نيرودا كرد-لا تزال نشوة إسقاط السلطة في دمشق تهيمن على مشاعر السوريين، وذلك نتيجة عقود طويلة من الظلم والاستبداد والقهر الذي عايشوه في ظل حكم آل الأسد، إلا أن الواقع يفرض ضرورة القيام بالمهام والواجب لإسقاط النظام.
في هذا الشهر سقط نظام الأسد، وعمت الفرحة أرجاء سوريا، بتخلصهم من الديكتاتورية التي فتكت بالمجتمع والإنسانية، على مدار حكم الأسد، وخاصة في ظل الأزمة السورية المستمرة لليوم في عامها الثالث عشر، واستلمت سلطات جديدة الحكم، لتسير الحكومة السورية المؤقتة الشؤون السورية، وهنا يتردد سؤال مهم يتردد على الألسن، كيف ستكون الحكومة الجديدة، والذهنية التي ستحكم فيها سوريا، وهل العقلية مختلفة، وهل تخلصنا من النظام بعقليته؟!
من الذي سقط؟
تحاول سلطات دمشق الجديدة أن تُظهر للشعب السوري بأن ما ناضل من أجله هذا الشعب على مدى أكثر من 14عاما قد تم إنجازه، وعلى الناس العودة إلى منازلها لأن “كل شيء جرى كما يريد الشعب”، هذه المحاولات تهدف إلى إبعاد الشعب السوري عن جوهر قضيته التي انتفض من أجلها، والمتمثل بالدرجة الأولى بتغيير النظام تغييراً جذرياً شاملاً.
إن ما جرى فعلياً في سوريا منذ الثامن من كانون الأول 2024 هو إسقاط للسلطة الحاكمة في دمشق، أما عن النظام فلا يزال قائما بعقليته السابقة، وأدواته السابقة وإجراءاته السابقة. أي أن ما أسقط عملياً هو الغلاف الخارجي للنظام، فيما بقي الجوهر على ما هو عليه دون أي مساس به، وهذا ما يخلق حالة من التخوف والترقب التي يعيشها السوريون كحالة طبيعية.
إن مفهوم النظام لا يتعلق بالأشخاص والأسماء حتى يتم اختصار عملية إسقاطه بإسقاط هؤلاء الأشخاص، فالنظام بمفهومه العملي هو جملة السياسات السياسية والاقتصادية- الاجتماعية التي ينفذها هؤلاء الأشخاص، وبالتالي فإن عملية إسقاط النظام تتطلب إسقاط جملة هذه السياسات، واستبدالها بسياسات أخرى أفضل تلبي مصالح الغالبية من السوريين الذين عانوا من الجوع والفقر والبطالة قبل الأزمة، ليتبعها الدمار والتهجير والنزوح خلال الأزمة، وهذا ما لم يتم العمل عليه في سوريا حتى هذه اللحظة، ومن هذا المنطلق، فإن ما تم إسقاطه في سوريا هو السلطة، ولم يتم إسقاط النظام بعد.
خط الفرز الحقيقي
إن الفرز الحقيقي الذي يميز بين نظام سابق ونظام قادم هو طريقة توزيع الثروة في كل نظام، فلا يخفى على أحد التوزيع الجائر الذي كان يتبعه نظام الأسد، ولا سيما خلال العقدين الأخرين من حكمه، هذا التوزيع الذي يذهب من خلاله أكثر من80% من الثروات الوطنية إلى جيوب أقل من 10% من الشعب السوري، والذين هم من المافيات وقوى السلطة وتجار الأزمات. في حين كانت نسبة أقل من20% من الثروة الوطنية تذهب لأكثر من90% من الشعب السوري، والذين هم من المفقرين وأصحاب الدخل المحدود الذين دفعوا الفاتورة الأكبر في هذه الأزمة.
هذا التوزيع الجائر للثروة دفع بأكثر من 90% من الشعب السوري إلى ما دون خط الفقر، وخط الفقر وفق معايير الأمم المتحدة، هو دولاران للفرد في كل يوم. وهذا التوزيع الجائر للثروة كان من أهم الأسباب التي أدت إلى انفجار الأزمة في سوريا عام 2011. وبالتالي فإن معيار قرب أو بعد أي نظام قادم في سوريا من مصالح الشعب السوري يتمثل في عمل هذا النظام على تصحيح هذا التوزيع، باتجاه يحقق أكبر نسبة نمو وأعمق عدالة اجتماعية في سوريا.
ولكن ومع الأسف، حتى اليوم لم نسمع من سلطات الأمر الواقع في دمشق أي نية في العمل بهذا الاتجاه، وإنما على العكس، فإن كل التصريحات التي تصدر عن مسؤولي هذه الحكومة السورية المؤقتة توحي بأن هذه السلطات تنوي استكمال النهج الذي بدأته السلطات السابقة، فضلا عن تخوف السوريين من تعميق هذا النهج وتكريسه أكثر فأكثر، الأمر الذي سيؤدي بلا شك إلى مزيد من الفقر والجوع الذي يعاني منه السوريون.
من سيحكم سوريا؟
إن الطبيعة الجغرافية والاجتماعية لسوريا تؤكد دائما على أنه لا يمكن لطرف واحد أن يحكم سوريا بالطريقة التي يريدها السوريون، وهذا ما أثبتت تجربة خمسين عاماً من حكم السلطة السابقة، حيث أدت هذه الطريقة إلى ما وصلت إليه سوريا اليوم، بالتالي فإن حكم سوريا يجب أن يتم بأيدي السوريين، وبرقابة السوريين.
بناء على ذلك، فإن المطلوب في هذه المرحلة هو مشاركة كافة القوى السياسية والمجتمعية في رسم مستقبل سوريا الجديدة، سوريا التي يجب أن تكون حقوق مكوناتها مصانة في دستور حقيقي يلبي تطلعات ومصالح السوريين، ويعيد إليهم كل تلك الحقوق التي سلبتها منهم السلطات السابقة.
إن القضايا المعقدة التي تتطلب حلولاً عادلة وجذرية، هي كثيرة، وعلى رأسها حقوق مختلف مكونات الشعب السوري، وهذا ما يفرض على أي نظام قادم أن يعمل على تلبيته، ومن ضمنها ضمان حل القضية الكردية في سوريا حلا ديمقراطيا عادلا وصون حقوق الشعب الكردي التي أهدرتها سلطات آل الأسد.
وهنا لا بد من الإشارة إلى نقطة في غاية الأهمية، وهي أن القضية الكردية في سوريا هي قضية وطنية لا يمكن لسوريا أن تُشفى من جراحها دون حلها، وهذا ما يسحبنا إلى الحقيقة الثانية، وهي أن المعني بالنضال في سبيل حل القضية الكردية هو ليس الشعب الكردي وحده، وإنما الشعوب السورية. وعلى هذا الأساس فإنه يتعين على القوى السياسية السورية أن تناضل في سبيل حل القضية الكردية في سوريا ورفع المظالم، التي عانى منها الشعب الكردي لأكثر من نصف قرن على يد آل الأسد.
إن دمج القضية الاقتصادية مع القضية الديمقراطية المتمثلة بحقوق الشعب الكردي وباقي مكونات الشعب السوري، هو ترابط تفرضه ضرورات الواقع السوري، حيث أن النهوض بسوريا من جديد نهوضاً سليماً يتطلب العمل على حل كل القضايا العالقة في سوريا ولا يمكن الفصل بين أي من هذه القضايا.
كيف يتم إسقاط النظام؟
لا شك بأن السوريين قد قطعوا درب آلام طويلة حتى وصلوا إلى هذه المرحلة، وهي مرحلة إسقاط السلطة، ولكن ما يجب الانتباه له بأن درب إسقاط النظام لا يزال أمامنا، وهو درب مفروش بالصعوبات، وعلى السوريين استكماله حتى النهاية كي لا تتبخر ثمار ما عانوه خلال كل هذه السنوات التي مضت.
إن استكمال عملية إسقاط النظام تتم من خلال تلقف السوريين للفرصة التي أتتهم بعد أكثر من نصف قرن، وهي فرصة تقرير مصيرهم بأنفسهم من خلال اختيار ممثليهم الحقيقين عن طريق الدفع باتجاه انتخابات حرة ونزيهة وشفافة. وهذا لن يتم دون مشاركة واسعة للسوريين في الحياة السياسية الجديدة، التي تنفتح آفقها اليوم أمام السوريين، كما يجب عدم السماح لأي طرف إعادة استئثار السلطة والتحكم بمصير البلاد والعباد كما كانت تفعل السلطة السابقة.
مشاركة السوريين في الحياة السياسية تتم من خلال تشكيل وانخراط السوريين في أحزاب حقيقية، تمتلك برامج ورؤى حقيقة تعبر عن مصالح الفئة الفقيرة من الشعب السوري، والتي تجاوزت نسبتهم الـ90%. هذه الأحزاب التي يجب أن تبنى على أسس سياسية وطنية بعيدة عن الطابع القومي والديني والطائفي، الذي لن يؤدي إلا إلى المزيد من الشرخ بين السوريين، وبالتالي يسمح بإعادة إحياء السلطة السابقة مع بعض المساحيق التجميلية.