حمزة حرب
بعد سقوط نظام الأسد كشفت الجرائم التي ارتكبت بحق الشعب السوري دون تمييز، ضد كل من خالفه الرأي، لتصنف كدولة منتهكة حقوقية، في حين يبقى آمال السوريين الذين عانوا من ذلك النظام الكثير، بناء دولة قانون سورية، تحمي حقوق الجميع.
ارتكب نظام البعث عمليات الاعتقالات والملاحقات المستندة إلى تقارير كيدية في معظمها وبعضها لكم الأفواه لمن يطالب بحقوقه أو يعارض سياسة النظام والتي تفضي في مجملها إلى القتل خارج نطاق القضاء والتسبب في وفاة أعداد كبيرة من المدنيين في جميع أنحاء الأراضي التي يسيطر عليها النظام ولم يكن الحراك الشعبي في سوريا عام 2011 إلا نتاج تلك التراكمات والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.
لطالما وجه نظام البعث على مدار العام في نشر إخطارات بوفاة سوريين تم اعتقالهم بسبب تقارير كيدية أو تهم واهية ليضعهم في مرافق الاحتجاز الخاصة بالنظام، وكان الكثير من العائلات على غير علم بحالة أفرادها المحتجزين واكتشفت أن الأقرباء الذين كان يعتقد أنهم على قيد الحياة قد توفوا منذ شهور أو أعوام مضت وفي حالات كثيرة، أنكر النظام وجود هؤلاء الأفراد في مراكز الاحتجاز التابعة له حتى وقت نشر إخطارات الوفاة.
السوريون… والقبضة الأمنية المميتة
التعذيب كان يستخدم على نحو منتظم ضد معارضي النظام المفترضين عند نقاط التفتيش والمرافق التي يديرها سلاح الجو، وشعبة الأمن السياسي، وإدارة المخابرات العامة، وإدارة المخابرات العسكرية لينقلوا بعدها إلى مراكز الاحتجاز التي يقع فيها التعذيب.
وكان للنظام العديد من مراكز الاحتجاز والاعتقال في مطار المزة وفروع الأمن العسكري 215، 227، 235، 248 و291؛ وسجن عدرا، وسجن صيدنايا، وفرع استخبارات القوات الجوية في حرستا، ومستشفى حرستا العسكري، ومستشفى المزة العسكري 601، ومستشفى تشرين العسكري.
“الفرع 322” على سبيل المثال في حلب واحداً من مئات المنشآت التي كانت تحتجز وتستجوب المدنيين وضباط الجيش على حد سواء، وتجنّد السكان المحليين لمراقبة جيرانهم فالملفات التي عثر عليها في قبو الفرع التابع لأمن الدولة في عهد نظام بشار الأسد تقدم تفاصيل دقيقة عن الانتهاكات التي طالت السوريين خلال حقبة حكم عائلة الأسد.
تحتوي الملفات الورقية وتعود تواريخها إلى الأشهر الأولى من الحراك الشعبي عام 2011 ضد الأسد، تفاصيل حول كيفية تصدي النظام لهذه الثورة باتباع سياسة “تنظيف” المناطق من الأشخاص المطلوبين، عبر اعتقالهم واستجوابهم ومشاركة تفاصيل عمليات الاستجواب مع جميع الفروع الأمنية الأخرى من أجل استخدامها لاحقا في تحديد وملاحقة أهداف جديدة.
وكانت الشبكة السورية لحقوق الإنسان كشفت عن الآلاف من إخطارات الوفاة ولكنها قدَّرت عدد المحتجزين المسجلة وفياتهم بعشرات الآلاف ولم يعلن النظام عن تلك الإخطارات ولم يتم نشرها في سجلات الدولة المحدثة، ولم يقم بإعادة الجثامين إلى العائلات أو يفصح عن مواقع بقايا الجثث.
لجنة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق في سوريا والعديد من جماعات حقوق الإنسان كانوا قد أكدوا أن النظام استمر في تعذيب وقتل الأشخاص في مرافق الاحتجاز ولا تزال الغالبية العظمى من المختفين منذ بدء النزاع في عداد المفقودين ووفقاً لتقديرات جماعات حقوق الإنسان.
المحامي والناشط الحقوقي خالد جبر وفي تصريحاتٍ خاصة لصحيفتنا أكد على أن “النظام السابق لم يعير أي اهتمام لأي سوري من الناحية الحقوقية وما نشاهده اليوم في صيدنايا وباقي المعتلات التي شيدها وأدارها نظام بشار الأسد هي دليل على كمية الإجرام التي كان يخفيها هذا النظام داخل أقبيته وتحت الأرض اليوم جميعها ظهرت للعلن وهي انتهاكات حقوقية لا مثيل لها في العالم بارتكاب دولة مثل هذه الجرائم بحق مواطنيها”.
حيث استخدام نظام البعث الاحتجاز “كسلاح لترهيب المدنيين حيث أفاد فريق الأمم المتحدة العامل المعني بحالات الاختفاء القسري أو غير الطوعي أنه طلب معلومات من النظام بشأن 113 شخصاً أفادت التقارير أنهم تعرضوا للاختفاء القسري ولم يتلقَ فريق العمل أي رد من النظام بشأن هذه القضايا المعلقة أو غيرها.
وكشفت شهادات الناجين اليوم أن الاضطرابات النفسية لدى بعض السجناء ترجع إلى طرق التعذيب المروعة المُستخدمة من قبل السجانين، سواء خلال التحقيق مع المعتقل في أول فترات اعتقاله لانتزاع اعترافات منه، أو حتّى بعد نقله إلى السجون السياسية الأكثر دموية.
أسلوب الشبح هو الدارج داخل هذه المعتقلات وهي عبارة عن تعليق المعصمين بالأصفاد لا تزال معلقة من أنبوب كان المحققون يعلقون عليه المعتقلين، وهي طريقة كانت تستخدم لكسر عظام الأكتاف والمعاصم للمحتجزين حتى يُقر المعتقل بما ينسب له او يكون معد مسبقاً من جرائم ربما يسمع بها لأول مرة في حياته.
قيصر… وصور الرعب
بعد سقوط النظام تبين للقاصي والداني أن ما نشره العسكري المنشق عن النظام أسامة عثمان والملقب بـ”قيصر” والذي كشف للمجتمع الدولي آلاف الصور التي هربها لاحقاً إلى خارج البلاد لجثث الضحايا الذين تم اعتقالهم وتعذيبهم وقتلهم خارج نطاق القضاء في مراكز الاحتجاز التابعة للنظام بين عامي 2011 و 2013.
وتم تأكيد شهادات قيصر على الأرض بعد أن أسقط النظام وأن الجثث تبدو عليها آثار حرق وخنق وجلد بالأسلاك وأشكال تعذيب أخرى متعددة، بما في ذلك تمديد العمود الفقري أبعد من الحد الطبيعي، ووضع الضحية على إطار دولاب وجلده بالسوط على أجزاء جسده المكشوفة.
جل ذلك كان في سجن صيدنايا المسلخ البشري، والتي تعرض فيها المعتقلون لمجموعة واسعة من التعذيب كأسلوب استجواب، وفي بعض الأحيان، دون سبب على الإطلاق ليفقدوا حياتهم تحت التعذيب وسط إهمال طبي خانق كوسيلة لانتزاع الاعترافات بجرائم تتعلق بـ “الإرهاب” في كثير من الأحيان لا ناقة لهم فيها ولا جمل.
وكان ذلك سبباً لأن يتخذ مجلس النواب الأمريكي قرارا في عام 2019 يقضي فيه بالإجماع بتطبيق “قانون حماية المدنيين السوريين” أو ما عُرف باسم قانون “قيصر”، وهو قانون ينص على فرض عقوبات على النظام السوري، وتستهدف دولا تدعمها، مثل إيران وروسيا، لمدة 10 سنوات.
وقالت لجنة الشؤون الخارجية في المجلس حينها في بيان لها صدر في 22 من كانون الثاني 2019 إن مجلس النواب الأمريكي صوّت على تفعيل قانون “قيصر” لحماية المدنيين السوريين” من أجل فرض عقوبات جديدة على حلفاء سوريا في مجالات الطاقة والهندسة والأعمال والنقل الجوي.
وكان بموجب هذا القانون بعد كشف كل الانتهاكات التي أخرجها قيصر للعالم الخارجي انه “سيُطلب من الرئيس الأمريكي فرض عقوبات جديدة على أي شخص أو جهة يتعامل مع النظام السوري أو يوفر لها التمويل، بما في ذلك أجهزة الاستخبارات والأمن السورية، أو المصرف المركزي السوري”.
بينما اليوم بات العالم برمته يشاهد فيديوهات خروج آلاف المعتقلين من سجن صيدنايا العسكري، لم تكتمل الفرحة عند جميع أهالي الناجين فقد خرج بعض المعتقلين في حالة نفسية يُرثى لها فبعضهم فقد الذاكرة نتيجة العنف والتعذيب، وبعضهم فقد قدرته على الاستيعاب، ولم يعد قادراً على التواصل مع الآخرين بشكلٍ سليم. وخلال 14 عاما من عمر الأزمة السورية ارتبط، اسم بشار الأسد ونظامه بعمليات قتل و”تعذيب ممنهج” بحق معارضيه في المعتقلات، وهو ما وثقته منظمات حقوق إنسان دولية، بينها “العفو الدولية”، “هيومان رايتس ووتش”، وتحقيقات أخرى أجرتها الأمم المتحدة.
ليكون قانون قيصر كان بمثابة إنجاز مهم في وقته، واستطاع لفت النظر للجرائم والانتهاكات التي ارتكبها نظام السابق وضباط مخابراته وأجهزته الأمنية في مراكز الاعتقال التعسفي التي تفتقد لأدنى معايير الإنسانية والأخلاق حيث خرج بعضهم من السجن بعد سقوط النظام بلا وعي، والبعض الآخر لا يعرف ما الذي يحدث وغيرهم اعتقدوا أن حافظ الأسد الذي مات عام 2000 لا يزال في السلطة.
التهمة “كردي”.. معدة سلفاً لقمع الكرد
إن لم يكن ما يجده النظام السوري من تهم جنائية أو ما شابه فإنه لا يخجل من توثيق تهمة المعتقلين أو المختفين قسراً بالقول إنه كردي فكانت هذه الكلمة كافية لأن يقبع الشخص في غياهب السجون وربما يفقد حياته تحت التعذيب ولا يدرك ما هو الجرم الذي ارتكبه أو لماذا تسلب حياته فقط لأنه كردي.
وهذا ما كشف للعالم أجمع من أوراقٍ وثبوتيات وسجلات تم إظهارها بعد أن كشفت البعض من أسرار سجن صيدنايا فظهرت ورقيات تثبت وفاة معتقل سابق في السجن وفي خانة التهمة كان موثق أنه “كردي”، وإلى الآن لا يعلم أحد كيف لإنسان أن يفقد حياته لأنه كردي، أو سني، أو درزي … إلخ، فهذه كانت حقيقة ما يخفيه النظام في دهاليز سجونه.
الحقوقي خالد جبر كان أحد من تم التضييق عليه من قبل الأفرع الأمنية ليروي لصحيفتنا أنه “تمت ملاحقتي من قبل الأجهزة الأمنية التابعة لنظام البعث السابق منذ عام 2014 وذلك إثر لقاءٍ تلفزيوني تحدثت فيه حينها عن أن النظام هو نظام قمعي نظام شوفيني وتم استخدام هذا اللقاء ضدي لأوضع بعدها على قائمة المطلوبين لفرع الأمن السياسي ومنذ ذلك الحين تم اعتباري ملاحق أمنياً، فحرية التعبير لدى النظام السابق لم تكن موجودة على الإطلاق”.
مضيفاً أنه “كان لنشاطاتي الحقوقية اللاحقة أيضاً ملفات يستخدمها النظام السابق ضدي شخصياً وأنا كحالة من بين ملايين الحالات السورية التي عانى منها الشعب السوري لدرجة إنني لم أتمكن من استخراج جواز السفر السوري وهو حق لأي مواطن حول العالم وبسبب هذه الملفات لطالما تعرضت شخصياً للابتزاز والاستغلال من النظام السوري بأرقام مختلفة كي يتم غض الطرف عني”.
تطلعات لسوريا الغد وهواجس من الماضي الأليم
كان النظام يعتقل كل من له صلة أو مشارك في النشاطات الاحتجاجية او الإعلامية او الحقوقية او حتى الطبية ليصار بهم الى حتفهم المحتم في أقبية ودهاليز السجون التي ستسفر عن وفاتهم نتيجة المرض بسبب الأوضاع غير الصحية والامتناع عن تقديم الرعاية الطبية والأدوية حيث حرمت السلطات السجناء الذين كانت لديهم مشاكل صحية قبل اعتقالهم، كالمصابين بالسكّري والربو وسرطان الثدي من الرعاية الطبية.
فأفرع مخابرات النظام كانت تحتجز وتتسبب بإخفاء أشخاص بشكل تعسفي في المناطق التي يسيطر عليها النظام، والتي تضع السوريين في ظروفٍ رديئة للغاية تفتقر إلى التهوية الملائمة والإضاءة وإمكانية الحصول على مياه الشرب أو الطعام الكافي، وتفتقر إلى الكوادر والأجهزة الطبية وأماكن النوم الكافية.
جبر أفاد أنه و” مع كل هذه الضغوط وكون أنني أعيش في مناطق الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا التي وفرت البيئة الأمنة لكل السوريين وحمتهم من بطش هذا النظام المجرم تمكنت طيلة هذه السنوات من الحفاظ على نفسي وأتابع مهامي الحقوقية ولم أقع رهن اعتقال سلطات النظام وأجهزته الأمنية إلى أن سقط النظام في 8 -12 -2024 ليكون يوم خلاصي وخلاص ملايين السوريين من هذه الملفات التي ذهبت أدراج الرياح”.
مشيراً إلى أن “الشعب السوري شعبٌ معطاء وعليه أن يدرك حقيقة ما جرى من انتهاكات حقوقية ويرسم مرحلة جديدة من التكاتف والتعاضد ويؤسس لدولة القانون والمواطنة خالية من الأفرع الأمنية ودهاليز السجون والتقارير الأمنية عليه نبذ العنف وتحكيم المنطق والعقل والإيمان المطلق بحقوق الفرد والجماعة بالعيش والمواطنة والحرية”.
ليبقى السوريون يعيشون نشوة انتهاء حقبة من الظلم والبطش والنكران والخذلان والانتهاكات وعيونهم شاخصة إلى غدٍ لا يريدون تكرار ما عاشوه هم وأسلافهم من قبضة أمنية مشددة عاثت بهم فساداً البوصلة تتجه لدمشق والمخاوف تتنامى في الصدور من تكرار السيناريوهات السابقة بألوانٍ وأشكالٍ مختلفة طامحين بالتغيير الحقيقي في الوصول إلى سوريا تحتضن كل السوريين دولة قانونٍ ومؤسسة لا إلغاء ولا إقصاء ولا تمييز فيها… فالسوريون اليوم ينتظرون سوريا لكل السوريين.