعة العربية، ووفق مبادئ قرار مجلس الأمن رقم 2254 وأهدافه وآلياته.
لكن وبحسب مراقبين هذا غير كافٍ لكبح جماح الأطماع التركية إنما دعم موقف قسد المناهض للمشروع التركي في المنطقة هو ما يستوجب الدعم اليوم لأن قسد باتت درعاً وخط الدفاع في مواجهة المد التركي القادم إلى عمق الدول العربية بمشاريع احتلالية لن تستثني أحداً، وهو ما يراه الكثيرون إنه مثار قلقٍ مصري سعودي أردني على وجه الخصوص.
ففي نهاية المطاف، السوريون يرون أن من مصلحة بلادهم خلق توازن عربي مع زيادة النشاط التركي المثير للقلق وبما أن المسألة السورية باتت مسالة دولية وإقليمية بامتياز يجب أن تلعب هذه الدول دوراً إيجابياً يصب في صالح السوريين الذين باتوا اليوم ليسوا بحاجة للوصاية من أحد وإنما بحاجة لدعمٍ يعزز موقفهم في رسم معالم دولتهم المستقبلية.