حمزة حرب
عام 2023 طواه السوريون بمزيدٍ من المعاناة المستمرة واستقبلوا عامهم الحالي 2024 الذي حمل في طياته الكثير من المتغيرات والمفاجئات الغير متوقعة بالنسبة للكثيرين وأهمها سقوط النظام السوري في الأيام الأولى من الشهر الأخير لهذا العام، لكن هذا السقوط كان نتاج ضغوطٍ متراكمة قادت للانفجار العظيم الذي أطاح بنظام البعث بعد أكثر من 50 عام.
سوريا لم تكن خارج سلسلة ما حدث في الشرق الأوسط عموماً، وكانت شرارتها غزة في السابع من تشرين الأول لعام 2023 ليبدأ النظام السوري بالنظر إلى السماء وكأنما على رأسه الطير لأنه بات يتوجس مؤشرات الإطاحة فيه وذلك نتاج ما يعانيه السوريون في ذات الوقت من انتهاكات شديدة ومصاعب بسبب النزاع المستمر وتدهور الظروف الاقتصادية وانعدام الأمن السائد في البلاد خصوصاً في المناطق التي يسيطر عليها حينها.
معاناةمتراكمة
تُشير تقديرات “الأمم المتحدة” إلى أنه للمرة الأولى منذ بداية النزاع، يعاني السوريون في جميع أنحاء سوريا من درجة من درجات “المعاناة الإنسانية” رغم أن الظروف لا تزال غير آمنة، استمرت كلٌ من دولة الاحتلال التركي ولبنان المضيفتين للاجئين، بالترحيل القسري بشكل غير قانوني لآلاف اللاجئين إلى سوريا.
كما واصلت سلطات الأمن التابعة للنظام السوري بالاعتقال التعسفي والإخفاء القسري وإساءة معاملة الناس في جميع أنحاء البلاد، واصلت السلطات أيضاً، بشكلٍ غير قانوني، مصادرة الممتلكات وتقييد عودة السوريين إلى مناطقهم الأصلية.
رغم إقرار قانون يجرم التعذيب في آذار 2022، استمر التعذيب وسوء المعاملة في المرافق الحكومية وتم توثيق وفيات أثناء الاحتجاز، وفقاً لتقرير “لجنة التحقيق الدولية المستقلة المعنية بسوريا التابعة للأمم المتحدة” وثقت اللجنة أيضاً عمليات اعتقال واحتجاز تعسفي عبر تطبيق قانون الجرائم الإلكترونية الصارم الذي أُقِرّ في نيسان 2022 وهو ما ساهم في تضييق الخناق على السوريين أكثر وأكثر ومنعهم حتى من التعبير عن همومهم ومشاكلهم في ظل هذه الإخفاقات الحكومية.
سياسات الحكومة التابعة للنظام السابق فشلت في كل المقاييس حتى فشل النظام في الاستفادة من محاولات الاحتواء العربية ومبادراتها التي ارتكزت على خطوة مقابل خطوة ولم يقدم أي خطوة تصب في صالح هذا السياق خصوصاً فيما يخص تجارة المخدرات والممنوعات وحبوب الكبتاغون ليخلق حيتان مال مُقربة من السلطة على حساب قوت المواطنين الذين باتوا يتضورون جوعاً.
وهو ما قاد إلى المعاناة الكبيرة وارتفاع معدل التضخم الذي اعتُبر من الآفات الاقتصادية، التي تنعكس آثارها على الواقع الاجتماعي بشكلٍ كبير، وما لم يتم تبني سياسات جادة لمكافحة هذا العرض، تظهر العديد من الظواهر السلبية، منها فقدان الثقة في العملة المحلية، والاحتفاظ بالعملات الأجنبية أو الذهب، أو الاحتفاظ بالمدخرات في شراء الأصول.
شمل شيوع الفقر والجوع معظم أفراد المجتمع خلال الفترة الواقعة بين عامي 2011-2024، مما اضطرهم إلى البحث عن مصادر دخل بديلة لتلبية الحد الأدنى من احتياجاتهم الأساسية إلى جانب عملهم في وظائفهم في القطاع العام، يعمل معظم الأفراد في القطاع الخاص أيضاً، ويستعين بعضهم بتحويلات خارجية يُرسلها أقرباء لهم يقيمون في الخارج.
أرقامٌ وإحصائياتٌ مُفزعة
علاوةً على ذلك شهِدَ الواقع الاقتصادي في سوريا تدهور غير مسبوق، حيث يتقاضى الموظف الحكومي راتباً شهرياً قدره 300 ألف ليرة سوريّة في أفضل الأحوال، أي نحو 22 دولاراً، وفق سعر الصرف المحلي، وهو مبلغ لا يغطي نفقات أكثر من يومين فقط بالنسبة له.
حيث استمر تدهور قيمة الليرة وخسارتها نحو 130% من قيمتها، مع بداية العام الحالي مقابل سعر صرف العملات الأجنبية وارتفع معدل التضخم إلى 150%، بينما وصل مؤشر القوة الشرائية إلى درجة منخفضة جداً بلغت 4.21%، تبعه تراجع مؤشر قياس جودة الحياة بشكلٍ عام إلى درجة الصفر، وفقاً لقاعدة البيانات “نامبيو” لقياس جودة الحياة في دول العالم.
هذا التدهور المعيشي يرتبط بانهيار شامل تعاني منه البلاد بسبب الحرب وانعكاساتها على الحياة العامة التي أدت إلى جفاف منابع الاقتصاد وتوقف عجلة الإنتاج والعقوبات الاقتصادية التي تُفرض على النظام، هكذا كان يبرر النظام السابق جملة الإخفاقات التي تمر بها البلاد.
لكن يؤكد مراقبون إن العقوبات لا علاقة لها بحياة المواطنين فهي تُفرض على النظام السوري وأجهزته ورموزه إنما حالة الفساد المستشري ونهب المال العام وتجارة الممنوعات ومعاداة الدول الإقليمية والعربية منها على وجه التحديد وإغراقها بالكبتاغون ضيّق الخناق على النظام وبالتالي النظام كان يضيق على المدنيين.
ويغطي متوسط الرواتب والأجور الحالي 7% فقط من تكلفة الحصة الغذائية الشهرية للمواد الأساسية، بعد أن ارتفعت أسعارها بنسبة 100% للخبز، ومن 55% إلى 80% بالنسبة للخضار، ومن 10% إلى 38% بالنسبة للحوم البيضاء، ووصل سعر الكيلوغرام من لحم الخروف إلى 285 ألف ليرة (ما يعادل قيمة راتب شهر بالنسبة لموظف حكومي)، في زيادة بلغت نسبتها عن الشهر الماضي 18%، بحسب مؤشر “بزنس 2 بزنس” لأسعار السلع في سوريا.
فوفق بعض التقديرات التي أشارت إلى إن الطبقة الفقيرة أو المستضعفة في سوريا باتت تُشكل في عهد النظام السابق أكثر من 92% بينما تشكل الطبقة المستفيدة من عوائد تحالفاتها الاقتصادية مع السلطة تقريباً من 6% إلى 8%، وتتكون الأخيرة من 375 ألف عائلة تقريباً.
هذه العوامل المتراكمة دفعت الشعب السوري إلى الاستمرار في حركة متزايدة من الهجرة غير النظامية نحو شواطئ أوروبا، ويعتبر شاطئ طرطوس نقطة مفضلة للعاملين في الهجرة غير النظامية، نظراً لقربه من المناطق المطلوبة وأيضاً استغلت حيتان الأزمة المقربة من النظام السوري هذه الحاجة لتعمل في تهريب البشر نحو أوروبا لتستفاد إلى صالحها مردودات اقتصادية.
وبحسب مصادر رسمية قبرصية فإن واحداً من كل اثنين من المهاجرين غير النظاميين الذين وصلوا إلى قبرص هذا العام أتى من سوريا ويرجع ذلك للحاجة الماسّة للهروب من الواقع الذي فُرض على فئة الشباب خصوصاً بعد نحو 14 عام من الحرب وباتوا يبحثون عن بناء مستقبلهم، بعيداً عن ظروف الحرب وهشاشة الوضع المعيشي داخل سوريا.
انعدام أفق الحلول
مع كل هذه النكبات التي مر بها الشعب السوري على مدار 14 عاماً إلا أن قرار مجلس الأمن 2254 الصادر في كانون الأول 2015، شكّل نوعاً من إعادة تشكيل مرجعية الحل السياسي الذي تم تعطيله على مدار سنواتٍ طويلة وما كان العام 2014 إلا استكمالاً لسلسلة التعطيل الطويلة التي عمد النظام السوري السابق على انتهاجها كاستراتيجية لإضاعة بوصلة الحل في البلاد وتعميق الأزمة.
النظام السوري كان يعارض ضمنياً وبشكلٍ قاطع كل ما نصّت عليه التوافقات الدولية التي أكدت جميعها على الهوية العلمانية لسوريا، وانتخابات حرة ودستور جديد، وذلك مرده إلى أن المجتمع الدولي لم يكن يذكر البدائل أو الإجراءات المترتبة على عدم تنفيذ هذه البنود في الفترة الزمنية المقررة ما جعل الطريق مفتوحاً أمام عرقلتها والفشل في تنفيذها.
كما تم إغفال مصير رئيس النظام، والتأكيد على إشراك ممثلين عن النظام كطرف في الحل، عبر استخدام عبارة “الموافقة المتبادلة”، كشرط لتشكيل “هيئة الحكم الانتقالية” التي نصَّ القرار عليها كوسيلة من ضمن وسائل أخرى يمكن العمل عليها، وليس الوسيلة أو المدخل الوحيد للحل، واستبدلت خطوة “ضمان الهدوء والاستقرار”، بمقاربة أضيق تتضمن “وقفاً غير شامل لإطلاق النار” يستثني المجموعات التي تصفها بالإرهابية.
وعكس القرار 2254 حالة الخلافات الدولية حول الملف السوري، ومع أنه مثّل إجماعاً دولياً جديداً حول وجوب حدوث انتقال سياسي من نوع ما في سوريا، ولكنه من ناحية أخرى وفي تفاصيله بدا وكأنه تماهي مع الرؤية الروسيّة للحل، وتخلٍّ رسمي من طرف المجتمع الدولي عن التزاماته تجاه الحراك الشعبي في سوريا.
بكل الأحوال بقي القرار وبقيت الجهود الدولية معطلة، ولم يعد هناك مرجعية للحل بعد أن تم سحب البساط من جنيف باتجاه آستانا وتم تجميد عمل اللجنة الدستورية وما إلى ذلك وبقي التصعيد في الميدان يزداد حيث يرى نفسه النظام وداعميه الإيراني والروسي منتصرين، وإن المسألة حُسمت عسكرياً ولا طائل من التفاوض مع أي طرف سوري أو إقليمي أو حتى دولي.
وفي سياق هذه المعطيات التي تُفرض على الأرض بات البحث عن مخرج من هذا الوضع المتأزم ونتجت مقاربة “خطوة مقابل خطوة” والحل “المتدرج” للأزمة السوريّة كآلية بديلة للتعامل مع الوضع في سوريا، تتضمن التركيز على سلوك النظام لا رحيله، وتقديم الحوافز له في مقابل التعاطي بإيجابية مع القرارات الدولية والعملية السياسية، وقد اقترح بيدرسون نفسه العمل وفق هذه المبادرة بعد تعطل مسار اللجنة الدستورية.
وهو ما اعتُبر تقدّم في مسار الانفراجة التي يبحث عنها النظام السوري وداعمه الروسي أمام واقع اقتصادي متردي وتحديات تعاني منها سوريا وتحديداً مناطق سيطرته على الصعيد الداخلي، والالتزامات المستحقة بعد سنين الحرب والاستنزاف، فإن النظام لا يملك ترف عزل نفسه وإدارة ظهره لمحيطه والعالم من حوله تحت شعار الصمود والتصدي، كما فعل من قبل لكنه في الوقت عينه لم يتمكن من تلبية الشروط العربية لإعادة احتواءه.
واقع جديد يُعلِّق السوريون عليه آمالهم
وكان من أبرز ما حمله العام 2024 هو ما خُتِمت فيه هذه الحلقة من السلسلة الطويلة للمعاناة وطوت معها معاناة سنوات من الاستنزاف والقمع ليتحول يوم الثامن من كانون الأول 2024، يوم مفصلياً في تاريخ سوريا الحديث حيث حمل معه سقوط نظام الأسد، بعد معارك وتطورات دراماتيكية قادتها هيئة تحرير الشام وساندتها مجموعاتٌ شعبية وأخرى مسلحة من الجنوب السوري ومن العاصمة دمشق أدت إلى الإطاحة المدوية بالأسد.
ففي الأيام الأولى لسقوط الأسد ومع الاقتراب من انتهاء العام الحالي بدت تظهر مؤشرات الانفراج الاقتصادي بشكلٍ عام، ووعود بتراجع معدلات التضخم بشكلٍ خاص، ومن هذه المؤشرات أن سعر الليرة السوريّة شهِد تحسناً ملحوظاً أمام العملات الأجنبية، فوصل إلى 12 ألف ليرة للدولار عند الشراء و12.5 ألف ليرة عند البيع.
وانعكس هذا بدوره على أسعار السلع والخدمات في سوريا، إذ انخفضت أسعار السلع، وخاصةً في العاصمة دمشق، خصوصاً بعد قرارات استعادة النشاط الاقتصادي، وعودة المؤسسات الحكومية الخاصة بالجوانب الاقتصادية، والتي كان على رأسها أو أهمها، عودة المصرف المركزي لممارسة نشاطه وكذلك باقي مكونات الجهاز المصرفي، والوزارات المعنية بالنشاط الاقتصادي.
كما لعبت سياسة طمأنة الأفراد على مُدخراتهم لدى البنوك، وأن التسويات الخاصة بالمستوردين لدى الحكومة خلال سيطرة النظام السابق سيتم ردها، ويتم العمل وفق نظام جديد للاستيراد يتعامل فيه المستوردون مع السوق الخارجي مباشرةً، وهو ما يعني تقديم الشواهد من قبل الحكومة المؤقتة لاستعادة الثقة بين الشعب والحكومة فيما يخص الأوضاع الاقتصادية.
وعلى الجانب الآخر بدت مؤشرات العودة الطوعية للاجئين وهذه المرة ليست قسرية وحتى المهجرين داخلياً بدت نوايا العودة الى مناطقهم وقراهم ومدنهم لذا بات من المتوقع أن تزيد تدفقات النقد الأجنبي لسوريا، وخاصةً تحويلات العاملين السوريين بالخارج، من أجل توفير حياة كريمة لذويهم، وهو ما يعني زيادة المعروض من النقد الأجنبي، وبالتالي إما حالة استقرار لسعر الصرف الحالي، أو مزيد من تحسّن وضع الليرة أمام العملات الأجنبية، وفي كلتا الحالتين سيكون التضخم عند معدلات مقبولة بحسب اخصائيين اقتصاديين.
ومن هذا المنطلق عوّل السوريون كثيراً على بوادر التحسن التي تتوعد بها حكومة دمشق المؤقتة الجديدة التي شُكلت على عجلٍ ومن لونٍ واحد وطيفٍ واحد على أن تنتهي ولايتها في آذار القادم والانتقال إلى مؤتمر وطني جامع لتحديد هوية سوريا الجديدة ودستورها بإشراك كل أطياف الشعب السوري.
كما توعدت عدة دولٍ عربية وإقليمية ودولية بتدفق المساعدات الإنسانية لسوريا خلال الفترة المقبلة، ما سيُعزز توفير بعض السلع، التي يمكن أن تُساهم في تراجع الطلب المحلي إلى حدٍ ما، وهو ما يعني السيطرة على معدلات التضخم عند حدود منخفضة، مما كانت عليه من قبل، حيث يُتوقع أن تكون قياسات معدلات التضخم بنهاية كانون الثاني 2025 أكثر إيجابية، ليكون أقل بكثير عند مقارنته بشهر كانون الثاني 2024، أو كانون الأول 2025، إذا ما تعاطت الحكومة المؤقتة بشكلٍ إيجابي مع المشهد الاقتصادي للبلاد.