حمزة حرب
تغيرت ملامح سوريا في الثامن من شهر كانون الأول من العام المنصرم الذي لم يكن كسابقه من الأيام في تاريخ سوريا الحديث، حيث أدى انهيار النظام السوري السابق إلى تغيير معالم البلاد بعد أكثر من 50 عاماً على حكم الأسدين الأب والابن بالحديد والنار، فأسفر الانسحاب غير المنظم للنظام إلى حالة إعلان غير مباشر عن سقوط العاصمة دمشق إيذانًا بنهاية فصل من الحرب وبداية آخر لا تزال ملامحه غامضة.
أُسدِل الستار على مشهد درامي؛ فقوات النظام السابق التي طالما أحكمت قبضتها الأمنية على دمشق انسحبت من الحواجز والنقاط الرئيسية، تاركة المدينة أمام مصير مفتوح بل تاركة البلاد برمتها أمام مصيرٍ مفتوح حينها كانت هيئة تحرير الشام تقارع النظام على تخوم حمص لتدخل مجموعات من سكان الجنوب السوري العاصمة دمشق تحت مظلة “غرفة عمليات الجنوب”، التي نسقت فيما بينها في هجوم منظم وسريع كاشفة عن ضعف دفاعات النظام في محيط العاصمة.
سقوط النظام ورهان الفوضى
مع انتشار خبر سقوط النظام، بدأت دمشق تستيقظ على مشهد غير مألوف، فخرج المدنيون من منازلهم ببطء ووجل، وكأنهم يعيدون اكتشاف مدينتهم التي طالما كانت تحت حصار الخوف والرقابة الأمنية. الشوارع، التي كانت دائمًا تعج بالحواجز والنقاط العسكرية، أصبحت فجأة خالية من أي مظاهر السلطة.
مئات العناصر من القوات الأمنية التابعة للنظام تركهم ضباطهم المسؤولون دون توجيهات، فرّوا متخلِّين عن بدلاتهم العسكرية التي طالما كانت رمزًا للهيمنة، وكانت تخيف السكان وتُثير فيهم الرهبة طوال العقود الماضية، أصبحت فجأة عبئًا على من يرتديها، حيث شوهدت مرمية على جوانب الطرقات، إلى جانب أحذية عسكرية استبدلت بأخرى رياضية ومدنية، تُساعد الجنود على الركض وإخفاء هوياتهم.
لكن فرحة السوريين بزوال الخوف من نظامٍ غاشم ظالم خصوصاً مع بروز المشاهد التي تخرج من سجونه ومعتقلاته وبدت تتكشف أوراق إجرامه بحق الشعب السوري، لكنها ظلت فرحة تعتريها مشاعر مختلطة من القلق والذعر تجاه المجهول القادم، كان السوريون يحاولون التكيف مع واقع جديد يتشكل أمام أعينهم وبقدر ما كان سقوط النظام إيذانًا بنهاية مرحلة، فإنه فتح الباب على أسئلة كثيرة حول مستقبل المدينة وأهلها.
نشوة الخلاص من النظام انقضت بساعاتٍ قليلة لتتكشف ملامح مرحلة جديدة من الفوضى خصوصاً تلك الحالات غير منضبطة التي بدأت تتفشى بالانفلات في شوارع العاصمة والكثير من المدن الأخرى في الداخل والساحل خصوصاً باقتحام المباني الحكومية والأفرع الحزبية وبعض عمليات النهب والسلب، وهو ما راهن عليه النظام على ما يبدو بإدخال البلاد بحالة من الفوضى خصوصاً إذا امتزجت بطابعي الغضب والثأر.
المباني التي لطالما كانت رموزًا لهيمنة النظام وذراعه الأمني أصبحت هدفًا للحشود، اقتحم الناس المكاتب، حطموا الأثاث، سرقوا المحتويات، وكأنهم يعيدون كتابة العلاقة التي جمعتهم بهذه المؤسسات لسنوات طويلة فحالات السرقة والنهب والتخريب لم تكن لحاجة بقدر ما كانت تأخذ طابع الانتقام من هذه المباني، التي شكلت لهم رعباً طويلاً فالناس لا يربطهم مع هذه المؤسسات أو المباني أي رابط، ولا يشعرون أن هذه المباني ملك لهم كانت دائمًا تابعة للنظام، وكل ما فيها كان مسخرًا لخدمته ومسلطاً على رقابهم.
مشاهدٌ مرعبة عناوينها الثأر والانتقام
بينما دمشق كانت حلقة استقطاب الأضواء العالمية والإعلام الدولي والوفود الرسمية وتسمع فيها الأهازيج والأفراح والليالي الملاح بسقوط نظام بشار الأسد وجدت الطائفة العلوية، التي ينتمي إليها الرئيس الهارب بشار الأسد، نفسها أمام مصير مجهول وأعمال انتقامية، ووضع اقتصادي صعب بحكم ما تمر به البلاد، والسلطات الجديدة المنبثقة عن تيار إسلامي متشدد، تبقى هذه الأقلية في حيرة من أمرها وقلق على مستقبلها.
وبدأت ترشح اللقطات المصورة التي تبين حجم الاعتداء اللفظي والجسدي النابع من حقد وانتقام من أشخاص في الساحل السوري والداخل أيضاً تم مهاجمة المقامات، وغيرها حيث يؤكد شهود عليان من الساحل السوري لصحيفتنا، أن الشارع العلوي خيم عليه الذعر بعد أن قيل لهم إنهم سيأتون ويذبحونكم ليدخل الشارع في دوامة الصراع من أجل البقاء.
وهو ما دفع آلاف السوريين العلويين للنزول إلى الشوارع في طرطوس، واللاذقية، وجبلة، وحمص، على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وهي أبرز معاقل هذه الطائفة تنديداً بالمضايقات الجسيمة التي يتعرض لها أبناؤهم ما استدعى من السلطات الجديدة أن تؤكد أن هناك فلولاً للنظام السابق يعملون على زعزعة الأمن والاستقرار لكن لم تكن هذه التبريرات مقنعة للشارع السوري بشكلٍ كامل مع تصاعد توثيقات بوقوع حالات انتقامية.
وعلى الرغم من تأكيداتٍ بدت تصدح بها حناجر من اعتلوا سدة حكم الأمر الواقع في البلاد أن جميع السوريين إخوة…لا خوف على أي كان… وأن من كانت أيديهم ملطخة بالدماء فروا ومن بقوا سنبني معهم سوريا الجديدة، وأن سوريا لكل السوريين لكن تبقى المعضلة الكبرى أن الطائفة العلوية لا تحجب نساءها، وتجيز شرب الخمر، وهو ما تعده الحركات السلفية “كفراً وزندقة” فكيف سيكون التعايش بهذه الحالة؟ تساءل مراقبون. لذلك؛ وجدت نفسها الطائفة العلوية بين مطرقة بطش النظام السابق، والخوف من دهاليز سجونه ومعتقلاته وسندان التهديد، الذي يطال وجودهم وبقاءهم على قيد الحياة على الرغم من أن العديد من النساء والرجال العلويين وقفوا ضد النظام السوري، ودعموا “الثورة” مخاطرين بحياتهم لكنهم لم يأمنوا الفكر المتطرف في مناخٍ تحكمه الفوضة وانعدام للغة العقل والقانون في البلاد.
والأخطر من ذلك أن هناك لقطاتٍ مصورة عديدة توثق أن من يقوم بالاعتداءات في معظم الأحيان يرتدون على ذراعهم أو على صدورهم راياتٍ سوداء لمرتزقة داعش، ويقدمون نفسهم على أنهم ينتمون لجهاز الأمن العام التابع للسلطة الحالية في سوريا، وإن مهامها ملاحقة المطلوبين والمجرمين المتورطين بجرائم قتل وانتهاكات ضد السوريين لكن هل كل من الطائفة العلوية محسوب على النظام السابق؟! هذا ما يشير له مراقبون ويؤكدون أن ظهور هذه الرايات هو مبعث قلقٍ داخلي وعالمي.
فالتوتر يتصاعد في الأحياء ذات الغالبية العلوية خلال عمليات دهم واعتقال، وهو مبعث خطير لمخاوف على مصير المناطق الساحلية؛ التي فقدت أدنى معايير السلم الأهلي، والتماسك المجتمعي في سوريا في ظل التطورات الحالية وتأثيرها في الواقع السوري.
فعلامات عدم الاستقرار بدت تطفو على السطح داخل المناطق الخاضعة لسيطرة السلطات المؤقتة، بما في ذلك حوادث العنف في المنطقة الساحلية وحمص وحماة وسط دعواتٍ سياسية لضرورة مد يد الطمأنينة والثقة لجميع المجتمعات في سوريا، وتعزيز المشاركة النشطة للجميع في بناء سوريا الجديدة.
هذه المشاهد العنصرية في المناطق، التي تسيطر عليها السلطات الجديدة لم تكن الفريدة من نوعها على الساحة السورية فقد نفذ جيش الاحتلال التركي ومرتزقته هجوماً واسع النطاق يحمل طابعاً انتقامياً ضد إقليم شمال وشرق سوريا مستغلين الظروف العامة والمناخ غير المستقر على الساحة السورية وانشغال العالم بسقوط نظام الأسد ليحاولوا السيطرة على مناطق واسعة من إقليم شمال وشرق سوريا.
المناطق السورية المحتلة.. نبع الفوضى ومرتع الإرهاب
وقبل ذلك كان المرصد السوري لحقوق الإنسان المعني بتوثيق الانتهاكات والتجاوزات قد بين أن عام 2024، كان مليئاً بالأحداث على الساحة السورية، وشهد تزايداً كبيراً في الجرائم وعمليات القتل في ظل الفوضى والفلتان الأمني ضمن المناطق السورية التي تحتلها تركيا ومجموعاتها المرتزقة، حيث قتل وأصيب المئات جراء انتهاكات وتفجيرات بتلك المناطق.
فقتل 420 شخصاً بأعمال عنف وتفجيرات في أرياف حلب الشمالية والشمالية الشرقية إضافة إلى حدوث 46 انتهاكاً، و65 تفجيراً واقتتالاً، في ظل الفوضى العارمة التي تعيشها تلك المناطق أرياف حلب وحدها قتل 199 شخصاً وأصيب 221 آخرين من مدنيين ومسلحين بجراح متفاوتة، بعمليات قتل وإطلاق للرصاص العشوائي وتفجيرات وجرائم قتل.
كما وثق 54 اقتتالاً بين المجموعات المرتزقة حصلت بتلك المناطق، أدت لمقتل 54 شخصاً، بينهم 29 مدنياً و25 من المرتزقة وإصابة العشرات وفي عفرين وحدها تم تسجيل 600 انتهاك، و30 تفجيراً، و133 ضحية لإجرام المرتزقة إلى جانب 111 عملية استيلاء على ممتلكات خاصة بالمواطنين، ونحو 30 تفجيراً واقتتالاً بين المرتزقة، أسفرت عن مقتل 76 شخصاً وإصابة 57 آخرين.
أما في سري كانيه وكري سبي، وثق المرصد مقتل 80 شخصاً وإصابة 68 آخرين بينهم مدنيون، واندلاع 11 اقتتالاً بين المرتزقة، وأربعة تفجيرات، والعشرات من عمليات الاختطاف للمدنيين بهدف الحصول على فدى مالية، مع الاستيلاء على ممتلكات المدنيين بقوة السلاح.
بينما المجتمع الدولي الذي طالبته جهات حقوقية عدة بضرورة حماية المدنيين ضمن تلك المناطق في ظل الفوضى والفلتان الأمني والمتمثل بعمليات سرقة وقتل ونهب وسلب واعتقال واختطاف، بإشراف مباشر من الاحتلال التركي وبمشاركته للمرتزقة بعمليات القتل والجرائم الممنهجة بحق السوريين.
فهذه الجرائم زادت من طابع التوتر والتوجس لدى السوريين من أن يسفر استغلال الوضع العام في سوريا بارتكاب المزيد من الجرائم بحق السوريين خصوصاً مع تزايد حالات الخطف والاعتقال والتنكيل والثأر الذي فرض على أهالي منبج بعد إن تم احتلالها من المجموعات المرتزقة التابعة للاحتلال التركي.
ولا زال المحتل التركي يسعى جاهداً للقضاء على أمل الشعوب في العيش بحرية وكرامة، ويحاول ضرب مكتسبات الشعوب التواقة للحرية والمتمسكة بتعايشها المشترك في ظل استحقاقاتٍ كبيرة تنتظرهم في السياق السوري العام بعد أن حافظوا على إقليم شمال وشرق سوريا خالياً من الفتنة والفوضى التي اعتلت المشهد السوري في النطاق العام.
إقليم شمال وشرق سوريا نواة بلدٍ مستقر
الشعب السوري بمختلف مكوناته، من عرب وكرد وسريان آشوريين، عاشوا في تناغم وتعاون لعقود طويلة، وهذه الوحدة يجب الحفاظ عليها في وجه محاولات التفريق والدور الإيجابي الذي لعتبه هذه الشعوب على مدار السنوات الماضية كان سبباً أساسياً في نجاح التجربة الديمقراطية القائمة اليوم في شمال وشرق سوريا.
فما تعاني منه البلاد يحتاج إلى تعايشٍ مشتركٍ حقيقي مبني على التسامح فسوريا بحاجة إلى رؤية مشتركة بين العرب والكرد وباقي الشعوب ومختلف الطوائف من سنة وعلوية ودروز وغيرهم الكثير من الشعوب المتجذرة على أرض هذه الجغرافية فالحل الأمثل هو تجاوز الخلافات وتحقيق مصالح الجميع فالتفرقة لن تصبّ في مصلحة أي طرف من الأطراف.
وهو ما يعول عليه السوريون ببناء حوار وطني مرتقب كي يكوّنوا تصوراً أكبر حول مستقبل بلدهم وطريقة حكمه، ولكن التفاصيل مازالت غير واضحة حول من سيشارك في هذا المؤتمر فهل تشمل المشاركة كل القوى السياسية؟ وهل يكون التمثيل بناء على أساس جغرافي محافظات، أم على أساس مذهبي/ ديني وأساس إثني، أم مزيج من كل ذلك؟
وينتظر أن يكون هذا المؤتمر مقدمة لتغييرات سياسية لاحقة، منها تشكيل حكومة انتقالية، لتخلف الحكومة الحالية، برئاسة محمد البشير، التي تقوم بتصريف الأعمال، والتي وجهت لها انتقادات بأنها من لون واحد، وتتبع لهيئة تحرير الشام. فيما رد القائمون عليها، بأن “ضرورات العمل في هذه المرحلة” تطلبت ذلك.
الطريق نحو الانتقال السياسي لا يزال غير واضح فإعداد دستور جديد من خلال عملية موثوقة وشاملة، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة تشمل جميع السوريين، وفقا للمعايير الدولية القائمة على العدالة والمساءلة والتعويض كل هذه تحديات أمام السوريين يلقى صداها رغبة عارمة بين مختلف أطياف المجتمع وهي ضمانة ضرورية وجوهرية للسلام المستدام والتماسك الاجتماعي.
هناك فرص هائلة لبناء أساس للسلام والاستقرار الدائمين في سوريا فشمال وشرق سوريا مثال على كل ما سلف من نقاط ارتكاز يستوجب البناء عليها عبر توافقات سورية سورية تُفضي إلى رسم معالم البلاد بانضمام كل مكونات الشعب السوري لا إقصاء ولا تهميش لأي فئة من الفئات وفق مبدأ العدل والمساواة في الحقوق والواجبات.
فالعمل على الانتقال السياسي الشامل هو الوسيلة الأكثر فعالية لبناء الثقة وضمان حصول سوريا بشكل عاجل على الدعم الاقتصادي الذي تحتاجه بشدة، وهو ما يتطلب بدوره إنهاء العقوبات بشكل سلس، وتوفير تمويل كبير بما في ذلك لإعادة الإعمار، وكل ذلك يحتاج إلى مقدمات التوافق السياسي فيما بين السوريين أنفسهم كي يحظوا بالانفتاح الكبير.
والركيزة الأساسية أن تبدأ السلطات المتواجدة في دمشق اليوم بالانتقال من الحالة الفصائلية والذهنية الشمولية إلى التعامل وفق معايير الدولة والانفتاح على الجميع ونبذ أي شكل من أشكال التعصب؛ لأن سوريا التاريخ والحضارة القائمة على التنوع لن يكتب لها بأي شكلٍ من الأشكال أن تكون شمولية إقصائية بحق شعوبها المتعايشة على مر التاريخ مهما حاولت أنظمة الحكم إفساد هذا التعايش ستبقى سوريا منبع التعددية والعيش المشترك.