د. طه علي أحمد
“ذهبت السُكرةُ وجاءت الفكرة”، تلك هي العبارة الأبرز التي تُعبّر عن الواقع السوري في أعقاب سقوط نظام حكم حزب البعث الذي دام لأكثر من ستين عاماً.
ورُغم الجدل الذي شابَ العديدَ من القضايا المتعلقة بمستقبل الدولة السوريّة بدايةً من اختيار “العَلَم” وصولاً لِشَكْلِ الحُكم والدعوة لاختيار اللامركزية كأسلوبٍ لاستيعاب الواقع السوري الجديد، والذي يعد التنوع أبرز ملامحه
الواقع السوري الجديد بات محكوماً بمنطق “الصراع” أكثر من منطق “التسوية”، ولعل أسوأ ما يوصِمَ هذا الصراع هو خضوعه لإرادات وأجندات أجنبية ومشاريعٍ متعارضة أحياناً ومتوازية أحياناً أخرى.
فهناك المشروع الصهيوني المتمدد في الشرق الأوسط وبدعم أمريكي وأوروبي، وقد دخل هذا المشروع مرحلته الأكثر حسماً منذ السابع من تشرين الأول 2023 ليرفع راية “إسرائيل الكبرى” انطلاقاً من الأراضي الفلسطينية وصولاً إلى تمدده على الأراضي السوريّة عقب الإعلان عن سقوط النظام الحاكم بدمشق في 8 كانون الأول 2024، عبر عملية عسكرية أسمتها تل أبيب بـ “سهم باشان” توغلت من خلالها داخل المنطقة العازلة والقنيطرة وجبل الشيخ، ليعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي انهيار اتفاقية “فك الاشتباك” الموقّعة بين سوريا وإسرائيل عام 1947، وليخلّفه وزير دفاعه يسرائيل كاتس محدداً أهداف جديدة تضمنت “المنطقة العازلة والمواقع القريبة وإقامة منطقة أَمنية تمتد لما وراء المنطقة العازلة الخالية من الأسلحة الثقيلة والبنية التحتية ومنع تهريب الأسلحة الإيرانية إلى لبنان” وفق كاتس، وبذلك تتحدد ملامح المشروع الصهيوني على الجبهة السوريّة في السيطرة على جنوبها تعزيزاً لمشروع صهيوني تحت مُسمى “إسرائيل الكبرى” .
وفي الشمال مشروعٌ آخر يتسلَّل متخذاً ذريعةً مشابهةً اسمها “المنطقة العازلة” التي دأب الرئيس التركي “أردوغان” على رفعها كشعارٍ لمشروعه الطوراني المسمى “العثماني الجديد” المتمدد في عُمقِ الجغرافيا السوريّة مستهدفاً الاستحواذ على أوسع نطاقٍ ممكن من الأراضي السوريّة، بغض النظر عن أية خسائر بشرية بين السوريين بمختلف تنوعاتهم العرقية والمذهبية.
الهجوم التركي المتوقع على الأراضي السوريّة خلال الأيام المقبلة، بحجة مساعي أنقرة لتعزيز أمنها القومي، كما دأبت مزاعم المسؤولين الأتراك وأخرهم وزير الخارجية “هاكان فيدان” ليس إلا حلقةً في سلسلةٍ من العمليات العدوانية التي استمرت لسنوات عديدة تحت مسميات متعددة مثل “نبع السلام” (2019)، و”المخلب – القفل” (2022) وغيرها، وما ذلك وغيره إلا ترجمةً لعبارات كاشفة بوضوحٍ عما يجول بخاطر العقل “القومي التركي”، والتي يتداولها أخيراً السياسيون الأتراك – وعلى رأسهم أردوغان نفسه – وهي تصريحات تفوح منها رائحة العودة للتاريخ وإحياء الإمبراطورية العثمانية، حيث قال أردوغان خلال خطاب له في مؤتمر حزبي أخيراً: “لو كانت نتائج الحرب العالمية الأولى مختلفة، لكانت مدن مثل الرقة وحلب وإدلب ودمشق جزءاً من وطننا تماماً كمدن عنتاب وأورفة وهاتاي”، وهو ما يؤكد عليه دولت بهشلي رئيس حزب الحركة القومية، حليف أردوغان حينما ذهب بالقول إلى أن “حلب تركيّة حتى النخاع“.
ما سبق وغيره يؤكد على توازي – وليس تقاطع – المشروعين الصهيوني الإسرائيلي والطوراني التركي على الأراضي السوريّة، والتنسيق المتواصل بينهما، والذي كانت أبرز إجراءاته زيارة رئيس جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي (الشاباك) رونين بار إلى تركيا في 16 تشرين الثاني الماضي، أي قبل أيامٍ من سقوط النظام في دمشق، ورُغم أية مبررات مُعلنة لمثل هذا التنسيق يبقى الهدفُ المشترك بين أنقرة وتل أبيب مُمثَّلاً في تقليص النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط، وإجهاض أية تجربة سياسية اجتماعية كردية ترفضها الدولة القومية في تركيا كما حدث مع تجربة الدولة الكردية التي شهدتها إيران عام 1946، والتي أُجهضت بعد 11 شهراً بجهود إيرانية بريطانية، واليوم تشهد تجربة الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا نفس المخطط الذي تقوده تركيا بدعم إسرائيلي أملاً في إجهاض أية تجربة لإقامة “سوريا القوية” بمكوناتها المتنوعة “عربياً وكرديّاً وغير ذلك“.
وعليه، يصعُب تصوّر أي نجاحٍ لمواجهةٍ حقيقيةٍ لمثل هذه المخططات بدون وعي حقيقي من قِبَل السوريين أنفسهم عرباً وكرداً ودروزاً إلخ، وهو ما لا يمكن تصوره أيضاً بدون دولة مدنية تحترم التنوع وتعتبره مَصدراً للثراء وليس مِعْولاً للهدمِ والفُرقة.