الدرباسية/ نيرودا كرد – تستمر دولة الاحتلال التركي في فرض وصايتها على الداخل السوري، وخاصة، بعد سقوط النظام السوري، وتسلم هيئة تحرير الشام زمام الأمور في دمشق، وتصريحات المسؤولين في تركيا تؤكد مدى تدخلها السافر في شؤون سوريا، الأمر الذي سيطيل عمر الأزمة السورية بشكل أكبر.
لم تكتفِ دولة الاحتلال التركي بالمواقف السلبية، التي أبدتها خلال عمر الأزمة السورية، وما نتج عنها من احتلال تركي للأراضي السورية، وكذلك المساهمة في عرقلة الحوارات السورية التي كانت تهدف للخروج من الأزمة السياسية بالطرق السلمية، لتستكمل اليوم الدور نفسه للسيطرة على القرار السوري، والحصول على أكبر قدر ممكن من الكعكة السورية.
انتداب سوريا هدف تركي
فمن جهة، سارعت دولة الاحتلال التركي، إلى عقد اللقاءات مع إدارة هيئة تحرير الشام في دمشق، وكذلك إعادة العلاقات الدبلوماسية من خلال تعيين قائم بأعمال السفير هناك، ومن جهة أخرى، تستمر لغة التهديد والوعيد وبث الفتنة بين مكونات الشعب السوري، لإعادة إنتاج الفوضى في سوريا، وإبعادها ما أمكن عن الاستقرار الذي ينشده الشعب السوري منذ عقود.
ففي آخر تصريح لوزير خارجية الاحتلال التركي هاكان فيدان، عاد مرة أخرة ليهدد شعوب إقليم شمال وشرق سوريا، بهجمات احتلالية جديدة، باللهجة العدائية نفسها، التي عهدناها من الساسة الأتراك، وفي التصريح ذاته، حث وزير خارجية الاحتلال التركي إدارة هيئة تحرير الشام، وأبو محمد الجولاني، على مهاجمة إقليم شمال وشرق سوريا، في مسعى واضح لإعادة الأزمة السورية إلى المربع الأول.
تصريحات فيدان سبقتها تصريحات لرأس النظام التركي، أردوغان، وكذلك وزير دفاعه، التي جاءت في السياق العدائي ذاته، حيث قال الأخير: إن بلاده تواصل هجماتها الاحتلالية البرية ضد إقليم شمال وشرق سوريا، وشعوبها الآمنة، ما لم تستسلم للشروط والإملاءات التركية.
لعل فهم هذه اللغة وهذه التهديدات من دولة الاحتلال التركي لا يحتاج لذلك الجهد الكبير، فهدف دولة الاحتلال التركي منذ انفجار الأزمة السورية عام 2011، واضح ولم يتغير حتى هذه اللحظة، الهدف التركي المعروف هو عرقلة أي محاولة لإرساء الاستقرار على الأراضي السورية، ومنع السوريين من التفاهم فيما بينهم والوصول بسوريا إلى بر الأمان.
السعي التركي المحموم لتعقيد الأوضاع في سوريا، يأتي ضمن المحاولات التركية المستمرة لتصدير الأزمات الداخلية إلى دول الجوار التركي، وخاصة إقليم شمال وشرق سوريا، هذا الهدف الرئيسي الذي كان وراء الهجمات الاحتلالية التي شنتها دولة الاحتلال التركي، على الأراضي السورية، والتي قامت باحتلال جزء هام من الأراضي السورية.
تصدير الأزمة الداخلية للخارج
استمرار تصدير الأزمات الداخلية نحو الخارج، يعني عمليا استمرار تكميم أفواه الشعب التركي عن كل الأفعال، التي ترتكبها حكومة العدالة والتنمية في الداخل التركي، بحجة وجود (تهديدات خارجية) على الأراضي التركية، ضف إلى ذلك، تهرب دولة الاحتلال التركي من استحقاق الانسحاب من الأراضي السورية، التي تحتلها والسعي لاحتلال مساحات أوسع تمهيدا لاستكمال عملية تتريك الأراضي السورية، وصولا إلى الحلم القديم – الجديد المتمثل بإعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية البائدة.
تحقيق الهدف التركي الأزلي، يتطلب توسيع الحدود التركية المرسومة منذ سايكس بيكو، وهذا بدوره يتطلب اقتطاع المزيد من الأراضي السورية، وكذلك العراقية، الأمر الذي لا يخفيه الساسة الأتراك، خاصة عندما يتحدثون عن حلب والموصل وكركوك، وبسعيهم لاستعادة هذه الأراضي التركية حسب قولهم، فهي لا تهدد الأراضي السورية فحسب، بل تشكل تهديدا جديا للأراضي العراقية.
وانطلاقا من علمنا المسبق بالنوايا والأهداف التركية، يجب على الأطراف السورية، ولا سيما إدارة هيئة تحرير الشام، وعلى رأسها أبو محمد الجولاني، ألا ينجر وراء هذه النوايا التركية الخبيثة، والعمل بكل الوسائل الممكنة لصدها والوقوف في وجهها، ولكن حتى اللحظة لا يملك أية إرادة للوقوف في وجه هذه المحاولات، لا سيما بعد العناق الحميم بينه، وبين وزير خارجية الاحتلال التركي، إبان زيارة الأخير لدمشق، وكذلك توحي الأنباء الواردة حول لقاء مرتقب يجمع بين أردوغان والجولاني في أنقرة، بأن إدارة هيئة تحرير الشام، لا تزال تسير في ركب دولة الاحتلال التركي، ولا تنوي الانفكاك عنها.
إن فتح صفة جديدة في التاريخ السوري، بعد ذلك الفصل المأساوي الذي عاشه السوريون لأكثر من نصف قرن تحت سلطة آل الأسد، يتطلب الالتفات نحو الشعب السوري، وإيجاد القواسم المشتركة التي تجمعهم للتصدي لكل ما يستهدف وحدة وسلامة الأراضي السورية، وكذلك فإن المطلوب اليوم هو العمل بشكل حثيث لإخراج كل القوات الأجنبية من الأراضي السورية، وعلى رأسها جيش الاحتلال التركي.
من هذا المنطلق، فإن مسارعة إدارة هيئة تحرير الشام، لفتح قنوات الحوار مع الأطراف السورية باتت حاجة ملحة اليوم لمصلحة الشعب السوري، ولعل من أبرز الأطراف التي يتعين على إدارة الجولاني تكثيف وتعميق الاتصال والحوار معها هي قوات سوريا الديمقراطية، والتي تشكل القوة المسلحة الأكثر تنظيما وانضباطا على الأراضي السورية اليوم، هذا الحوار الذي يجب أن يشكل أرضية للانطلاق منها نحو تشكيل جيش سوري جديد موحد، يستلم مهمة الحفاظ على الأمن والسلام على كامل الأراضي السورية.
الإدارة الذاتية حل واقعي
تشكيل الجيش السوري الجديد، من شأنه إبعاد خطر التقسيم الذي تسعى إليه دولة الاحتلال التركي في سوريا، وكذلك للوقوف في وجه التهديدات التركية التي تتوعد بمواصلة احتلال الأراضي السورية، الأمر الذي يبعد شبح إعادة إنتاج الأزمة السورية بشكل أكثر دموية وأكثر دماراً، ما سيؤدي بالضرورة إلى إعادة انتشار الفوضى في سوريا، وحتى في الإقليم بشكل قد يكون السيطرة عليه غير ممكنة.
إن سوريا الجديدة التي يريدها السوريون هي سوريا حرة تعددية ديمقراطية، بعيدة عن الوصايا والإملاءات الخارجية، فالشعب السوري اليوم يرفض الدخول تحت السترة الأردوغانية، بعد أن خرج من تحت العباءة الإيرانية، التبعية والولاء الذي مارسته سلطة آل الأسد خلال فترة حكمها لم تجلب لسوريا والسوريين سوى الدمار والقتل والتشريد، لذلك يسعى الشعب السوري اليوم للخروج من تحت الوصايات الخارجية، والاتجاه نحو الحوارات الديمقراطية.
ولعل النظام السياسي الأنسب الذي يطمح إليه الشعب السوري هو سوريا تعددية لا مركزية تعيد للسورين حقهم في إدارة أنفسهم، خاصة بعد عقود من المركزية المطلقة التي اتبعتها سلطات النظام السابق، والتي كانت قائمة على حصر القرار السوري في يد الرئيس، ورسم كل سياسات الإقصاء والتهميش التي كانت متبعة بحق مكونات الشعب السوري.
أثبتت التجربة المأساوية التي عاشها الشعب السوري، بأن سوريا لا تحتمل اللون الواحد والحزب القائد، بل تحتاج إلى نظام سياسي وإداري، يعبر عن كافة الأطياف والألوان في سوريا، والذي يشكل بمجموعه عامل قوة لسوريا الجديدة، لذلك فإن أي محاولة لإعادة إحياء التجارب الماضية، تعني عمليا التضحية بما تبقى من سوريا، وصولا إلى إنهاء سوريا ككيان جغرافي موجود في المنطقة.
عاشت سوريا خلال العقود الماضية، وخاصة في سنين الأزمة في ظل العديد من الإدارات والسلطة التي تقاسمت الأرض السورية، إلا إن هؤلاء لم يستطيعوا تقديم أي شيء للشعب السوري، وكان الوجه المشرق على كامل الأرضي السورية، نموذج الإدارة الذاتية الديمقراطية المطبق في إقليم شمال وشرق سوريا، والذي أثبت مدى فاعليته وتلبية لمصالح السوريين، لذلك فإن الوصفة الأنجح لسوريا المستقبل هي تعميم هذا النموذج على الأراضي السورية، حيث يتيح للشعب السوري بأن يدير نفسه بنفسه بكل ديمقراطية وشفافية، بعيدا عن عقلية التفرد بالسلطة ومحاولات فرض هيمنة جديدة.
إن الوصاية التي تسعى دولة الاحتلال التركي لفرضها على الشعب السوري، تشكل حجر عثرة أمام الاستقرار السوري، وتؤدي بالمحصلة إلى وضع العصي في العجلات، والوقوف أمام أي حل للأزمة، لذلك فإن استعادة السيادة والقرار السوري، يجب أن يكون في أيدي السوريين، وهي المهمة الأولى في المرحلة الحالية التي تمر بها سوريا، وهذه المهمة تتطلب سعة الصدر والمرونة في التعاطي بين جميع الأطراف السورية، وكذلك الوقوف بحزم في وجه مطامع دولة الاحتلال التركي، وغيرها من القوى الخارجية التي تحاول تحقيق مصالحها في سوريا