بدرخان نوري
توجه آلاف المواطنين السوريين من مختلفِ المدنِ والبلداتِ إلى منشأةِ سد تشرين، سد الشهداء، ليوجهوا رسالةً واضحةً مفادها أنّ السدَ مرفقٌ حيويٌّ وطنيٌّ سوريٌّ وليس هدفاً عسكريّاً، وحمايته لا تقتصر على قوات سوريا الديمقراطيّة، بل يشاركون هذه القوات هذا الواجب ويقفون إلى جانبها في مواجهةِ جيش الاحتلال التركيّ والمرتزقة التابعين له، وجاءت مبادرة الأهالي بعد أكثر من شهر من الاستهداف المستمر لسد تشرين ما يُهدد بكارثة اقتصاديّة وإنسانيّة لمناطق سوريّة واسعة.السوريون يحمون السد
اتجه يوم الأربعاء آلاف المواطنين السوريين من شعوب مقاطعات الجزيرة والرقة والطبقة والفرات من الكرد والعرب والسريان، إلى منشأة سد تشرين، في مسعى شعبيّ لوقفِ هجماتِ جيش الاحتلال التركيّ ومرتزقتهم، بعد أكثر من شهر من الاستهدافِ المستمر والمعارك العنيفة، وبات السد مهدداً بالانهيار ما قد يؤدي إلى كارثةٍ إنسانيّةٍ واقتصاديّة بالغة الخطورة.
ولدى وصول القافلة إلى مفرق مدينة صرين، قصف جيش الاحتلال التركيّ القافلة، واستشهد على إثرها ثلاثة مواطنين وهم: زوزان حمو، كرم أحمد الشهاب الحمد عضوة تجمع نساء زنوبيا، آزاد فرحان محمد حسان؛ عضو حركة الشبيبة الثوريّة السورية، وأُصيب 15 آخرين، ورغم القصف التركي واصلت الحشود المسير مشياً، ووصلت إلى السد، وبدأت بفعاليات المناوبة على السد.
وواصل جيش الاحتلال التركيّ القصفَ مساءً واستهدف محيط السد بطائرة مُسيّرة، وقضى آلاف المواطنين ليلتهم على السد، مؤكدين أولوية حمايته مهما بلغ الثمن. كما استشهد المواطنان: مصطفى عفدي، علي شاشو بقصفٍ طال قرية كرك بريف كوباني.
واستهدفت طائرة مُسيّرة للاحتلال التركيّ صباح الأربعاء، سيارة مدنيّة عند مفرق قرية كركي خجو بمنطقة ديرك بضربتين متتاليتين، ما أدى لاستشهاد مواطن وإصابة آخر، واستهدفت طائرة مُسيّرة تركيّة سيارة في مركز أسايش كرك بريف كوباني، وأُصيب عضو في الأسايش، إضافة لقصفٍ مدفعيّ على قرية “أصلانكي” جنوب مدينة كوباني.
تشمل المواقع التي يستهدفها جيش الاحتلال التركيّ مواقع مدنيّة ومراكز خدميّة منها: صوامع قرية المشيرفة وقرية صكيرو بريف عين عيسى، ومحطة تحويل الكهرباء وصوامع الحبوب في الجرنية، ما أدى لخروج محطة الكهرباء عن الخدمة وانقطاع الكهرباء، وكذلك ورشة لإصلاح السيارات بريف كوباني.
ويستمر قصف الطائرات الحربيّة للاحتلال التركيّ، على محيط سد تشرين بالتزامن مع هجمات مجموعات المرتزقة التابعة لتركيا على قرى شمال سد تشرين وجنوب شرق منبج وتتواصل الاشتباكات على عدة محاور، إضافةً للقصف المدفعيّ المكثف.
نشر المركز الإعلاميّ لقوات سوريا الديمقراطيّة الجمعة تفاصيل هجمات جيش الاحتلال التركيّ ومرتزقته على شمال سد تشرين وجنوب شرق مدينة منبج وتحديداً قريتي “علوش” و”تل عريش” وتلة “سيريتل” في محيط سد تشرين، بالإضافةِ إلى تلة قرية تل الزمالة. وذكر مقتل 63 مرتزقاً وأصيب 37 آخرين، خلال اشتباكات يوم الأربعاء، “كما تمّ تدمير دبابة وخمس سيارات عسكريّة، إضافةً إلى إصابة ثلاث عربات عسكرية مصفحة من نوع BMB، نتيجة لمقاومة قواتنا، ما اضطر المرتزقة للفرار تاركين خلفهم جثث قتلاهم وآلياتهم المدمرة”.
الأهمية الاقتصاديّة والعسكريّة للسد
يقع سد تشرين في موقع يُعرف باسم “يوسف باشا” ويبعد عن مدينة حلب /115/ كم وعن الحدود التركيّة /80/ كم، وعلى بعد /28/ كم جنوب مدينة منبج، وذلك في الجزء الشماليّ من الهضبة السوريّة على نهر الفرات في منطقة تتراوح مناسيبها بين /400-600/م عن سطح البحر، ويبلغ طول السد 900م، ويبلغ حجم تخزين الماء في البحيرة خلفه نحو 1.9 مليار م3.
تحتوي المحطة الكهرومائيّة ست مجموعات توليد من نوع كابلان مع متمماتها استطاعة كل منها /105/ ميغا واط وباستطاعة إجماليّة للمحطة /630/ ميغا واط، والضاغط الأعظميّ لعمل المجموعات /30/ م والضاغط الأصغري /15.5/، والضاغط الاسميّ /26/م. ومن الأهداف الأساسيّة لإنشاء السد تنظيم تدفق المياه لري آلاف الهكتارات من الأراضي الزراعيّة، ما يجعله عاملاً مهماً في الأمنِ الغذائي للمنطقة، وبدأ العمل ببناء السد عام 1991 واستغرق 8 سنوات، ودخل الخدمة عام 1999.
بحيرة سد تشرين تغطي مساحة تُقدّر بنحو 160 كم2، عند امتلائها بالكامل، لتشكّل إحدى أكبر المسطحات المائيّة الاصطناعيّة في سوريا وهي مصدر مهمٌ لصيد الأسماك في المنطقة، كما تعدُّ أيضاً منطقة جذب سياحيّ طبيعيّة.
ظروف الأزمة السوريّة واستمرار الصراع المسلح فرض تقييماً إضافيّاً على المناطق من حيث موقعها العسكريّ، ووفق هذا المعطى يقع سد تشرين في منطقة استراتيجيّة تربط بين مناطق حلب والرقة والحسكة، ما يمنح من يسيطر عليه إمكانية التحكم بالطرق والتحركات العسكريّة، ما يزيد من أهميته في المعادلة العسكرية. أنّ السد والبحيرة خلفه يمثل حاجزاً طبيعياً، وخطاً دفاعيّاً فاصلاً.
ويُعتبر سد تشرين رمزاً استراتيجيّاً لأيّ طرفٍ يسيطر عليه، ولذلك؛ فإنّ جيش الاحتلال التركيّ يسعى من خلال العدوان للسيطرة على السد بهدف التحكم بالموارد المائيّة والكهرباء، ومن جهة ثانية توسيع النفوذ والاستحواذ عليه ليكون السد عاملَ ضغطٍ على الإدارة الذاتيّة وتستغله سلاحاً اقتصاديّاً.
في 14/12/2024 أعلن مرتزقة الاحتلال التركيّ الدخول إلى سد تشرين، وقال المتحدث باسم وزارة الدفاع التركيّة، زكي أكتورك، في مؤتمر صحفي عُقد في 26/12/2024 إنّ “مدينة منبج وسد تشرين يخضعان لسيطرة الجيش الوطنيّ”، ولكن سرعان ما خرج مدير المكتب الإعلاميّ لقوات سوريا الديمقراطية فرهاد شامي، في مقطع مصوّر من سد تشرين مؤكداً أنّ السد لا يزال تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية مع القرى والتلال المحيطة به، رغم أنّ مرتزقة أنقرة نفّذوا أكثر من 20 هجوماً للسيطرة على تلك المنطقة، وأكد شامي مقتل عشرات المرتزقة وتدمير عشرات الآليات العسكريّة.
أكد المركز الإعلاميّ لقوات سوريا الديمقراطيّة الثلاثاء 7/1/2025 إحباط كلّ هجمات المرتزقة على سد تشرين، وإلحاق خسائر فادحة بصفوف المجموعات المرتزقة المدعومة تركيّاً في عدة جبهات، وأشار إلى تدمير آليات عسكريّة مصفحة ومواقع رادار، واستهدفت تجمعات للمرتزقة رغم دعم ومساندة الطيران المسيّر التركي.
وكان سد تشرين قد خرج من سيطرة النظام السوري في 25/11/2012، بعد محاصرته لمدة خمسة أيام، وفي 15/5/2014 سيطر مرتزقة “داعش” على السد وأحكموا سيطرتهم على المنطقة بشكل كامل، وفي 26/12/2015 تمكنت قوات سوريا الديمقراطية من انتزاع سد على نهر الفرات من مرتزقة داعش الارهابية وتحريره بعد تحرير كامل الضفة الشرقيّة للنهر، وذلك انطلاقاً من ريف كوباني، وبتحرير السد تم قطع الطريق الواصل ما بين منبج والرقة على مرتزقة داعش.
وفي 15/5/2017 حررت قوات سوريا الديمقراطية سد الفرات، وفي 4/6/2017 تم تحرير سد المنصورة (الذي أطلق عليه النظام سد البعث).
الإدارة الذاتية نزعت ذرائع الاحتلال
تصريحات مسؤولي الإدارة الذاتيّة في إقليم شمال وشرق سوريا ومواقفها تفنّد ذرائع أنقرة وتسقطها، إذ تؤكد على الوطنيّة السوريّة ومنع التقسيم والحلّ السياسيّ للأزمة السوريّة.
وقال قائد قوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي، إنّ قواته ستكون جزءاً من الجيش السوريّ الجديد، مؤكداً الاتفاقَ مع الإدارة الجديدة في البلاد فيما يتعلقُ بمستقبل سوريا، وأضاف في مقابلة خاصة مع قناة “سكاي نيوز عربيّة”، نُشرت الجمعة 10/1/2025: “عندما أعلنا عن قوات سوريا الديمقراطيّة في 2015 قلنا إنَّ القوات ستكون جزءاً من المنظومةِ الدفاعيّة لسوريا مستقبلاً، والآن ما دام هناك عملية بناء لجيش سوريّ جديد فسنكون جزءاً من هذه العملية”.
وأضاف عبدي “نحن متفقون فيما يتعلق بوحدة الأراضي السوريّة، لكن هناك تفاصيل عملية كثير ينتظرها السوريون لإيجاد حل لها”.
وفيما يتصل بمحاور القتال والاشتباكات في محيط كوباني ومنبج، قال عبدي: “قواتنا مازالت ملتزمة بالهدنة المعلنة، لكننا مضطرون للدفاع أمام الهجمات المستمرة للفصائل المسلحة الموالية لتركيا في محور سد تشرين، وكذلك ضد جميع الاستهدافات التي تقوم بها الطائرات الحربية والمسيّرة التركية”، وأضاف: “من هنا أؤكد مرةً أخرى أنه يجب على جميع القوى الداخلة في الملف السوري وفي مقدمتها الإدارة الجديدة في دمشق، أن تتدخل وتلزم هذه الفصائل بوقف هجماتها على سد تشرين، وأن تعمل على عملية وقف إطلاق نار شاملة في كل سوريا”.
وعلّق قائد قوات سوريا الديمقراطيّة عبدي على مقترح لتحويل كوباني إلى منطقة منزوعة السلاح، بالقول: “قدمناه من أجل معالجة المخاوف التي تتحجج بها تركيا حول أمنها القوميّ، ومازال مقترحنا قائماً ولم نتلقَ حتى الآن جواباً سلبيّاً حوله. نأمل أن يكون هناك اتفاقٌ لأنّه سيعني الخير لكلّ سوريا”.
وكانت الرئيسة المشتركة لدائرة العلاقات الخارجية في الإدارة الذاتية الديمقراطية لإقليم شمال وشرق سوريا، إلهام أحمد، قد صرّحت أن المحادثات جارية لتأمين حدود شمال سوريا من قوات أمريكيّة وفرنسيّة.
وجود احتلالي مُعطّل للحلِّ السياسي
قال وزير الخارجية التركي هاكان فيدان الجمعة إنّه ينبغي منح الإدارة السوريّة الجديدة فرصة لحل مسألة وجود ما سماه “المسلحين الكرد في البلاد”، مهدداً مجدداً أنّ أنقرة ستتخذ إجراءات إذا لم يحدث ذلك، وزعم فيدان في مؤتمر صحفي في إسطنبول أنّه “من الخطأ تصنيف معركة بلاده ضد المسلحين الكرد على أنّها معركة ضد الكرد”، مشيراً إلى أنّ أنقرة تقيّم في الوقت الراهن وجودها في سوريا في ضوء الوضع الجديد هناك، وأضاف: “لا مطامع لتركيا في أي جزء من الأراضي السوريّة”.
لكنّ الوقائع والأحداث منذ عام 2011 وحتى اليوم تدحضُ مزاعم أنقرة، فوجود قواتها في سوريا وفق القانون الدوليّ احتلالٌ وتعدٍّ سافرٌ على سيادةِ دولة مجاورة، وهي عاملُ تأزيمٍ وتعقيد، ومازالت تهددُ بعمليات عدوانية والمقصود السيطرة على المزيد من الأراضي في سوريا، وليس مجرد القصف، لأنّ القصفَ الجويّ والمدفعيّ عمليّاً لم يتوقف، والمواقع المستهدفة تشمل البنى التحتيّة والمرافق الحيويّة!
الواقع لا تقاتلُ أنقرة إلا الكرد، وقد استغلت الأزمة السوريّة لتصديرِ القضية الكرديّة إلى سوريا ليكون ذلك مبرر التدخّل العسكريّ والاحتلال، ولو تعاون السوريون فيما بينهم لإعادة الأزمة التي صدرتها أنقرة لسقط النظام ومعه حكومة أنقرة، وحقنوا دماء مئات آلاف السوريين.
وفيما يتطلع السوريون بعد سنوات عجاف من الأزمة إلى إعادة هيكلة الدولة السوريّة، وإنهاء الوجود الفصائليّ وفوضى السلاح، رفض والي عفرين التركيّ تسليم عفرين المحتلة لإدارة هيئة تحرير الشام وطرد وفداً من موظفي مجلس مدينة حلب رفقة عسكريين من إدارة العمليات العسكرية، مؤكداً تبعية المنطقة إلى ولايتي هاتاي وكلس، وأنّ القوة العسكريّة فيها والمقصود بها مجموعات المرتزقة في المنطقة تتبع إدارياً لوزارة الدفاع التركية، بالتنسيق مع رئيس ونواب الائتلاف الوطنيّ ورئيس وزراء حكومتها المؤقتة، وكانت مهمة الوفد استلام مدينة عفرين والبلدات التابعة لها وتنظيمها ضمن السجلات التابعة لمحافظة حلب والعاصمة دمشق. من جهة أخرى تدفع أنقرة بمجموعات المرتزقة للاشتباك مع قوات سوريا الديمقراطية في وقتٍ تم الإعلان فيه أنّ هذه القوات أجرت مع إدارة هيئة تحرير الشام وكانت النتائج إيجابيّة، ما يؤكد أنّ مساعي أنقرة معطلة للحلّ السياسيّ خلافاً لمزاعمها، والمفارقة أنّ القوات التي دفعت إلى جبهات منبج وسد تشرين تضم عدداً من مرتزقة “داعش”.
إشكالية الضريح
ذرائع أنقرة للحرب في سوريا، لا تتصل بالواقع، بل بفرضيات مزعومة، وتزعم حماية الأقليات في سوريا، والحرص على وحدة سوريا، إلا أنّها لم تُقدم على أدنى مبادرة سلام في سوريا، وكان بإمكانها فعل الكثير منذ آذار 2011، فقد كانت على علاقة مميزة مع النظام، وكذلك مع المعارضة… ولكنها انتهزت اللحظة التاريخيّة لتبدأ في تنفيذ أجندتها على مستوى المنطقة انطلاقاً من سوريا، وإنهاء الوجود الكرديّ على الحدود أحد أهدافها… وما بين آب 2016 وحتى تشرين الثاني فرضت على مرتزقة الجيش الوطنيّ وقف الجبهات كلها مع قوات النظام…
جعلت أنقرة قبر “سليمان شاه” الذي توفي غرقاً في نهر الفرات عام 1236 قضيةَ أمنٍ قوميّ، والذي يعتبر مكان دفنه أرضاً تركيّةً داخل سوريا، وفق اتفاقية أنقرة التي أُبرمت مع فرنسا 20/10/1921، وكانت تحتل سوريا حينها، وبالنسبة لأنقرة؛ فإنّ مقتل مئات آلاف السوريين ومعاناة الملايين لا تعادلُ رفات زعيم قبيلة قايا التركيّة والمشكوك في صحة قصته وأصله، بحسب مؤرخين أتراك.
وبذريعة هذا القبر تحاول الاستيلاء على مساحة من الأراضي السوريّة في منطقة جسر قره قوزاق إضافةً إلى مساحة موقع الضريح، وذلك لإقامة قاعدة عسكريّة دائمة، وكان قائد قوات سوريا الديمقراطيّة قد صرّح في 12/12/2024 قد أعلن في إطار نزع ذرائع أنقرة الاستعداد إعادة رفات سليمان شاه إلى موقعه السابق قرب جسر قرقوزاق، وكان الضريح قد نقل في 21/2/2015 إلى قرية “آشمة” غرب كوباني على الحدود التركيّة – السوريّة.
لولا الدور التركيّ لكان عمر الأزمةِ السوريّةِ أقصر بكثير، ولكن السوريين أضاعوا حاضرهم، مقابل إحياء تاريخٍ عثمانيّ لم تثبت صحته، وقصة قبر سليمان شاه نموذجٌ للمخاوفِ الأمنيّة الافتراضيّة التي تتحدث عنها أنقرة وتتفهمها موسكو وواشنطن ودول عديدة، وترفع مجموعات سورية اسم سليمان شاه وتحت لوائها تُرتكب مختلف الانتهاكات.