حمزة حرب
عانى الكرد من سياسة القمع والإقصاء خلال حقبة تولي نظام البعث الحكم في سوريا وتحت مسميات وخطط تخدم مصالحها جردت الكرد من هويتهم وحقوقهم المشروعة، بدءاَ من التوظيف وحتى الملكية، وليصل بهم الأمر إلى اعتقالهم فقط لأنهم كرد.
قبل انقضاض البعثيين على السلطة، أجري الإحصاء الاستثنائي في الحسكة بموجب القرار رقم 93 عام 1962 ومنه وإلى الآن والممارسات الإقصائية مطبقة بحق الكرد وفق سياسة الإجحاف التي عمقها حكم البعث وزادها حافظ الأسد وابنه بشار الذي سقط نظامه اليوم بعد عهدٍ من الاستبداد والإجحاف بحق الكرد.
تجريد الكرد من هويتهم الوطنية
في الوقت الذي كانت تركز فيه الحكومات المتعاقبة على قمع الهوية الكردية، عبر تقييد استخدام اللغة الكردية علناً، أو في المدارس أو في أماكن العمل، مع حظر المطبوعات باللغة الكردية، وحظر الاحتفالات بالأعياد الكردية، مثل عيد النوروز، وهو رأس السنة الكردية، أورث نظام الانفصال عن الجمهورية العربية المتحدة بين مصر وسوريا. كرد سوريا قضية جديدة، وهي قضية عشرات الآلاف من المجرّدين من الجنسية ومكتومي القيد ممن أطلقت عليهم السلطات صفة “أجانب محافظة الحسكة” والتي ستصبح إحدى القضايا المركزية في الخطاب السياسي الكردي.
وهذه النقطة لم تكن إلا تجريد ممنهج من الجنسية كان يرمي إلى إحداث تغيير ديمغرافي في المناطق الكردية بتجريد 120 ألف نسمة من جنسيتهم السورية بذريعة حكومية مفادها أن 60 في المائة فقط من الكرد هم سوريون بينما البقية قدموا من تركيا والعراق بدعم من الإمبريالية الأميركية.
والمفارقة وقتها أن بعض العائلات قسمت إلى أخوة مواطنين وآخرين أجانب فهذه المأساة حرمتهم من التوظيف والتعليم والملكية والمشاركة السياسية وتثبيت الزواج القانوني وحتى الإقامة في الفنادق أو السفر خارج سوريا وبطبيعة الحال كانت أحوال “مكتوم القيد” أقسى من وضعية المجرّد من الجنسية أو ما كان يطلق عليه “الأجنبي”.
عملية إسقاط الجنسية؛ أدت إلى خسارة العديد من المجردين حقوق ملكيتهم للعقارات والأراضي الزراعية، والتي منح قسم منها لمواطنين عرب عمدت السلطات إلى توطينهم في المناطق ذات الأغلبية الكردية إمعاناً في تغيير تركيبتها الديمغرافية وهنا يجب أن نشير إلى الضابط في الأمن السياسي حينها، والوزير لاحقاً، محمد طلب هلال، في الكرّاس الذي حمل اسم “دراسة عن منطقة الجزيرة السورية من النواحي القومية الاجتماعية السياسية” إلى وجوب تغيير ديمغرافية المناطق الكردية فيها.
خطة محمد طلب هلال
خطة محمد طلب هلال هي عبارة عن مخطط يشمل تشكيل حزام بعمق 15 كيلومتراً (نحو 9 أميال) على امتداد مساحة 280 كيلومتراً (174 ميلاً) بطول الحدود مع تركيا وكانت الخطة تشمل أيضا ترحيل الكرد المقيمين في قرى تدخل في نطاق هذا الحزام في المناطق السورية.
ومع وصول حزب البعث إلى السلطة في عام 1963 استمر في سياسة إنكار الهوية الكردية بدعوى تعزيز القومية العربية. العنصر الأساسي لهذه السياسة تشجيع العرب على التوطن بالمناطق التي يقيم فيها الكرد تقليدياً وتشكيل “حزام عربي” يفصل الكرد السوريين عن كرد تركيا والعراق.
وبدأت الحكومة في تنفيذ خطة إعادة التوطين مطلع السبعينات، لكن تحت مسمى جديد: فقد استبدلت الحكومة اسم “الحزام العربي” باسم “خطة إنشاء مزارع نموذجية للدولة في الجزيرة وهو في الحقيقة خطة ممنهجة لتوزيع الكرد وتغيير أماكن إقامتهم وتشتيت تجمّعاتهم البشرية.
إضافة إلى تجهيلهم عبر منعهم من حق التعليم وإفقارهم لحملهم على الهجرة وتأليب بعض الكرد ضد بعضهم الآخر. أما المفارقة المذهلة، فجاءت في اقتراحه “إنشاء مزارع جماعية للعرب الذين تسكنهم الدولة في الشريط الشمالي على أن تكون هذه السياسة أشبه بالحزام الفاصل بين سوريا وتركيا”.
ليتوسع فيما بعد باسم مشروع “الحزام العربي” بين عامي 1974 – 1975 حين نفّذ المشروع بعرض عشرة كم، وبطول 275 كم على طول الحدود مع تركيا والعراق، واستقدمت 4000 عائلة من الرقة وحلب بلغ مجموع المتضررين جراء عملية إعادة التوطين قرابة 150 ألف نسمة في 335 قرية أما المساحة التي غطّاها المشروع في الجزيرة، فبلغت ثلاثة ملايين دونم في الحسكة وحدها، وأكثر من مليوني دونم كانت نزعت من ملكية أبناء قبيلة المليّة بزعامة آل إبراهيم باشا في منطقة كري سبي/ تل أبيض التابعة للرقة وقتذاك.
أراد محمد طلب هلال في كراسه، بناء مستوطنات نموذجية زراعية مسلّحة تهدف إلى تغيير وجه المنطقة الكردية في الجزيرة. كما نُفّذ مشروع آخر عام 1967 عقب الهزيمة العربية في الحرب في عمقٍ كرديّ آخر حين قام النظام البعثيّ بإخلاء شمال غرب عفرين بحجة إقامة “ثورة زراعية اشتراكية”.
حقبة من التضييق بعهد حافظ الأسد
توقّفت سياسة التغيير الديمغرافي الحادة عام 1976 مع التدخّل السوري في لبنان، إلّا أن مفاعليها لم تتوقف بأثر رجعي. فالطرد الممنهج للفلاحين الكرد واضطرار قسم منهم للعمل في الحواضر الكبرى في حلب ودمشق كعمال في الدرجة الأدنى من الطبقات الاجتماعية.
كانت التسعينات، وما قبلها بقليل، سنوات التحوّل الأكثر وضوحاً في سياسة حافظ الأسد التي أحدثتها جملة أحداث عالمية وإقليمية انهيار المنظومة الاشتراكية وتحلل الاتحاد السوفياتي، وغزو العراق للكويت وما تبعه من بروز الكرد كلاعب جديد محتمل في العراق مع فرض منطقة راحة فوق أجزاء من باشور كردستان عبر القرار 688 الصادر عن الأمم المتحدة وهي المنطقة التي سارع كرد العراق لتشكيل نظام حكم ذاتي عليها.
هذه التحوّلات انعكست على كرد سوريا في اتجاهين، الأوّل محاولة الاستيعاب عبر إفساح مجال ضئيل وغير تمثيلي بشكل جيّد وكافٍ للكرد في انتخابات مجلس الشعب لدورة عام 1990، فيما تمظهر الاتجاه الثاني بفرض حزمة قرارات تمييزية ذات صبغة عنصرية وبطبيعة الحال ركّز نظام البعث بقيادة حافظ الأسد حينها في التسعينات على الإبادة الثقافية وشنّ حرب على اللغة ومصادر الهوية الكرديتين.
جاءت وفاة حافظ الأسد في حزيران 2000 والانفتاح النسبي في “ربيع دمشق” الذي تلا ذلك مع بدء الجماعات غير الرسمية في الاجتماع في المنازل الخاصة لمناقشة جهود الإصلاح جاءت لتزيد من جرأة الناشطين الكرد، وبدأ جيل جديد من المنظمات السياسية الكردية يظهر على الساحة.
وفيما أظهر بشار الأسد في بادئ الأمر قدراً محدوداً من التسامح مع هذه المنظمات، حاملاً شعار “التطوير والتحديث” على أمل أن يكون هناك مناخ ديمقراطي داخل سوريا فسرعان ما تغيرت سياسته معهم، وبدأت الأجهزة الأمنية في مضايقة واعتقال القيادات الكردية.
خصوصاً بعد أن انخرطت على إثر هذه الشعارات مجموعة من الأحزاب الكردية في ائتلاف معارض محاولةً منها تكسير جدار العزلة التاريخية على الحركة السياسية الكردية وعليه تبنّت مجموعة إعلان دمشق تصوّرات لحل القضية الكردية تكثّفت بالتالي: “إيجاد حل ديمقراطي عادل للقضية الكردية في سورية، بما يضمن المساواة التامة للمواطنين الكرد السوريين مع بقية المواطنين من حيث حقوق الجنسية والثقافة وتعلم اللغة وبقية الحقوق الدستورية والسياسية والاجتماعية والقانونية، على قاعدة وحدة سوريا أرضاً وشعباً. ولابد من إعادة الجنسية وحقوق المواطنة للذين حرموا منها، وتسوية هذا الملف كلياً”.
محاولات الكرد السياسية.. تصطدم بواقع مرير
سرعان ما خاب رجاء كرد سوريا بإمكانية أن ينصفهم الحكم الجديد، إذ سبق لأحزاب كردية أن تقدّمت بعرائض ومناشدات لإيجاد حل لمأساة المجرّدين من الجنسية دون جدوى. كما أن التظاهرة السلميّة في العاصمة بمناسبة اليوم العالمي لحقوق الإنسان عام 2002، للمطالبة بإعطاء الكرد المجرّدين حقوق المواطنة الكاملة، جوبهت باعتقال بعضٍ من منظميها.
الاختبار الدامي الأوسع حصل في 2004 إبان انتفاضة 12 آذار التي انطلقت شرارتها من ملعب قامشلو حين همّ عناصر النظام السابق بقتل مواطنين كرد، فيما كانت حصيلة أيام الانتفاضة الكردية التي عمّت المدن الكردية في الشمال السوري ومناطق تواجدهم بحلب ودمشق استشهاد 36 مواطناً كردياً وإصابة أكثر من 160 آخرين، واحتجزت الأجهزة الأمنية أكثر من ألفي شخص.
ناهيك عن عمليات التعذيب وإساءة معاملة المحتجزين، ومنهم أطفال ونساء حينها شعر الكرد بأنهم تُركوا وحيدين في مواجهة آلة قمعٍ أمعنت في الترهيب والقسوة وحاولت تأليب الرأي العام العربيّ في الجزيرة وبقية مناطق التواجد الكرديّ، بل إن قسماً من المعارضين أبدى تصديقه لرواية النظام للأحداث.
وفي أيار عام 2005، جرى اغتيال رجل الدين الكردي معشوق الخزنوي الذي كان له دور في التعبئة الكرديّة عقب انتفاضة 2004، فيما عمد النظام لاحقاً إلى اتباع وسائل القسوة عبر فتح النار على المحتفلين بليلة النوروز عام 2008 وقتل ثلاثة شبان وإصابة آخرين.
لم يكن العقد الأول من الألفية امتاز عن حقبة حكم البعث الطويلة بسياسة فتح النار فحسب، بل عمد النظام إلى إفراغ المنطقة الكردية عبر المرسوم التشريعي رقم 49 لعام 2008 إذ إن المرسوم منع وضع أي من إشارات الدعاوى والرهن والحجوزات والقسمة والتخصص على صحيفة العقار في المناطق الحدودية سواء أكان العقار ضمن المخطط التنظيمي للمدينة أو خارجه، إلا بعد الحصول على الترخيص القانوني من وزارة الداخلية معتبراً كامل الحسكة منطقة حدودية وباتت التراخيص بحاجة إلى موافقات أمنية وهو ما عنى أن الكرد سيخضعون لشكل آخر من الرقابة.
خصوصاً وأن السلطات حينها تملك أحكاماً جنائية فضفاضة لدرجة أن المحاكم بوسعها أن تعاقب الأفراد المادة 267 و285 و288 و307 و308 وغيرها الكثير من المواد التي تستخدم لإشهارها في حال تم اعتقال أي كردي يتم الصاق تهمة به وفق المواد الكثيرة التي تجرمهم لكونهم كرد فقط.
ووفق ذلك يمكنها قمع جملة واسعة من الأنشطة السلمية ومظاهر حرية التعبير سيما وأن هناك بعض الأحكام تحظر صراحة التعبير السياسي، مثل تلك الأحكام التي تحظر العضوية في أحزاب سياسية دون تصريح وبالتالي كونه لم يكن هناك قانون للأحزاب فإن أي كردي هو محل إدانة وفق هذا القانون المجحف.
ليبقى الكرد يسيرون في مضمار طويل من التهميش والإقصاء ليسقط نظام البعث اليوم ويخرج دليل إلى العلن وهي أوراق ثبوتية لأشخاص معتقلين والأبشع من ذلك بأنه معتقل بتهمة أنه “كردي” فكان النظام السابق يعامل الكرد على أنهم متهمين لكونهم كرداً فقط فلا يحتاج الكردي لارتكاب أي جرم كي يتم اعتقاله وهذا كان غيضٌ من فيض لما عاناه الكرد في حقبة نظام الإقصاء والاستبداد السابق.