روناهي/ حمزة حرب ـ في ظل المرحلة الانتقالية التي تمر بها الحكومة السورية، تسارع دولة الاحتلال التركي للتدخل في الشؤون السورية أكثر من قبل، في حين قدمت الإدارة الذاتية الديمقراطية عبر مبادرتها الشاملة ما يحقق وحدة الأراضي السورية، بما يتوافق مع تطلعات الشعب السوري.
شهدت سوريا خلال أربعة عشر عامًا من الصراع تحولًا جذريًا في موازين القوى المحلية والإقليمية والدولية بدأ الحراك شعبيًا وسلميًا، لكنه انتهى بصراع مسلح معقد ومدعوم خارجيًا، في ظل غياب رؤية سياسية موحدة ومؤثرة ميدانيًا، لكن وبعد سقوط نظام البعث ووصول هيئة تحرير الشام ذات الطابع الديني المتشدد إلى السلطة في دمشق واعتلائها سدة الحكم لسوريا المتنوعة عرقياً ودينياً وطائفياً وإثنياً يفرض تحدياتٍ جديدة ومبادراتٍ فعالة لتأسيس سوريا الجديدة القائمة على التعددية لا على التشدد، أن تكون لا مركزية تلبي تطلعات السوريين الذين عانوا من بطش النظام وإجرامه بحقهم.
أردوغان وركوب الموجة
سقط النظام بأيدي السوريين فبينما كانت هيئة تحرير الشام تقاتل على تخوم حمص كان أهالي درعا والسويداء وريف دمشق، قد دخلوا قصر بشار الأسد وكان الأخير متجهاً إلى موسكو هارباً تاركاً خلفه ضباط مخابراته ومعتقلاته وجبالاً من الآلام على كاهل السوريين الذين اعتلتهم نشوة النصر والخلاص من حقبة دامت لأكثر من 50 عاما عناوينها الرعب والخوف والإقصاء.
هيئة تحرير الشام وبوصفها أطلقت شرارة التحرك ضد النظام اعتلت سدة الحكم المؤقت في دمشق لتسارع دولة الاحتلال التركي، وتسبق غيرها من الدول إلى التواصل المباشر مع السلطة الجديدة في دمشق، فأرسلت رئيس جهاز استخباراتها إبراهيم كالن إلى دمشق حيث التقى قائد إدارة العمليات العسكرية أحمد الشرع “أبو محمد الجولاني سابقاً”.
كالن حمل في جعبته جملة من الشروط لحكومة دمشق الجديدة وفق المساعي، التي قدم من أجلها لركوب الموجة وهي بحسب أوساطٍ سياسية تتمحور حول الكتل السياسية والمجموعات المتطرفة التي رهنت قرارها للجانب التركي طيلة سنوات الأزمة، وعملت بوصفها مرتزقة لها وعدم استبعاد من أي مستقبل لسوريا الجديدة، وعدم السماح للإدارة الذاتية بالاستمرار في إقليم شمال وشرق سوريا، إلى جانب نيل الاحتلال التركي حصة في إعادة الإعمار.
فبهذا السياق يكشف الخبير في العلاقات الدولية الدكتور محمد اليمني في تصريحاتٍ خاصة لصحيفتنا، إن “من يقف وراء تركيا أمريكا وإسرائيل بالدعم المخابراتي الذي يفتح أمامهم بطبيعة الحال الكثير من الأبواب المغلقة، فتركيا هي شريك الأمريكيين والإسرائيليين الموثوق فيها أكثر من غيرها من دول الشرق الأوسط لأنها تعرف قواعد اللعبة وحدودها ودورها فيها حتى لا تخرج عن الخط الاستراتيجي المرسوم لها، وهي لا ترى في ذلك تعارضا مع طموحاتها وتطلعاتها الإقليمية المتنامية في التوسع والتمدد”.
الشرع على ما يبدو يتعامل ببراغماتية عالية في هذا السياق، فهو يبعث برسائل الطمأنة للأطراف دون مناصبة العداء لأحد؛ لذلك يؤكد محللون أنه لم يمتثل لقرارات الاحتلال التركي بالمطلق لكن لا يمكن استبعاد أنه قد ينخرط في نوع من المساومات التي من الممكن أن تفرضها تركيا في حال عدم تلقيه الدعم الدولي والإقليمي الكافي للخروج من العباءة السوداء، التي يحاول التركي إضفاءها على الساحة السورية من خلال دعم التيار المتشدد ومرتزقة داعش لحكم البلاد.
التخادم الدولي والإقليمي على حساب السوريين
غالباً ما دعت الإدارة الذاتية ومجلس سوريا الديمقراطية إلى ضرورة الحوار السوري ـ السوري لأنه في نهاية المطاف المصالح الدولية والإقليمية لا تعير أي اهتمام لمستقبل السوريين بل تسير وفق سياسة النفع والتخادم القائمة، ومن هنا يؤكد متابعون أن ملايين السوريين لا شك أنهم نزلوا إلى الشارع يوم الثامن من شهر كانون الأول الجاري للاحتفال بسقوط نظام الأسد، في المدن السورية والمهجرين في الخارج وهذا ما قد منح أحمد الشرع وإدارته للعمليات العسكرية، التي أعلن عنها شرعية شعبية مؤقتة أجلسته على كرسي بشار الأسد الذي تركه شاغراً خلفه والشرع كان بأمس الحاجة لهذا التحرك، لكنها تبقى شرعية ثورية مؤقتة ومشروطة بطبيعتها كذلك فإن التدفق الدبلوماسي الأمريكي ـ الأوروبي على دمشق، الذي عبر عن اعتراف أولي، مؤقت ومشروط بدوره، رهن الحكم الجديد وإدارة سوريا مستقبلاً.
بالنسبة للسوريين، الذين كانوا عملياً خارج المعادلات السياسية في السنوات الماضية، ومحكومين بالتدخلات الإقليمية والدولية وحساباتها، فهم يتوقون إلى التحرر من تلك الوصايات وإمساك زمام الأمور بأيديهم وبناء سوريا الجديدة كما يريدون لكنهم يدركون، في الوقت نفسه، أن الأمور ليست بهذه البساطة، لا فيما بينهم ولا في علاقاتهم مع المتدخلين من الدول الأخرى ويدرك أحمد الشرع أنه يمشي في حقل ألغام شديد الخطورة ويحتاج في كل خطوة يقوم بها إلى دعم شعبي واسع وتوافقات إقليمية ودولية لا يمكن تجنبها.
لذا استغل الاحتلال التركي هذه الفجوة ليلعب في الوقت البدل الضائع، وحسب ما نوه إليه الدكتور محمد اليمني فإن “أردوغان وبغريزته التي يسير فيها يظن أن وقت الانقضاض على مناطق شمال وشرق سوريا قد حان ففي حوزة هذه المنطقة مساحة كبيرة من الأرض والنفط والغاز، وهذا ما يهم أردوغان في الحقيقة، بينما تل أبيب التي تخرج منها بعض الأصوات التي تدين أنقرة ما هي إلا ألعوبة جديدة، فلا هي قدمت الدعم للكرد ولا هي نأت بنفسها، فبالنظر لذلك نرى أن تل أبيب تبحث أيضاً عن ذرائع لتحقيق هدفها المماثل لهدف أردوغان، فإسرائيل تريد السيطرة على دمشق مقابل التغاضي عن أطماع أردوغان وفق سياسية التخادم المتبادل فيما بينهم”.
مضيفاً، أنه “وفي اللحظة التي سيهاجم فيها أردوغان الإدارة الذاتية عبر وكلائه، أو عبر حكام دمشق الجدد سيكون جيش إسرائيل في دمشق، ولن يخرج منها تماما كما فعل في الجولان وسيعترف ترامب لهم بسيادتهم عليها كما فعلها عام 2019 وأعلن أن الجولان جزء من إسرائيل”.
كما أشار الدكتور اليمني إلى أنه “على حكام سوريا الجدد أن يلتفتوا إلى هذا الأمر، وأن يعملوا على كبح جماح أردوغان، الذي يريد بناء حماس أخرى علي حدود إسرائيل للتخادم معها بهدف إلهاء العالم فيها ويتاجر بها كما تاجر بحماس غزة ليخلوا له المجال في التعامل بشكل مباشر مع الكرد على حدوده الجنوبية وهو على ما يبدو الآن في عجلة من أمره خاصة أنه يجيد اللعب والمناورة وإبرام الصفقات مع ترامب”.
الاحتلال ومحاولات خلق فتنة عرقية
بمناسبة انتهاء حقبة القمع والتسلط التي فرضها نظام البعث على الشعب لأكثر من نصف قرن، والتي عانى خلالها السوريون من الظلم والتهميش والإقصاء، يحق للسوريين الاحتفاء بانتصار إرادتهم في إسقاط هذا النظام الجائر، وفي ظل هذا التحول التاريخي، يأتي علم الاستقلال بألوانه الثلاثة الأخضر والأبيض والأسود مع النجمات الحمراء الثلاث، كرمز للمرحلة الجديدة، إذ يعبر عن تطلعات الشعب السوري نحو الحرية والكرامة والوحدة الوطنية.
وانطلاقاً من أن مناطق الإدارة الذاتية الديمقراطية في إقليم شمال وشرق سوريا تمثل جزءاً لا يتجزأ من الجغرافيا السورية، ولأن سكان هذه المناطق من الشعوب السورية الأصيلة، فقد قرر مجلس الشعوب الديمقراطي رفع العلم السوري على جميع المجالس والمؤسسات والإدارات والمرافق التابعة للإدارة الذاتية في مقاطعات الإقليم.
بهذه الوصف أعلنت الإدارة الذاتية لإقليم شمال وشرق سوريا رفع علم الاستقلال على مؤسساتها وهو استكمالاً لما نادت به منذ اندلاع الأزمة في البلاد وهو التكامل مع سوريا الأم، وتأييد لوحدة البلاد وتفنيد للادعاءات التي لفقها المحتل التركي زوراً وبهتاناً بإلصاق تهم الانفصال عن سوريا، لكن وبحسب مراقبين هذا لم يرق للاحتلال الذي كان قد شن هجوماً على منبج ليحتلها وعينه على كوباني، وفي باقي المناطق بدأت خلاياه بإشعال فتيل الفتنة التي يرى من خلالها طريقاً لتدمير المنطقة وتحقيق اطماعه.
هيئة الداخلية في الإدارة الذاتية الديمقراطية لشمال وشرق سوريا وعلى لسان اللواء علي حجو حذرت من محاولات إشعال الفتنة بين مكونات الشعب في عموم سوريا، داعياً أهالي شمال وشرق سوريا إلى التكاتف والالتفاف حول قوات سوريا الديمقراطية لإفشال هذه المحاولات.
في الوقت عينه لا زال يرسل مرتزقته وإرهابييه لتشتيت انتباه المنطقة عن دمشق، وعدم إفساح المجال للتفاهم مع دمشق من خلال وضع المنطقة على صفيحٍ ساخن وهو ما أخر الوفود، التي من المنتظر أن تصل دمشق من إقليم شمال وشرق سوريا ضف إلى ذلك محاولاته المستميتة في إحداث شرخٍ كردي ـ كردي والسعي لعدم الوصول إلى تفاهمٍ يفضي إلى تلبية تطلعات الشعب الكردي وتحصيل حقوقه دستورياً في هذه المرحلة الحساسة.
فالفتنة “العربية، الكردية” والشرخ “الكردي ـ الكردي” هي سياسياتٌ انتهجتها سلطات الاحتلال التركي إلى جانب محاولات ركوب الموجة لتصدر المشهد، لكن تم إفشالها بالوعي اللازم الذي تمتاز به شعوب شمال وشرق سوريا وأثبتت مجدداً زيف ادعاء الاحتلال التركي وبرهنت للعالم قوة وتماسك أبناء المنطقة بحسب مراقبين.
مبادرة الإدارة الذاتية… بوابة الخلاص السورية
أطلقت الإدارة الذاتية لشمال شرق سوريا مبادرة لحل الأزمة السورية، في ظرف يكثر فيه الحديث عن قرب تسوية الأزمة السورية سياسياً، في قراءة خاصة لتسارع التطورات الميدانية والعسكرية وحتى السياسية فالمبادرة التي أطلقتها الإدارة والتي حملت في طياتها نقاطاً عشرة تتضمن:
1ـ الحفاظ على وحدة وسيادة الأراضي السورية وحمايتها من الهجمات التي تشنها الدولة التركية ومرتزقتها.
2ـ وقف العمليات العسكرية في كامل الأراضي السورية للبدء بحوار وطني شامل وبنّاء.
3ـ اتخاذ موقف التسامح والابتعاد عن خطاب الكراهية والتخوين بين السوريين، فسوريا بلد غني بمكوناته وأطيافه ويجب الحفاظ على هذا الغنى والتنوع على أساس ديمقراطي عادل.
4ـ عقد اجتماع طارئ تشارك فيه القوى السياسية السورية في دمشق لتوحيد الرؤى بشأن المرحلة الانتقالية.
5ـ المشاركة الفعالة للمرأة في العملية السياسية.
6ـ نؤكد على أن الثروات والموارد الاقتصادية يجب أن يتم توزيعها بشكل عادل بين كل المناطق السورية، كونها ملكاً لجميع أبناء الشعب السوري.
7ـ ضمان عودة السكان الأصليين والمهجرين قسراً إلى مناطقهم، والحفاظ على إرثهم الثقافي وإنهاء سياسات التغيير الديمغرافي.
8ـ مع التطورات التي حصلت في سوريا نؤكد على استمرارنا بمحاربة الإرهاب، لضمان عدم عودة تنظيم داعش الإرهابي، وذلك بالتعاون المشترك بين قوات سوريا الديمقراطية وقوات التحالف الدولي.
9ـ إنهاء حالة الاحتلال، وترك القرار للشعب السوري لرسم مستقبله وتطبيق مبدأ حسن الجوار.
10ـ نرحب بالدور البناء للدول العربية، والأمم المتحدة، وقوى التحالف الدولي، وجميع القوى الدولية الفاعلة في الشأن السوري، ونحثهم جميعاً على أن يؤدوا دوراً إيجابيا وفعالاً في تقديم المشورة والدعم للشعب السوري، وتقريب وجهات النظر بين أطيافه ومكوناته بما يضمن الحفاظ على الاستقرار والأمن، ووقف التدخلات الخارجية في الشأن السوري”.
الدكتور محمد اليمني أشار الى “المبادرات الوطنية الشاملة بوصفها أنها أفضل ما يمكن للسوريين القيام به اليوم وهم يحتاجون إلى التكاتف والتلاحم لبناء سوريا الجديدة وفي حقيقة الأمر لم نشهد مبادرة شاملة وتحقق تطلعات الجميع باستثناء مبادرة يتيمة قدمتها الإدارة الذاتية لإقليم شمال وشرق سوريا وكان المضمون ملائماً ومناسباً للتفاهم فيه مع دمشق سيما وأنها تشدد على وحدة الأراضي السورية وتقاسم الثروات والاعتراف بالتعددية وغيرها من القيم الوطنية الجامعة”.
ومن هذا المنطلق يرى مراقبون إن مبادرة الإدارة الذاتية تعد بوابة للخلاص من جحيم المصالح الدولية وإنهاء الانسداد الذي يعترض طريق السوريين في التوصل لحلولٍ تنهي معاناتهم وأن ما يجري على الساحة السورية يحتاج إلى قراراتٍ هامة ومفصلية على رأسها وقف إطلاق نار شامل إفساح المجال أمام القوى السياسية والديمقراطية لإطلاق ملتقى حوار وطني سوري جامع يفضي إلى مخرجاتٍ تلبي تطلعات السوريين بمختلف انتماءاتهم.
ففي نهاية المطاف من يدفع فاتورة أي عرقلة لمسار الحل بعد رحيل النظام السابق، هم السوريون الذين دفعوا ضريبة بقائه أكثر من 50 عاماً فيما تقتات الأنظمة الإقليمية والدولية على معاناة السوريين، ولن يحقق الارتهان للخارج أي تطلعات للشعب السوري وعلى السلطة في دمشق اليوم إدراك ذلك، والتعامل وفق معطياته ومتطلباته كي لا تكرس حقيقة استمرار النظام السابق بألوان مختلفة.