محمد عيسى
في مشهد يعكس بداية مرحلة جديدة في العلاقات السوريّة العربية، تصدّرت دول الخليج مشهد الانفتاح على الإدارة السوريّة الجديدة بعد سقوط نظام الأسد، في المقابل، تتنامى مخاوف عربية وأوروبية من محاولات الاحتلال التركي فرض نفوذه والانفراد بالقرار السوري، بينما يواجه الجولاني تحديات جمّة، أبرزها التخلّص من الإرث الثقيل للجولاني، وسط رسائل أوروبية واضحة برفض أي شكل من أشكال الحكم الإسلامي في سوريا.
أصبحت سوريا محط أنظار العالم العربي والإقليمي مع بدء مرحلة سياسية جديدة تتشكل عقب الإطاحة بنظام الأسد، وعلى الرغم من التحديات السياسية والاقتصادية التي تواجهها الإدارة الجديدة، إلا أن الانفتاح العربي، وعلى رأسه السعودي، يبرز كداعم رئيسي لتحقيق استقرار داخلي وإعادة بناء العلاقات. مع ذلك، فإن الإرث الثقيل لهيئة تحرير الشام التي مازالت مصنفة في قائمة الإرهاب وزعيمها (أبو محمد الجولاني) يُشكل عقبة كبرى أمام تطلعات سوريا الجديدة لاستعادة موقعها الإقليمي والدولي.
الانفتاح الخليجي مرحلة جديدة لسوريا
تتقدم السعودية بخطوات ثابتة نحو تعزيز علاقاتها مع سوريا سياسياً واقتصادياً، في إطار انفتاح خليجي أوسع يسعى إلى إعادة سوريا إلى دورها الطبيعي في المنطقة، وقد تجلى هذا التوجه من خلال زيارة وفد سعودي رفيع المستوى إلى دمشق الشهر الماضي بقيادة وزير الخارجية السعودي، والتي مهدت الطريق لاستقبال وفد سوري رسمي برئاسة وزير الخارجية الجديد، أسعد حسن الشيباني، في الرياض في الأول من كانون الثاني 2025.
وزيارة وفد مجلس التعاون الخليجي بقيادة وزير الخارجية الكويتي عبد الله اليحيى إلى دمشق نهاية كانون الأول 2024، إلى جانب التحركات الأوروبية التي تدعو إلى إعادة تفعيل العلاقات مع سوريا، تعكس وحدة الموقف الدولي تجاه دعم استقرار البلاد، وقد أظهرت تلك الزيارات أهمية التكاتف العربي والدولي في تمكين سوريا من تجاوز تحدياتها، بدءاً من إعادة الإعمار وصولاً إلى تحقيق التنمية المستدامة.
زيارة الشيباني إلى السعودية تأتي في هذا السياق كخطوة محورية لتعزيز العلاقات الثنائية، حيث جرى التركيز على التعاون الاقتصادي والتنموي، إلى جانب البحث عن آفاق جديدة للتعاون مع الشركاء في دول الخليج، هذه المبادرات تأتي في وقتٍ حساس تسعى فيه سوريا إلى تعزيز موقعها الإقليمي، بينما تعمل دول الخليج وأوروبا على صياغة سياسات تضمن استقرار المنطقة وتفتح أبواباً جديدة للتعاون المشترك.
رسائل عربيّة واضحة
بينما تُبدي الدول العربية وعلى رأسهم دول الخليج استعداداً لدعم سوريا في هذه المرحلة الانتقالية، فإن المخاوف لا تزال قائمة بشأن الفراغ السياسي والأمني الذي خلّفه سقوط نظام الأسد، فهذه المرحلة تحمل تحديات كبيرة بالنسبة للمنطقة، حيث يُخشى أن يؤدي هذا الفراغ إلى مزيدٍ من الفوضى والصراع، لاسيما في ظل محاولات الاحتلال التركي فرض سيطرته على الشمال السوري. إذ إن هذا التدخّل التركي يمثل تهديداً مباشراً لأمن المنطقة، ويزيد من تعقيد الأوضاع في سوريا.
تعامل الدول العربية والخليجية مع إدارة هيئة تحرير الشام يبدو مشروطاً بعدم السماح بعودة التدخّلات الأجنبية، خاصةً تلك التي تهدد استقرار المنطقة وتُعيق التوجه نحو مرحلة انتقالية سلمية، وكما رفضت الدول العربية على مدار السنوات الماضية التدخّل الإيراني في سوريا، الذي كان يُنظر إليه على أنه يُعمّق الصراع الطائفي ويفاقم الأزمات الداخلية، فإن الدول العربية تُظهر اليوم الرفض نفسه تجاه المحاولات التركية للهيمنة على الشأن السوري، هذه التدخّلات التركية ليست فقط مرفوضة من حيث فرض النفوذ العسكري والسياسي في المناطق الشمالية، بل تُعتبر بمثابة مسعى لإضعاف وحدة سوريا وإبقاء البلاد في حالة عدم استقرار.
ومن بين أبرز الهواجس التي تشغل الدول العربية، خاصةً دول الخليج ومصر، هو دعم تركيا لمشروع “الإخوان المسلمين” في المنطقة. هذه الدول ترى في هذا الدعم تهديداً مباشراً للتوازن الإقليمي واستقرار الأنظمة الحاكمة في العالم العربي، فالتدخل التركي السافر وتبنيها لمشاريع دينية أيديولوجية، مثل دعم المجموعات المتطرفة، يُعتبر خطوة قد تؤدي إلى تقويض الأنظمة القائمة وتهديد السلم الاجتماعي والسياسي في الدول العربية، ولهذا السبب، فإن الدول العربية تسعى إلى تعزيز علاقتها مع سوريا الجديدة كجزءٍ من استراتيجية أوسع لضمان الأمن الإقليمي والحفاظ على استقرارها الداخلي، بعيداً عن التدخّلات الأجنبية التي قد تُؤدي إلى تغييرات جذرية في التوازنات الإقليمية.
وتحاول هذه الدول، من خلال دعمها المتزايد لسوريا، إرسال رسائل واضحة بأنها لن تسمح بتكرار الأخطاء السابقة، وأنها ستكون حريصة على أن تظل سوريا قوية ومستقرة، بعيداً عن الهيمنة الخارجية، سواء كانت من إيران أو تركيا.
التخلّص من إرث الجولاني
رغم المحاولات التي يبذلها الجولاني لتقديم نفسه كزعيم سياسي قادر على قيادة سوريا نحو الاستقرار، إلا أنه لا يزال يواجه صعوبة بالغة في التخلص من إرثه كقائد لهيئة تحرير الشام، الذي لا يزال يثير العديد من المخاوف لدى المجتمع الدولي، فالإرث الذي حمله معه من قيادة الهيئة يضعه أمام تحديات صعبة، لا سيما في ظل التوجس الدولي من أي توجهات متطرفة قد تكون جزءاً من الحكم الجديد في سوريا.
ورغم محاولات هيئة تحرير الشام بث رسائل تطمينية للمجتمع الدولي، عبر التأكيد على وجود “نظام حكم تشاركي” يحمي الأقليات ويضمن مصالح مختلف الأطراف، فإن هذه التطمينات لم تكن كافية لتغيير القناعات الأوروبية، فالدول الأوروبية، التي تتابع عن كثب تطورات الوضع السوري، لم تُبدِ بعد أي ثقة حقيقية في إمكانية تشكيل حكومة سوريّة جديدة تحت قيادة الجولاني يمكنها الخروج عن سياقات الماضي، هذا التشكيك يعكس القلق الغربي من أي تحول قد يقود إلى مزيد من العنف والتطرف في سوريا.
في هذا السياق، جاءت زيارة وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك، ونظيرها الفرنسي جان نويل بارو في 3 كانون الثاني من العام الجديد إلى دمشق، محمّلة برسائل أوروبية واضحة وقوية. الرسالة الأساسية كان مفادها: “لن نموّل حكومة إسلامية”. هذا التصريح كان بمثابة تحذير من أن أي دعم دولي لسوريا سيكون مشروطاً بتوضيح نوايا الحكومة السوريّة الجديدة بعيداً عن أي ميل نحو إقامة حكم إسلامي متشدد.
وأثناء لقائها مع الجولاني، شددت أنالينا على أن رفع العقوبات الأوروبية، بما في ذلك قانون قيصر الأميركي، سيظل مرتبطاً بتقدّم العملية السياسية في سوريا. وأضافت أن هذا التقدم يجب أن يكون ملموساً على الأرض، ويعني بالدرجة الأولى الابتعاد عن أي شكل من أشكال الحكم الإسلامي المتطرف، الذي يُعتبر غير مقبول من المجتمع الدولي، وقد جاءت هذه التصريحات لتسلط الضوء على التحديات التي يواجهها الشرع في إقناع أوروبا ودول الغرب بنوايا حكومته.
من جانبه، أكد وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو على أهمية إشراك الكرد في العملية السياسية كجزءٍ أساسي من ضمان استقرار سوريا، وهذه النقطة لا يمكن إغفالها، إذ أن أوروبا تُدرك تماماً أن أي استقرار حقيقي في سوريا يجب أن يضمن حقوق الكرد، ويشملهم في إطار الحل السياسي، بعيداً عن أي محاولات للتمييز أو التجاهل، وقد دعا بارو إلى ضرورة وقف القتال في إشارة إلى أن الفوضى القائمة بسبب تدخّلات الاحتلال التركي والمرتزقة التابعين له في شمال سوريا لا تخدم أي عملية سلمية شاملة.
مستقبل سوريا بين القلق الدولي
القلق الأوروبي من مستقبل سوريا الجديدة كان واضحاً في تصريحات وزيرة الخارجية الألمانية. خلال لقاءاتها مع المسؤولين السوريين، أكدت أنالينا أن أي دعم دولي لسوريا سيكون مشروطاً بتحقيق انتقال سلمي وشامل للسلطة، ومن المهم أن يترافق هذا الانتقال مع احترام وحدة الأراضي السوريّة وضمان سلامة الكرد، في رسالة واضحة من أوروبا بأنها ستدعم قوات سوريا الديمقراطية في مواجهتهم للتهديدات المتمثلة في المجموعات التابعة للاحتلال التركي، والتي ترى فيها العديد من الدول الغربية تهديداً للاستقرار.
تزامنت هذه التصريحات مع الضغوط المتزايدة على الجولاني ليوضح موقفه من الإرث الثقيل لهيئة تحرير الشام، التي لا تزال مصنفة كتنظيم إرهابي في أوروبا والولايات المتحدة. هذه الضغوط تتزايد بشكلٍ ملحوظ، خاصةً مع التغيرات السياسية التي تمر بها المنطقة، مما يجعل الجولاني أمام اختبار صعب في توضيح كيف سيتعامل مع هذا الإرث وتأثيره على موقف المجتمع الدولي تجاه الحكومة السوريّة الجديدة.
الرسالة الأوروبية واضحة: سوريا الحديدة يجب أن تكون دولة عادلة وديمقراطية، بعيدة عن التطرف والاستبداد. يجب أن تلتزم الحكومة السوريّة الجديدة بالقيم الديمقراطية، وأن تضمن حقوق جميع المواطنين، بما في ذلك الكرد، وتبتعد عن أي انحرافات نحو الأنظمة الدكتاتورية التي عانت منها البلاد في الماضي. في هذه اللحظة التاريخية الحاسمة، فإن الأمل هو أن تكون سوريا المستقبل قادرة على بناء نظام سياسي شامل يعكس تطلعات جميع مكونات الشعب السوري، ويضمن استقرار المنطقة.
ستظل المرحلة القادمة مرهونة بقدرة الإدارة السوريّة الجديدة على تحقيق توازن دقيق بين متطلبات الداخل وضغوط الخارج. بناء علاقات متوازنة مع المحيط الإقليمي والدولي سيكون حجر الزاوية في استعادة الثقة بسوريا كدولة مستقلة ذات سيادة. كما أن تعزيز الشراكات مع القوى الفاعلة، والالتزام بخطوات إصلاحية جادة، سيُسهم في طمأنة المجتمع الدولي، وفتح آفاق جديدة للتعاون والدعم.