حمزة حرب
عانى الشعب السوري من ويلاتٍ متراكمة نتاج نظامٍ مستبدٍ قمعي أدى لانفجارٍ شعبي كبير قاد لسقوطه بعد 14 عاماً، وخلال هذه السنوات لعب المحتل التركي دوراً سلبياً وكان الشعب السوري كمن يرقص مع الثعبان بعلاقاته مع تركيا فمنذ اللحظة الأولى كانت المساومة والابتزاز والصفقات عناوين هذه العلاقة حول الشعب السوري لمرتزقة ومتسولين وأدوات لتحقيق أطماعه التوسعية واليوم وبعد خلاصهم من نظام الأسد يحاول ركوب الموجة والهيمنة على القرار السوري السيادي.
مخططات دولة الاحتلال واضحة بالسعي لاحتلال المنطقة، وتوسع نفوذه على حساب الشعب السوري، وامتلاك شمال سوريا، لصالح تركيا، وتهجير أبناء الشعب السوري، الأمر الذي كشف عن مخططه التآمري في المنطقة، ودخوله من أجل هذه المصالح التي يريد الحصول عليها على حساب الشعوب فمخططات أردوغان الغرض منها واحد وهو تنفيذ الخلافة المزعومة التي يسعى لها من خلال تدخلاته في شؤون ليبيا وسوريا، وذلك بدعم عدد من المجموعات من المرتزقة والإرهابيين لارتكاب الجرائم طمعا في تنفيذ المخطط التركي في الكبير وفق ميثاقه الملي.
تركيا ومخططاتها الخبيثة
العلاقات السورية التركية ما بين عامي 2002-2010 مرت بتنامي كبير حتى وصل الحال لوصفها بالأخوة السورية التركية والنظام السوري حينها تناسى تماماً قضية لواء إسكندرون الذي أسقطه عن خرائطه الرسمية وفي الكتب المدرسية فهذا اللواء والذي يعتبر جزاً لا يتجزأ من الأراضي السورية سلب بعملياتٍ متدرّجة وبأنفاسٍ طويلة ومناوراتٍ سياسية ومعاهداتٍ مع فرنسا بوصفها الدولة المنتدبة والضامنة لسيادة البلد المحتل حينها إضافةً إلى مماطلاتٍ مع الجانب السوري وتغييرات على الأرض واجتثاث العنصر العربي وعمليات نقلٍ سكاني وطردٍ وإحلال، فضلاً عن ضغوطٍ عسكرية على الحدود، تلاه تدخّلٌ عسكري فعليّ، وتغييرات مفصلية للجهازين الأمني والإداري في اللواء.
سردية تاريخية تقودنا إلى فهمٍ أعمق لما يحاول المحتل التركي فعله على الأرض يومنا الحاضر خصوصاً بعد إن انقلب على أعز أصحابه بشار الأسد وباع صداقتهما في سوق النخاسة، وتاجر بمصير السوريين وسعى بكل السبل ولا زال لتكرار تجربة لواء إسكندرون في عفرين وشمال حلب وسرى كانيه وكري سبي/ تل أبيض والقلق الذي قد يطال مصير هذه المناطق مع اختلاقها ذرائع واهية بعنوان “الأمن القومي التركي ” كانت البداية مع نقل ضريح سليمان شاه في شباط 2015 حين أرسلت أكثر من 500 جندي و150 دبابة وآلية إلى الداخل السوري لتنفيذ مهمّة النقل إلى قرية أشمة بالقرب من كوباني.
وعلى الرغم من أن أنقرة كان بمقدورها نقل الضريح إلى الداخل التركي، لكن إصرار أنقرة على الإبقاء على مخفر الضريح يعكس رغبة في أن لها في سوريا حَرماً تستوجب حمايته من خلال التدخل العسكري وهو ما يذكرنا برواية “مسمار جحا” لكن هذا على ما يبدو، لم يكن كافياً لأنقرة لتنفيذ تدخلها الأكبر والأكثر جدية حينما جاء اعتداء آب 2016 رفقة المجموعات السورية المسلحة الموالية لتركيا حيث احتل جيشها مدينة جرابلس.
لم يثر تدخلها آنذاك أي رد فعل أميركي أو روسي، ولم تضطر تركيا لشرح موقفها القانوني من العملية، على عكس عملية احتلال عفرين التي بدأت رسمياً في 20 كانون الثاني 2018. وقتذاك، تذرعت أنقرة بحماية “أمنها القومي”، هذا الأسطوانة المشروخة التي روجت لها دولة الاحتلال وشكلت فزاعة لكل من يعترض على قرارات الاحتلال التي تسوقها ثم أنها تمسك بورقة اللاجئين بوجه أوروبا وقالتها صراحة سنغرق أوروبا باللاجئين وهو ما كانت تخشاه هذه الدول.
تركيا دولة احتلال
وبالنظر لما تم ارتكابه على الأرض من عمليات احتلال وترسيخ وجود وبناء قواعد وتمدد على حساب الجغرافية السورية بصفقاتٍ مشبوهة مضت بما سمي بمسار استانا تارة وبتوافقاتٍ ثنائية تاراتٍ أخرى نرى أنه كانت تتذرع دولة الاحتلال بالمادة 51 من الجزء السابع لميثاق الأمم المتحدة، وهي المادة ذاتها التي شكلت الأساس النظري للحرب الروسية على أوكرانيا فيما بعد.
وتنص المادة على أنه “ليس في هذا الميثاق ما يضعف أو ينتقص الحق الطبيعي للدول، فرادى أو جماعات، في الدفاع عن أنفسهم إذا اعتدت قوة مسلحة على أحد أعضاء الأمم المتحدة وذلك إلى أن يتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة لحفظ السلم والأمن الدولي” لكن السؤال المحوري هل كانت عفرين البلدة أو القرى الصغيرة مقارنة بحجم تركيا التي تعتبر نفسها في مصاف الدول الأولى تقدماً في حلف الناتو عسكرياً تعتدي على تركيا أو تشكل خطر حقيقي على أمنها؟؟ الجواب بالطبع لا لكن أطماع الاحتلال بدأت من جرابلس لتصل إلى عفرين وتعود لسري كانيه وكري سبي واليوم منبج والعيون شاخصة نحو كوباني استكمالاً لمشروعها من حلب الى الموصل وضمها كما ضم لواء إسكندرون وبالتالي ما تقدمه تركيا من ذرائع أو ركائز تقول عنها قانونية لا تتعدى كونها ذراً للرماد في العيون يؤكد خبراء.
لأن هذه المادة تبقى عصية على التفسير المناسب وحمّالة أوجه، ذلك أن تركيا لم تتعرّض لأي اعتداء موثّق ومؤكّد من القوات التي كانت تحمي عفرين، وأن عملية الاحتلال إنما جاءت في سياق سياسيّ داخلي للحزب الحاكم في تركيا تغذّيها سياسات التوسّع التركية المتعارضة مع القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، فضلاً عن أن مجلس الأمن لم يتخذ حتى اللحظة أية تدابير لحفظ السلم والأمن الدولي وهو الأمر الذي يترك الاحتلال التركي خارجاً عن الموجبات التي تفرضها قواعد الأمم المتحدة على دول العالم.
كرّرت تركيا خرق القانون الدولي والدولي الإنساني في مرحلة احتلال تركيا لمنطقة سري كانيه وكري سبي في تشرين الأول 2019، ودائماً بالاستناد إلى المادة 51 الملتبسة، والتي باتت تبرر الاعتداء على دول الجوار واحتلال أجزاء من أراضيها، والتي تستخدمها روسيا في حربها على أوكرانيا أيضاً لكن الحقيقة كان وصول تركيا لاتفاقيات مع وروسيا في عفرين، والولايات المتحدة في سرى كانيه وكري سبي، وهو المسبب المباشر لتنفيذ الاحتلالين وليس نص المادة الذي تحوّل إلى غطاء لعملية الاحتلال.
واقعياً، تُصنّف تركيا دولة محتلة بموجب القانون الدولي الإنساني، وتحديداً وفقاً لمعاهدة لاهاي الموقّعة عام 1907، إذ تنـص المـادة 42 مـن اتفاقيـة لاهاي علـى مـا يلي ” تعتبـر أرض الدولـة محتلـة حيـن تكـون تحـت السـلطة الفعليـة لجيـش العـدو ولا يشـمل الاحتلال سـوى الأراضي التي يمكن أن تمارس فيها هذه السـلطة بعد قيامها” إضافة لما ورد في اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 الذي يعزز ذات المنحى.
ووفقاً لذلك، تقع على تركيا موجبات دولة الاحتلال المحددة في اتفاقية لاهاي، إذ يشير القسم الثالث من الاتفاقية إلى وجوب التوقف عن ارتكاب الانتهاكات المادة 46 التي تنص على أنه ينبغي احترام شرف الأسرة وحقوقها، وحياة الأشخاص والملكية الخاصة التي لا يجوز مصادرتها، وكذلك المعتقدات والشعائر الدينية كما تحضر المادة التي تليها السلب والنهب حظراً تاماً.
وبتتبع هذه المواد ودرجة خرقها، بالنظر للواقع التي تشهده مناطق عفرين وسرى كانيه، يمكن القول إن تركيا والمجموعات المرتزقة الموالية لها ارتكبت كل ما يعتبر انتهاكاً لهذه المواد ولعل تهرّب تركيا المستمر من وصف نفسها كقوة احتلال يجنبها الانتقادات والمحاسبة القانونية، كما أنها باعتمادها على المرتزقة السوريين الموالين لها، أو المجالس المحلية والحكومة الشكلية المنبثقة عن الائتلاف، لا ينفي عن تركيا صفة الاحتلال.
إذ لا ينبغي، بالضرورة، أن تمارس تركيا السـيطرة الفعليـة مباشرة مـن خلال القـوات المسلحة التابعـة لسـلطة الاحتلال؛ فالاحتلال الحربـي يمكـن أن يوجـد أيضـاً عندمـا تمـارس دولـة أجنبيـة سـيطرة عامـة علـى سـلطات محليـة تمـارس بدورها سـيطرتها الحكومية المباشرة بوصفها وكيلة للدولة بحكم الواقع، نيابة عـن سـلطة الاحتلال وهو ما يعني أن الاعتماد على الوكلاء المحليين لا يشكل غطاءً قانونياً للقوة المحتلة الأصلية ولا ينزع عنها صفة الاحتلال.
تركيا تعادي أي مسعى ديمقراطي في سوريا
وعلى الرغم من محاولات تركيا المشبوهة التي تقود لتفتيت النسيج والجغرافية السورية منذ بداية الأزمة إلى يومنا الحاضر سعت مؤخراً إلى ركوب موجة انهاء حقبة النظام بعد أن سقط وتصدر المشهد وذلك مرده لغياب أي دور كفيل بخلق توازن على الساحة السورية حصوصاً دور الدول العربية وعلى رأسها السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي لذا تحاول تصدر المشهد وتقديم نفسها على أنها الراعي الرسمي لثورة الشعب السوري. بينما في حقيقة الأمر تحاول الهيمنة على القرار السيادي في البلاد ومنع حدوث أي خرق باتجاه العملية السياسية التي يتطلع لها الشعب السوري في نهاية المطاف، وبينما سقط النظام ومن المفترض أن تكون أكبر عقدة أمام السوريين لتحقيق تطلعاتهم قد ازيحت من طريق توافق السوريين إلا أنهم لم يصلوا بعد إلى مثل هذا التوافق وذلك مرده إلى تدخلات الاحتلال التركي أنفة الذكر.
علاوة على ذلك لا زالت دولة الاحتلال تغذي الجبهات في الشمال السوري بمنبج وسد تشرين، وقرقوزاق لأنها ترى أن مخططها الخبيث لن ينجح إلا بالقضاء على نواة الحل الديمقراطي في البلاد ووأد هذا المشروع في مهده وهو مشروع الإدارة الذاتية الديمقراطية لإقليم شمال وشرق سوريا.
فتارة تحاول بالقوة العسكرية الغاشمة التي تتصدى لها قوات سوريا الديمقراطية، القوات التي ساهمت في انهيار أكبر منظومة إرهابية هددت البشرية وهي مرتزقة داعش وكانت رأس حربة في الدفاع عن السلم والأمن الدوليين وتارة أخرى تحاول دولة الاحتلال بإشعال فتيل الفتن الداخلية إما أن تكون فتناً “كردية – كردية” أو فتن “عربية – كردية” وبكلا الحالتين فشلت إلى الآن في إحداث خرقٍ يذكر.
والجميع يدرك الدور التخريبي المدمر الذي لعبته تركيا التي يقود حكومتها تحالف عنصري قوموي ضد كل شعوب المنطقة وخاصةً الكرد والعرب والآن تعاني من أزمات وإعادة العلاقات دون ضمانات ومد حبل النجاة لها يعني إعطاء فرصة للعنصرية ولمركز تنظيم وتمويل الإرهاب المتمثل بداعش وغيرها للانتعاش من جديد. ولا يخفى على أحد الهدف الرئيسي لدولة الاحتلال التركي من تقربها مع الحكومة السورية هو إفشال مشروع الإدارة الذاتية لإقليم شمال وشرق سوريا التي حافظت على وحدة الأراضي السورية، والنسيج الاجتماعي وحاربت الإرهاب وأصرت على الحوار الداخلي مع الحكومة السورية وكل الأطراف لحل الأزمة السورية.
المقاومة… سلاح الشعوب لنيل الحقوق
دخلت سوريا عامها الجديد متخلصة من ستة عقود حكم فيها حزب البعث البلاد بقبضة حديدية، فرض فيها الظلم والاستبداد بحق الشعوب السورية عامة، ضمن نظامٍ دكتاتوري منتجٍ للأزمات، محولاً البلاد إلى ساحة صراع عالمية وإقليمية على حساب دماء الشعب السوري.
تحتفل غالبية المناطق السورية منذ أسابيع بانقضاء حقبة مظلمة من تاريخ البلاد، بينما تحاول دولة الاحتلال التركي الاستفادة من الانشغال السوري برحيل الأسد للسيطرة على شمال سوريا في إطار أحلامها لإعادة الأمجاد العثمانية وما حطم أمالها الخبيثة هي مقاومة الأبطال الذين كسروا خلافة مرتزقة داعش المزعومة. فيخوض المقاتلون كرداً وعرباً وسرياناً وكل الشعوب الموجودة في مناطق شمال وشرق سوريا مقاومة تاريخية أمام أطماع تركيا العثمانية التي تهدد وحدة الأراضي السورية، حيث تشكل جبهتا سد تشرين وجسر قرقوزاق جبهة المقاومة أمام الهجمات التركية ضد سوريا.
فمنذ ما يقارب الشهر من الحرب الضروس لم تفلح الهجمات البرية للمجموعات المرتزقة التابعة للدولة التركية رغم الغطاء الجوي التركي باستخدام الطائرات المسيّرة والحربية وقصف 280 مرة جواً، في التقدم صوب القرى التي حولتها قوات سوريا الديمقراطية إلى خط الدفاع الأول عن سد تشرين، في الضفة الغربية لنهر الفرات على بعد ثمانية كيلو مترات من السد.
في الضفة الشرقية للنهر وبالقرب من الجسر تحاول دولة الاحتلال إلى إعادة “مسمار جحا” ودقه في الجغرافية السورية مجدداً بنشر قواتها في موقع قبر سليمان شاه الذي نقلته تركيا عام 2015، وإعادة الرفات إلى هناك، لبناء قاعدة عسكرية في الموقع، وذلك ما رفضته قوات سوريا الديمقراطية وعرضت مبادرة فحواها الالتزام بالاتفاقيات المعمول بها قبل اندلاع الثورة لكن دولة الاحتلال لم تقبل بهذه المبادرات.
فالهجمات تترافق مع سلسلة جولات لمسؤولين أتراك إلى دمشق ولقاء الحكومة السورية المؤقتة، حيث تصرفات السيطرة والوصاية بادية للعيان، بينها تصريحات حول استعداد تركيا لتدريب جيش سوريا الجديد، والاشتراك بمشاريع للطاقة وصولاً إلى ترسيم الحدود البحرية، في محاولات لشرعنة احتلالها لسوريا ووضع الحكومة الجديدة تحت جناحها.
بينما تبقى آمال السوريين بأن تُفشل مقاومة أبنائهم كل المخططات الخبيثة التي تسعى لتفتيت النسيج الاجتماعي والخارطة الجغرافية لسوريا ما يهدد وحدتها وسلامة أراضيها فيما تبقى العيون شاخصة إلى توافقٍ سوري سوري ينهي المعاناة ويغلق الأبواب المشرعة للتدخلات الخارجية والأطماع الإقليمية والدولية، وهذا رهن ما سترسمه المرحلة المقبلة من انفتاحٍ داخلي سياسي ووعيٍ دبلوماسي لعدم تكرار تجارب لواء إسكندرون والجولان السوري.