محمد عيسى
في ظل الانقسامات الطائفية والتحديات، التي تعصف بسوريا، يبرز نموذج الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا كخيار وحيد لتحقيق الاستقرار والتعايش بين مكونات المجتمع. هذا النموذج، المبني على أسس الديمقراطية والمساواة، يقدم بديلاً فاعلاً للسياسات الطائفية التي أفرزتها سنوات من حكم نظام الأسد ومستمرة لليوم.
في مشهد مأساوي يطغى عليه العنف والانقسامات الطائفية، تقف سوريا اليوم أمام تحديات مصيرية تهدد وجودها كدولة موحدة. سنوات طويلة من الحرب الأهلية والصراعات المذهبية كشفت عن هشاشة البنى السياسية والاجتماعية، التي أرساها نظام بشار الأسد لعقود، ليجد السوريون أنفسهم أسرى سياسات الإقصاء والتهميش، التي أسست لانقسامات حادة بين مكونات المجتمع.
لكن وسط هذا المشهد القاتم، يبرز نموذج الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا كبديل فريد يطرح رؤية جديدة للحكم، تقوم على أسس الديمقراطية والمساواة واحترام التنوع الثقافي والإثني. وبينما تتعمق الأزمات في الداخل السوري وتتصاعد الأحداث الطائفية، مثل الاعتداء الأخير على الرموز الدينية كمقام الخصيبي في حلب، وما تبعه من احتجاجات واسعة، يثبت نموذج الإدارة الذاتية الخيار الأكثر استدامة لتحقيق التعايش والاستقرار في بلد أنهكته الحروب.
جذور الانقسام الطائفي في الداخل السوري
لم تكن الانقسامات الطائفية في سوريا وليدة الحرب السورية الحالية، بل هي نتاج سياسات طويلة الأمد اتبعها نظام البعث على مدار عقود. منذ وصول عائلة الأسد إلى السلطة في منتصف القرن الماضي، عمد النظام إلى توظيف الطائفية كأداة حاكمة لضمان استمراره في الحكم. فبدلاً من بناء دولة قائمة على المواطنة والمساواة بين المكونات السورية، قام النظام بزرع بذور الانقسام بين الطوائف والشرائح المختلفة من المجتمع السوري. استخدم نظام الأسد، الذي ينتمي إلى الطائفة العلوية، الطائفية وسيلة للحفاظ على سلطته من خلال تهميش وإقصاء بقية الطوائف والأقليات، بالإضافة إلى تعزيز سيطرته على مفاصل الدولة عبر هيمنة أفراد من طائفته على المناصب الأمنية والعسكرية الهامة.
ولم يكن النظام يكتفي بتشكيل تحالفات طائفية داخل السلطة، بل عمل على تكريس الهوة بين الطوائف من خلال نشر ثقافة الخوف والشك، عبر الترويج على فكرة، أي تغيير قد يهدد مصالح الطائفة العلوية. وقد أسهم هذا النهج في تشويه الروابط الاجتماعية بين السوريين، وجعل الطائفة العلوية، رغم قلة عددها، تتحكم في معظم مفاصل سوريا؛ ما ساهم في خلق حالة من التوتر المستمر بين الطوائف المختلفة.
ومع اندلاع الأزمة السورية عام 2011، تفاقمت هذه الانقسامات بشكل ملحوظ، حيث أصبح الصراع الطائفي أكثر وضوحًا. ومع تدخل القوى الإقليمية والدولية، التي دعمت مجموعات مختلفة في النزاع، زادت الانقسامات وتعمقت، حيث استفادت أطراف عديدة من الخلافات الطائفية لإدامة الصراع. وبينما عمل النظام طوال خمسين عامًا على زرع الطائفية بين مكونات الشعب السوري، أصبحت هذه السياسات عاملًا رئيسيًا في الأزمة حتى بعد زوال هذا النظام.
على الرغم من سقوط النظام السابق، إلا أن العقلية الطائفية، التي كان يعتمد عليها لا تزال قائمة في العديد من المفاصل السياسية والاجتماعية في سوريا. فقد أُزيلت بعض الأوجه الظاهرة للنظام، لكن التأثيرات العميقة لتلك العقلية ما زالت تهيمن على كثير من السلوكيات والممارسات.
العقلية الطائفية، التي استُخدمت لبناء نظام سياسي قائم على المحسوبيات والتمييز، لم تختفِ بمجرد تغيير الواجهة الحاكمة. بل يبدو أنها ما زالت تلقي بظلالها؛ ما يعوق جهود بناء وطن موحد يتمتع بالعدالة والمساواة بين أطيافه.
حادثة الاعتداء في حلب تكرس الطائفية
في 25 كانون الأول 2024، شهدت منطقة ميسلون بمدينة حلب حادثة مؤلمة أثارت ردود فعل واسعة في عموم سوريا، وذلك بعد الاعتداء على مقام “أبي عبد الله الحسين بن حمدان الخصيبي” الذي يعدُّ من أقدس المقامات للطائفة العلوية. الحادثة التي وثّقها المرصد السوري لحقوق الإنسان، تضمنت قيام مسلحين بالهجوم على المقام، ما أسفر عن مقتل خمسة من خدم المقام بشكل مروع، حيث تم التنكيل بجثامينهم. علاوة على ذلك، تعرض المقام للتخريب وإضرام النيران بداخله، مما أحدث تدميرًا جزئيًا في هذا المعلم الديني المهم.
وقد أثار هذا الهجوم الشنيع موجة من الغضب والاستياء في المنطقة الساحلية، حيث خرجت مظاهرات حاشدة في مدن اللاذقية، وطرطوس، وحمص، ودمشق، وحماة، تضامنًا مع الطائفة العلوية، وتنديدًا بالاعتداء على مقام خصيبي الذي يحظى بأهمية دينية كبيرة لدى العلويين. في تلك المظاهرات، طالب المحتجون بضرورة محاسبة المعتدين على المقام وقتلة خدمه، مؤكدين على ضرورة تجنب التصعيد الطائفي الذي يمكن أن يؤثر على التماسك الاجتماعي في المناطق الساحلية.
وقد دعت التظاهرات، التي انطلقت من عدة مناطق، إلى إيقاف الاعتداءات ضد الرموز والمقدسات الدينية، كما طالبت بخروج القوات الأجنبية والمتطرفين الذين تم دمجهم ضمن إدارة العمليات العسكرية في المنطقة. كما شددت على ضرورة الإفراج عن ضباط وعناصر الجيش، الذين لم يتورطوا في الجرائم والدماء، وكذلك إيقاف القمع الذي يستهدف أبناء الطائفة العلوية تحت مسمى “حالات فردية”. في هذا السياق، أطلق عناصر من قوات الأمن النار في محاولة تفريق المظاهرات في عدة مناطق، مما أسفر عن وقوع إصابات.
وتعتبر هذه الحادثة واحدة من أحدث الأحداث التي تبرز التوترات الطائفية في سوريا، والتي استفحلت نتيجة للحرب المستمرة والسياسات الطائفية، التي اعتمدها النظام السوري السابق طوال سنوات حكمه. وقد لاقت هذه الحادثة ردود فعل شديدة على المستوى الشعبي والديني في المنطقة الساحلية، حيث طالب مشايخ الطائفة العلوية بإجراءات فورية ضد المعتدين، مؤكدين أن هذه الحادثة تمثل تهديدًا مباشرًا لوحدة المجتمع العلوي في المنطقة. إن الحادثة الأخيرة تضعنا أمام تساؤل جوهري حول قدرة الحكومة المؤقتة على إخماد نيران الفتنة الطائفية، بالإضافة إلى مدى قدرة السوريين على التغلب على هذه الانقسامات وإعادة بناء مجتمع يسوده السلام والوحدة.
نموذج الإدارة الذاتية رؤية للحل
على عكس الواقع المتأزم الذي يعصف بمعظم المناطق السورية، قدمت الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا نموذجًا فريدًا من نوعه في إدارة شؤون المجتمعات المحلية. هذا النموذج الذي يعتمد على أسس الديمقراطية التشاركية، والعدالة الاجتماعية، وقام على ضرورة بناء مجتمع شامل يحقق التعايش بين مختلف المكونات الدينية والعرقية التي تشكل نسيج هذه المنطقة. جاء تأسيس الإدارة الذاتية استجابة ضرورية لواقع قاسي، تمثل في المركزية الشديدة في السلطة والتي أفضت إلى إقصاء العديد من المكونات الاجتماعية والعرقية، وخصوصًا تلك التي كانت مهمشة طوال عقود من نظام البعث.
واحدة من أبرز سمات هذا النموذج هي قدرته على بناء بيئة استقرار نسبي في مناطق شمال وشرق سوريا، وهو ما يعكس التوجه الحقيقي نحو بناء مجتمع ينعم بالأمان والسلام بعيدًا عن ممارسات التفرد والهيمنة التي سادت في فترات سابقة. وعلى الرغم من الظروف الصعبة التي تعيشها المنطقة، استطاعت الإدارة الذاتية أن تفرض نوعًا من النظام الإداري الذي يضع أولويات المواطنين في قلب اهتماماته، ويراعي خصوصياتهم الثقافية والدينية.
لقد استطاعت الإدارة الذاتية أن تخلق حالة من التعايش السلمي بين المكونات الدينية والعرقية المتنوعة في المنطقة، وذلك عبر آليات تشاركية وتفاعلية، تتمثل في إشراك الجميع في إدارة شؤونهم اليومية وصنع قراراتهم المصيرية. ففي مناطق شمال وشرق سوريا، تعيش مكونات عرقية ودينية متنوعة، منها العرب، والكرد، والسريان، والآشوريون، مع احترام كامل لحقوق الجميع وحقوق المرأة في المشاركة السياسية والاجتماعية. هذا التعايش بين هذه المكونات يبرز في العديد من المشاريع المشتركة التي تهدف إلى تحسين الحياة اليومية للجميع، بما يشمل التعليم، والصحة، والتنمية الاقتصادية.
لقد ساهمت الإدارة الذاتية في تمكين المرأة والشباب من خلال وضع سياسات داعمة لهم، والتي كانت نادرة في مناطق أخرى من سوريا. لم تقتصر هذه السياسات على المستوى السياسي فقط، بل امتدت إلى تعزيز دور المرأة في شتى المجالات الاقتصادية والاجتماعية، بما في ذلك العمل العسكري، مما منحها دورًا محوريًا في تعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة. كما تم دعم مشاريع تدريبية وتعليمية للشباب لتمكينهم من المشاركة الفعالة في المجتمع، سواء على مستوى القيادة المحلية أو في ميادين العمل المختلفة.
الفرق بين الداخل السوري ومناطق الإدارة الذاتية
الفرق بين الداخل السوري ومناطق شمال وشرق سوريا يتجلى بوضوح في العديد من الجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ففي حين يرزح الداخل السوري تحت وطأة صراعات طائفية ومذهبية، يعاني من تدخلات خارجية وتدخلات من قوى إقليمية ودولية تسعى لتحقيق مصالحها على حساب الشعب السوري، استطاعت مناطق الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا أن تقدم نموذجًا مغايرًا، يعتمد على التشاركية، ويعزز التعايش بين مختلف المكونات الاجتماعية والعرقية.
في الداخل السوري، تبرز الانقسامات الطائفية والمذهبية بشكل واضح، حيث تمزق الحرب البلاد، مدفوعة بسياسات النظام السوري السابق التي استخدم فيها الطائفية كأداة للحفاظ على سلطته، مما أدى إلى نشوء تحالفات قائمة على الدين والطائفة. هذه الانقسامات قد أدت إلى تحولات اجتماعية خطيرة، حيث فشلت القوى السياسية في إيجاد حلول عملية للاحتقان الشعبي، وتفاقمت المظالم نتيجة التدخلات الخارجية التي فاقمت من تعقيد الوضع الداخلي. كما أن التهميش التام لدور المرأة في الداخل السوري كان من أبرز تداعيات هذه السياسات، حيث اقتصرت مشاركتها على أدوار محدودة، وكان دورها في العملية السياسية والاجتماعية شبه معدوم، ما ساهم في تفاقم المعاناة المجتمعية.
كما أن القوى المحلية والعسكرية في الداخل، تتنافس على الهيمنة والنفوذ في مناطق مختلفة، مما يعمق الانقسام ويزيد من حالة عدم الاستقرار.
أما في إقليم شمال وشرق سوريا، فقد تم التركيز على بناء نموذج إداري يقوم على أساس من العدالة والمساواة. النموذج الذي قدمته الإدارة الذاتية يُبنى على احترام التنوع، حيث تتعايش الشعوب الكردية، والعربية، والسريانية، والآشورية والإيزيدية والشركسية وغيرها في بيئة سياسية اجتماعية أكثر تسامحًا وتشاركًا. على الرغم من التحديات الكبيرة التي واجهتها الإدارة الذاتية، خاصة في مواجهة الهجمات العسكرية من أطراف خارجية ومحلية، إلا أن هذا النموذج أثبت فاعليته في خلق بيئة من التعايش السلمي، واحترام حقوق الإنسان، وتعزيز الديمقراطية المحلية.
وفي نظام الحكم، تقدم الإدارة الذاتية نموذجًا منظمًا من خلال مجالس محلية ومؤسسات تشاركية، تضم الشعوب دون تمييز.
وحسب محللين ومراقبين للشأن السوري، تفتقر معظم المناطق في الداخل السوري إلى هذا النوع من التنظيم الشامل الذي يضمن مشاركة الأطراف في صناعة القرار، حيث يهيمن طرف واحد على الحكم في معظم المناطق، ما يجعل أي عملية سياسية حقيقية مستحيلة في ظل غياب الحريات والمشاركة الفعالة.
بالإضافة إلى ذلك، في حين تقتصر الحريات العامة في مناطق الداخل السوري على الحدود التي تحددها الحكومة السورية المؤقتة، تتيح الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا مساحة أكبر من الحريات الفردية، خاصة فيما يتعلق بمشاركة المرأة والشباب في الحياة العامة، وتفعيل دورهم في مختلف جوانب المجتمع كما ذكرنا أنفا.
في النهاية، على الرغم من التحديات الهائلة التي تواجه مناطق شمال وشرق سوريا، فإن المقارنة مع الداخل السوري، تظهر بوضوح، أن نموذج الإدارة الذاتية يقدم بديلاً فعّالًا لإدارة البلاد على أسس من التعايش السلمي والعدالة الاجتماعية. وبات من الواضح أن هذا النموذج قادر على تقديم حلول عملية ومستدامة تعزز من حقوق الشعوب السورية، وتمنح الأمل في بناء سوريا المستقبل بعيدًا عن الانقسامات الطائفية والمذهبية التي تعصف بالبلاد.
في ظل التحديات المستمرة التي تواجه سوريا، يبقى نموذج الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا أملًا للسوريين في بناء مستقبل مستقر. من خلال ترسيخ مبادئ الديمقراطية واحترام التنوع، يمكن لسوريا أن تتجاوز أزماتها وتعيد بناء مجتمعها على أسس من العدالة والمساواة. الأحداث الأخيرة، وعلى رأسها الاعتداء على مقام الخصيبي، تؤكد الحاجة الملحة لتبني نموذج إدارة جديد يتجاوز الانقسامات الطائفية والمذهبية التي أرهقت البلاد لعقود طويلة.