محمد عيسى
استغلت دولة الاحتلال التركي، الأزمة السورية، لتتدخل في الشؤون السورية، وتحتل أراضيها، مستخدمة بذلك مرتزقة دربتها بفكرها الإرهابي، ودعمتها مالياً، لتمارس انتهاكات جسمية وتسلب ممتلكات الأهالي وتحول المناطق التي احتلتها إلى بؤرة للإرهاب.
لم تكن السياسات التركية تجاه سوريا إلا انعكاسًا لطموحات توسعية تهدف إلى تعزيز نفوذ أنقرة الإقليمي على حساب الشعوب السورية، فمنذ بداية الصراع السوري في عام 2011، استغلت تركيا الفوضى لتكريس أجنداتها العسكرية والسياسية عبر أدوات متعددة، من بينها دعم وتسليح مجموعات مسلحة تحولت إلى مرتزقة تنفذ سياساتها. وتحت ذريعة “تحقيق الأمن”، استهدفت تركيا الأرض السورية، محولة المناطق التي احتلتها إلى بؤر للإرهاب تمارس فيها انتهاكات جسيمة، فعفرين وسري كانيه وكري سبي/ تل أبيض مثال واضح على هذا الواقع، حيث تعرض سكانها الأصليون لجرائم تهجير، وتغيير ديمغرافي، واستغلال اقتصادي.
الدعم التركي الممنهج للمرتزقة والإرهاب
منذ الأيام الأولى للأزمة السورية، اختارت تركيا دعم المجموعات المرتزقة التي تتماشى مع أجنداتها، متخذة من هذه المجموعات أدوات لتنفيذ مشاريعها التوسعية، وتحوليهم إلى مرتزقة يخدمون مصالحها. لم يقتصر هذا الدعم على التسليح فقط، بل شمل أيضًا توفير التدريب والاستخبارات، مما مكّن هذه المرتزقة من السيطرة على الأرض وتنفيذ سياسات تتناغم مع أطماع أنقرة.
المعسكرات التدريبية داخل الأراضي التركية شكلت نقطة انطلاق للمرتزقة مثل “فرقة الحمزات” و”لواء العمشات”، حيث تلقت هذه المرتزقة تدريبات عسكرية واستخباراتية مكثفة، مع دعم مالي مباشر ومستمر. التقارير الدولية كشفت أن تركيا كانت الداعم الأساسي لهذه المجموعات من المرتزقة، حيث استخدمت شبكات تمويل معقدة تشمل عائدات النفط المنهوب وفرض الإتاوات على المدنيين في المناطق المحتلة. هذا التمويل لم يكن فقط لضمان استمرار عمل هذه المرتزقة، بل لتعزيز قبضتها على المناطق التي احتلتها دولة الاحتلال التركي.
الاحتلال التركي والانتهاكات الممنهجة
منذ احتلال تركيا عفرين عام 2018، غرقت المنطقة، التي كانت تمثل نموذجًا للتعايش السلمي بين مختلف شعوبها، في مستنقع من الانتهاكات الجسيمة. ولم تقتصر هذه الجرائم على عفرين وحدها، بل امتدت إلى سري كانيه وكري سبي بعد عمليات احتلالية “غصن الزيتون” و”نبع السلام”، وذلك عبر مرتزقتها الذين مولتهم، مادياً وتدريبياً.
هؤلاء المرتزقة المدعومة مباشرة من دولة الاحتلال التركي، حولت حياة السكان المحليين إلى كابوس. فقد أصبحت عمليات الاختطاف، سياسة ممنهجة لابتزاز المدنيين، خاصة الكرد، حيث يُجبر المختطفون أو عائلاتهم على دفع فدى مالية طائلة. وفي كثير من الحالات، انتهى الأمر بتصفية المختطفين أو إبقائهم قيد الاحتجاز لفترات طويلة دون أي مسوغ قانوني.
في هذا السياق، وثقت منظمة هيومن رايتس ووتش في عام 2020، العديد من حالات الاعتقالات والتعذيب التي قامت بها هذه المرتزقة ضد المدنيين، حيث أُجبر العديد من السكان على دفع فدية مالية لإطلاق سراحهم، في حين تم تصفية بعضهم بعد التعذيب.
ورغم تزايد التقارير الحقوقية الدولية والمحلية التي وثقت الجرائم المرتكبة في المناطق المحتلة من المرتزقة، لم تتخذ تركيا أي خطوات فعالة لوقف الانتهاكات أو محاسبة من يقف وراءها كونها كانت المرتكبة لهذه الجرائم، فمن جهة تسمح للمرتزقة بارتكابها، ومن جهة أخرى تشاركها بشكل مباشر في عمليات الاعتقال والتعذيب.
ورغم الإدانات الدولية المتكررة لهذه السياسات، لم يكن هناك أي تحرك جاد من المجتمع الدولي لفرض عقوبات فعالة على تركيا لوقف هذه الانتهاكات. في المقابل، العقوبات التي فرضتها بعض الدول الغربية مثل الولايات المتحدة على قادة هذه الفصائل لم تكن كافية لردع تركيا عن الاستمرار في سياسة التوسع والاحتلال.
النهب الاقتصادي واستغلال الموارد
إلى جانب الجرائم الإنسانية التي تمارسها المرتزقة التابعة للاحتلال التركي في المناطق المحتلة، يتعمد الاحتلال استغلال الموارد الاقتصادية للمنطقة بشكل منهجي، مما أسهم في تدمير الاقتصاد المحلي وزيادة معاناة السكان. حيث كان قطاع الزراعة يشكل العمود الفقري للاقتصاد المحلي في عفرين، حيث تُعد المنطقة من أبرز مناطق إنتاج الزيتون في سوريا. تُقدّر عدد أشجار الزيتون في عفرين قبل الاحتلال بحوالي 18 مليون شجرة، وهذا ما جعلها واحدة من أكبر مناطق إنتاج الزيتون في البلاد. ومنذ الاحتلال التركي عفرين، تعرض هذا القطاع الحيوي للنهب المنظم. فمحاصيل الزيتون، التي تشتهر بها عفرين، تم تصدير كميات كبيرة منها إلى الأسواق التركية. يُقدّر أن قيمة الزيت المنهوب من عفرين تتراوح بين 80 إلى 150 مليون دولار، حيث قامت المرتزقة بالتحكم في حصاد الزيتون وفرض سيطرتها على الأراضي الزراعية، بل وصلت إلى تصدير كميات ضخمة من الزيت إلى الأسواق التركية. في عام 2019، قُدّرت قيمة محصول الزيتون المسروق من عفرين بحوالي 100 مليون دولار، حيث تم تصدير كميات كبيرة إلى تركيا كما العادة.
إلى جانب ذلك، فرضت المرتزقة التابعة للاحتلال التركي إتاوات مالية باهظة على المزارعين، حيث تفرض بعض المجموعات من المرتزقة نسبة 5% من محصول الزيتون كإتاوة، مما يزيد من عبء المزارعين ويؤدي إلى تدمير القطاع الزراعي بشكل تدريجي. كما لجأت هذه المجموعات إلى قطع آلاف أشجار الزيتون التي تمثل رموزًا تاريخية للمنطقة، واستخدام الأخشاب الناتجة عن ذلك في أغراض تجارية مثل التدفئة أو البيع في الأسواق. هذه الممارسات لم تؤدِ فقط إلى تدمير إرث زراعي عريق، بل ساهمت في تغيير الطابع البيئي لعفرين وزيادة معاناة السكان المحليين.
الاستغلال الاقتصادي لم يقتصر على قطاع الزيتون، بل شمل جميع موارد المنطقة. المجموعات المرتزقة المدعومة من تركيا مارست عمليات نهب واسعة لموارد عفرين مثل الأخشاب، المياه، والحجر، بالإضافة إلى فرض ضرائب غير قانونية على المواطنين في المنطقة، ما ساهم في انهيار اقتصادي شامل. هذه السياسات أدت إلى تدمير البنية الاقتصادية لعفرين، وأدى إلى تفاقم الأزمة الإنسانية التي يعاني منها السكان المتبقين في موطنهم عفرين، الذين باتوا غير قادرين على تأمين سبل العيش الأساسية في ظل سياسات الاحتلال التركي التي تهدف إلى نهب ثرواتهم وتدمير هويتهم الاقتصادية والاجتماعية.
وفي مناطق سري كانيه وكري سبي؛ تكررت الانتهاكات الاقتصادية بشكل مماثل، ففي سري كانيه، استغل الاحتلال التركي الموارد المائية بشكل مفرط ممارسة سياسة التعطيش ضد أهالي المنطقة، حيث تم قطع المياه عن مناطق واسعة من الحسكة، مما أدى إلى أزمة مائية حادة أثرت على حياة السكان الزراعية والمعيشية. إذ عمل الاحتلال على قطع مياه محطة علوك، مما تسبب في تدهور المحاصيل الزراعية وزيادة معاناة المواطنين. هذا الاستغلال لموارد المياه كان له تأثير بيئي كبير، حيث دفع العديد من العائلات إلى التهجير جراء العجز عن تأمين احتياجاتهم الأساسية.
أما في كري سبي، فقد تعرض القطاع الاقتصادي للنهب بشكل واسع النطاق، حيث استهدفت المرتزقة المدعومة من دولة الاحتلال التركي معظم القطاعات الإنتاجية. لم تقتصر الانتهاكات على الزراعة فحسب، بل شملت أيضا الاستيلاء على الممتلكات الخاصة والعامة وفرض الضرائب على السكان المحليين. كما أقدمت المرتزقة على تهريب مواد البناء ومختلف الموارد إلى خارج المنطقة، مستغلة الأوضاع الأمنية غير المستقرة. هذا النهب المتواصل لثروات كري سبي زاد من تعقيد الوضع الاقتصادي في المنطقة، مما جعل السكان يعانون من تدهور الظروف المعيشية وازدياد الفقر.
تُظهر هذه الممارسات في عفرين وسري كانيه وكري سبي أن الاحتلال التركي لا يقتصر على محاولة تغيير الواقع الأمني والاجتماعي في هذه المناطق، بل يسعى إلى التحكم الكامل في مواردها الطبيعية والاقتصادية، مما يزيد من معاناة السكان ويعمق الأزمة الإنسانية التي يعيشونها.
المنطقة الآمنة غطاء للاحتلال ودعم للإرهاب
تروج تركيا لفكرة “المنطقة الآمنة” شمال سوريا كإجراء مزعوم يهدف إلى تأمين حدودها وإعادة اللاجئين السوريين، لكن الواقع يكشف عن صورة مغايرة تمامًا. ما كان يُفترض أن يكون منطقة لعودة اللاجئين وحفظ الاستقرار، تحول إلى مناطق تحت سيطرة الاحتلال التركي والمجموعات من المرتزقة التابعة له. هذه المرتزقة، التي تعمل كأدوات تنفيذية في يد أنقرة، استغلت غياب المحاسبة الدولية لفرض سيطرتها على الأرض والموارد في المناطق المحتلة مثل سري كانيه، وكري سبي، وعفرين، مما حولها إلى مناطق خاضعة لسيطرة احتلالية وإرهابية.
الهدف المعلن لهذه المناطق، يخفي وراءه نوايا توسعية واضحة، حيث تستمر تركيا في استخدام هذه المناطق كنقاط انطلاق عسكرية لمرتزقتها، بدلًا من أن تكون مناطق آمنة كما تدعي. ما يحدث في الواقع هو أن الاحتلال التركي يكرس هيمنته على هذه المناطق، مما يفاقم الأزمة الإنسانية ويجعلها بؤرًا للإرهاب والجرائم اليومية بحق المدنيين.
تركيا لا تكتفي بالوجود العسكري في هذه المناطق، بل تستخدمها كأدوات لتحقيق أهدافها الاستراتيجية في سوريا، من خلال تعزيز وجودها العسكري، ودعم المرتزقة الإرهابية، وفرض سياسات التغيير الديموغرافي، وتعد هذه السياسات انتهاكًا صارخًا للقوانين الدولية وحقوق الإنسان.
تركيا بذلك لم تقتصر على تقديم الدعم المباشر لهذه الجماعات فقط، بل حولت المناطق التي تحتلها إلى بؤر تهدد استقرار المنطقة بأكملها، وتساهم في زيادة الانتهاكات وخلق بيئة حاضنة للإرهاب، وهو ما يعكس حجم التورط التركي في دعم الإرهاب وتخريب المنطقة.
إن ما يُسمى “المنطقة الآمنة” ليس إلا ستارًا لتغطية الاحتلال التركي وسياسات التوسع، مما يفرض على المجتمع الدولي أن يتخذ خطوات حاسمة لإنهاء هذه الفوضى الإرهابية ويحاسب دولة الاحتلال التركي على جرائمها لتوقف دعمها للمرتزقة، كأساس لتحقيق العدالة للسوريين والعودة إلى موطنهم محررة بعيدًا عن الهيمنة التركية والإرهاب الممارس بحقهم.