روناهي/ محمد عيسى ـ عاشت سوريا على مدار عقود من الزمن تحت حكم استبدادي غابت فيه العدالة، وتهمشت فيه الشعوب، مع سقوط نظام الأسد، أصبحت البلاد أمام فرصة لبناء نموذج ديمقراطي عادل يتسع للجميع، وفق مشروع الإدارة الذاتية، وما طرحته من مبادرة في الفترة الأخيرة.
على مدار عقود من حكم البعث، صاغ النظام السوري صورة أحادية للبلاد، تقوم على الإقصاء وفرض هوية قومية واحدة. واليوم، بعد سقوط النظام، تقف سوريا على مفترق طرق، حيث تواجه تحديات جسيمة في بناء دولة ديمقراطية تعددية تحترم حقوق الإنسان وتضمن مشاركة عادلة لجميع شعوبها.
قمع الحريات وتهميش الشعوب
منذ تولي حافظ الأسد الحكم عام 1970، وحتى عهد ابنه بشار الأسد، اتسم النظام السوري بالسيطرة المطلقة وقمع الحريات، حيث اعتمد حزب البعث على خطاب قومي عربي تهميشي اختزل الهوية السورية في إطار ضيق، متجاهلًا التنوع الثقافي والإثني والديني، الذي يميز البلاد. كان النظام يفرض لونًا واحدًا في كل مظاهر الحياة العامة: لغة واحدة، وشعارات قومية بعثية أُجبرت كافة الفئات على التماهي معها. أما اسم البلاد “الجمهورية العربية السورية”، فقد عكس هذا التوجه الإقصائي، مُهملًا الشعوب غير العربية مثل الكرد والآشور.
في ظل هذا النظام، عانت الشعوب من التهميش والحرمان من حقوقها الثقافية واللغوية، حيث مُنع الكرد من استخدام لغتهم أو التعبير عن هويتهم، وقُيدت حرية ممارسة الشعائر الدينية للشعوب الأخرى. طوال حكم الأسد، استخدم النظام الأجهزة الأمنية كأداة لتكريس سلطته، حيث امتلأت السجون بالمعتقلين السياسيين وتم قمع أي صوت معارض بوحشية. غابت حقوق الإنسان عن المشهد السوري تمامًا، وأصبحت الحريات الأساسية مجرد شعارات جوفاء، حيث كانت الصحافة خاضعة لسيطرة الدولة، وحرية التعبير والتجمع تقتصر على ما يخدم أجندة النظام.
عانت الشعوب السورية، من كرد وسريان وآشوريين، لعقود طويلة من الإقصاء. مُنعت الشعوب من تعليم لغاتها في المدارس أو ممارسة ثقافاتها بشكل علني، وكان النظام يعزز فكرة “الذهنية الواحدة” التي تفرض الهوية العربية كهوية وحيدة لسوريا، مع تجاهل كامل لتنوعها الفريد.
سقوط النظام فرصة لإعادة البناء
مع سقوط نظام الأسد في الثامن من كانون الأول الجاري، انفتح أمام سوريا أفق جديد يحمل في طياته إمكانيات ضخمة لإعادة بناء سوريا على أسس مختلفة، أسس تعكس تطلعات الشعب السوري نحو الحرية والعدالة والمساواة. لم يكن سقوط النظام مجرد نهاية لحقبة من الاستبداد والقمع، بل كان بمثابة بداية مرحلة تاريخية تتطلب إعادة التفكير في جميع جوانب الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في البلاد.
بعد سنوات من الهيمنة المطلقة للنظام، أصبح بالإمكان الحديث عن صياغة دستور جديد يعترف بالتنوع الثقافي واللغوي والديني للمجتمع السوري، ويهدف إلى ضمان حقوق جميع شعوبه من عرب وكرد وآشور وسريان، بالإضافة إلى الطوائف الدينية مثل المسيحيين والعلويين والدروز. هذه الفرصة تفتح المجال لبناء سوريا المستقبل، سوريا التي لا تقتصر على لون واحد أو هوية واحدة، بل على تنوع غني ومتعدد يسهم في إثراء الهوية الوطنية ويؤسس لدولة تعترف بمواطنيها جميعًا.
التحول المنتظر يشمل ضرورة إنشاء دولة ديمقراطية تحتكم إلى القانون، حيث يتم انتخاب السلطة من قبل الشعب ويكون فيها مكان للحرية والمساواة. كما أن هذه المرحلة تتطلب تحسين آليات المشاركة السياسية لجميع شرائح المجتمع السوري، بما في ذلك النساء والشباب، لتكون لهم أدوار فاعلة في اتخاذ القرارات السياسية وتشكيل مستقبل البلاد. إضافة إلى ذلك، يجب أن تكون سوريا المستقبل دولة تتسم بالشفافية وتحترم الحريات، مع توزيع عادل للثروات بين جميع المناطق.
حماية حقوق الإنسان ستكون من أبرز أولويات الدولة الجديدة. فقد عانى الشعب السوري طويلًا من انتهاك حقوقه الأساسية تحت حكم النظام، ومع سقوطه يجب العمل على بناء مؤسسات قانونية تحمي الحقوق الفردية والجماعية وتحارب الفساد. ويجب إرساء آليات العدالة الانتقالية لضمان محاسبة من ارتكبوا الجرائم بحق الشعب السوري طوال السنوات الماضية.
هذه الفرصة التاريخية تتيح لسوريا بناء مستقبل زاهر يرتكز على التعددية السياسية والعدالة الاجتماعية، حيث يعيش جميع السوريين في ظل مناخ من الحرية والحقوق المتساوية، ويشارك الجميع في بناء مستقبلٍ أفضل يضمن حقوق الأفراد ويعزز الهوية الوطنية السورية المتنوعة.
الإدارة الذاتية نموذج للديمقراطية
تمثل الإدارة الذاتية الديمقراطية في إقليم شمال وشرق سوريا نموذجًا فريدًا للديمقراطية والإدارة المحلية الذي يمكن أن يُعتبر مرجعية لبناء سوريا المستقبل. فبعد سنوات طويلة من الصراع والدمار، نجحت هذه التجربة في استعادة بعض مظاهر الاستقرار، حيث قامت بتأسيس نظام يشمل جميع شعوب المنطقة، بما في ذلك الكرد والعرب والسريان والآشوريون، ليكون نموذجًا متنوعًا يعكس التعدد الثقافي والعرقي الذي يميز سوريا. وقد تميزت هذه الإدارة بتركيبتها السياسية التي تضمن تمثيلًا عادلًا لجميع شرائح المجتمع، مع التركيز على المبادئ الأساسية مثل العدالة والمساواة، وضمان تمثيل المرأة في الحياة السياسية بشكل فعال، بالإضافة إلى احترام حقوق جميع المواطنين في استخدام لغاتهم وممارسة ثقافاتهم.
في خطوة هامة نحو تعزيز وحدة البلاد وبناء السلام، أعلنت الإدارة الذاتية في 16 كانون الأول 2024 عبر بيان عن مبادرة بناء سوريا الجديدة عبر الحوار السوري – السوري الشامل، بالتعاون مع الحكومة السورية المؤقتة التي تشكلت بعد سقوط نظام بشار الأسد. تضمنت المبادرة نقاط مهمة تهدف إلى تجاوز الخلافات الداخلية والتوصل إلى حل شامل، مع التركيز على تعزيز وحدة الأراضي السورية وحمايتها من الهجمات التركية المستمرة على المنطقة. وشملت المبادرة الدعوة إلى وقف العمليات العسكرية في جميع أنحاء البلاد كشرط أساسي لبدء حوار وطني شامل، مما يفتح الباب أمام عملية سياسية تتيح للجميع المشاركة الفعالة في بناء مستقبل سوريا. كما أكدت المبادرة على ضرورة إرساء مواقف التسامح بين السوريين ووقف خطاب الكراهية والتخوين، وهو ما يتطلب جهدًا جماعيًا من جميع الأطراف لتأسيس بيئة سياسية صحية قائمة على الحوار والتفاهم.
أحد أبرز محاور المبادرة كان تأكيدها على تعزيز مشاركة المرأة في العملية السياسية، وهو أمر بالغ الأهمية لضمان تمثيل النساء في المؤسسات السياسية المستقبلية. بالإضافة إلى ذلك، شددت المبادرة على ضرورة توزيع الموارد الاقتصادية بشكل عادل بين مختلف المناطق السورية، لتجنب تهميش أي منطقة أو شعب، بما يعزز من العدالة الاجتماعية في البلاد. كما كان لافتًا التأكيد على ضرورة ضمان عودة المهجرين قسرًا إلى مناطقهم الأصلية وحماية إرثهم الثقافي من محاولات التغيير الديمغرافي التي تعرضت لها بعض المناطق، وهو ما يعكس حرص الإدارة الذاتية على الحفاظ على الهوية السورية المتنوعة.
وفي سياق الأمن والاستقرار، أكدت المبادرة على ضرورة الاستمرار في مكافحة الإرهاب، وخاصة مرتزقة “داعش”، من خلال التنسيق بين قوات سوريا الديمقراطية والتحالف الدولي. وهو ما يعد أمرًا حيويًا لضمان عدم عودة التنظيمات الإرهابية إلى الأراضي السورية، مما يوفر بيئة آمنة ومستقرة لجميع المواطنين. كما تطرقت المبادرة إلى ضرورة إنهاء حالة الاحتلال في سوريا وترك القرار النهائي للسوريين لتحديد مصيرهم ومستقبلهم السياسي بأنفسهم، داعيةً إلى دور إيجابي للدول العربية والأمم المتحدة في دعم هذه الجهود، مع التأكيد على ضرورة وقف التدخلات الخارجية في الشؤون الداخلية لسوريا.
تجسد هذه المبادرة خطوة هامة نحو تحقيق سوريا ديمقراطية ومجتمع متنوع، يسعى لتحقيق العدالة والمساواة لجميع شعوبه. ويمكن أن يُعتبر نموذج الإدارة الذاتية أساسًا لتعميم الديمقراطية في سوريا، حيث يقدم تجربة ناجحة في تعزيز العدالة الاجتماعية والحرية. إن تعميم هذه المبادرة على كافة المناطق السورية ستساهم في بناء دولة تحترم حقوق الإنسان وتؤسس لمستقبل من الاستقرار والازدهار للجميع.
سوريا الجديدة حلم يتحقق
إن سقوط نظام الأسد يشكل نقطة فاصلة في تاريخ سوريا، إذ يفتح أمام الشعب السوري فرصة تاريخية لبناء دولة جديدة تقوم على أساس العدالة وحقوق الإنسان، وتحتضن شعوبها دون استثناء. بعد عقود من الظلم الذي عانى منه السوريون، تأتي هذه اللحظة لتمنحهم أملًا في وطن يعكس تنوعهم الثقافي والعرقي واللغوي، ويضمن لهم حقوقًا متساوية. إن مرحلة ما بعد الأسد يجب أن تكون بداية لعهد جديد تتاح فيه الفرصة لجميع السوريين للمشاركة الفعالة في صياغة مستقبلهم السياسي والاقتصادي، بعيدًا عن أي تمييز أو إقصاء.
يعد النموذج الذي قدمته الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا خطوة هامة نحو تحقيق هذه الرؤية. فقد أثبت هذا النموذج إمكان بناء سوريا ديمقراطية حقيقية تأخذ بعين الاعتبار الشعوب السورية، من كرد وعرب وآشوريين وسريان، وتضمن لهم تمثيلًا في صنع القرار. تظهر هذه التجربة قدرة السوريين على تأسيس مؤسسات سياسية قادرة على تعزيز العدالة والمساواة، وتفعيل دور المرأة في الحياة السياسية، بما يتماشى مع طموحاتهم لبناء دولة تسعى لتوفير حقوق وحريات الجميع.
في هذا السياق، يجب أن تكون سوريا المستقبل دولة يسود فيها مبدأ المساواة والعدالة، حيث يتمتع كل فرد بحقوقه الأساسية دون النظر إلى عرقه أو دينه أو جنسه. يتطلب هذا بناء مجتمع يقدّر التنوع ويستفيد منه كقوة دافعة نحو تقدم البلاد، ويؤكد أن كل سوري لديه الحق في العيش بكرامة والمساهمة في عملية البناء الوطني. من خلال احترام التنوع الثقافي والعرقي، يمكن لسوريا أن تتحول إلى نموذج عالمي في التعايش السلمي، حيث يتم تعزيز وحدة الشعب السوري تحت مظلة التنوع، ويحتفظ بحقوق المواطنين في التعبير عن هويتهم والمشاركة في رسم ملامح وطنهم.
تستند هذه الرؤية إلى ضرورة بناء مجتمع يلتزم بمبادئ حقوق الإنسان والحريات الأساسية، ويضمن للجميع حياة خالية من التمييز. سوريا المستقبل هي تلك التي يستطيع فيها كل مواطن، بغض النظر عن خلفيته الثقافية أو الدينية، أن يعيش بحرية وكرامة، ويسهم في بناء وطنه بكل فخر واعتزاز. في هذا الوطن، لا يُعد ُّالتنوع عبئًا، بل فرصة لتعزيز الوحدة الوطنية، وخلق بيئة يسود فيها التفاهم المتبادل والاحترام، وتُحترم فيها حقوق الإنسان على الأصعدة كلها.