قامشلو/ دعاء يوسف ـ بالصدمة والدهشة الممزوجين بالفرح استقبل سجناء صيدنايا حريتهم، بعد أن قبعوا عقوداً في الزنزانات بتهم تعجز الإنسانية عن تفسيرها، ومع كسر أقفال “المسلخ البشري” انكشفت قصص التعذيب والذل والتنكيل لتكون نقطة من بحر الجرائم التي ارتكبت بحقهم.
صرخات واحتفالات وتساؤلات عجت بها كل المدن السورية بعد سقوط نظام البعث، ولكن المشهد الأبرز في الشوارع كانت لآلاف المظلومين وهم يغادرون سجوناً لم تبصر النور منذ سنوات.
سجون وصفها السوريون بالمسالخ البشرية الداخل إليها مفقود والخارج منها مولود، وقد تواجدت هذه السجون وأشهرها سجن صيدنايا في عالم يعج بمنظمات دولية وحقوقية، تردد شعارات الحرية والديمقراطية والعدل، وتتغنى بحقوق الإنسان، ولكنها بقيت بعيدة عما يجري في سجون الأسد.
كما رافق تحرير المعتقلين العالقين في البناء الأبيض كما يطلق عليه، مقاطع فيديو يندى لها الجبين ولم تجد من العالم الحر إلا الإدانات المعتادة والتصريحات الرنانة، دون وجود مساءلة قانونية ومحاسبة الفاعل، فكيف سيكون الحال لمن سجنوا في منطقة البناية الحمراء ممن تعرضوا إلى ما لا يخطر على بال بشر من صنوف التعذيب، لم يخرجوا حتى اللحظة.
تاريخ من التعذيب والظلم
هذا وقد خرج معتقلو سجن صيدنايا في صباح الثامن من كانون الأول عام 2024 بعد أن كسرت جنازير سجنهم، وقد اتجهت الأنظار إلى السجناء بحثاً عن الوجوه وفي قوائم الأسماء، فلا توجد عائلة سورية إلا ووجدت له فرداً أو أكثر ضمن هذه السجون، ليبقى سؤال واحد يدور في رؤوسهم “أقتلت أم ما زلت حياً؟”. ويعد سجن “صيدنايا” أكثر السجون سرية وقسوة، ويقع السجن بالقرب من بلدة صيدنايا، على بعد حوالي 30 كيلومترًا شمالي دمشق، افتُتح عام 1987، واعتُبر في البداية مركزًا لاحتجاز العسكريين، لكنه لاحقًا أصبح مخصصًا أيضًا للمعتقلين المتهمين بقضايا سياسة ومدنية.
صمم السجن على هيئة قلعة، تتألف من مبنيين رئيسيين بالإضافة إلى عدد من المرافق، ويُعرف بأنه شديد التحصين ومجهز لمنع أي محاولة هروب، وعرف لدى من خرجوا منه بالمسلخ لشدة أنواع التعذيب التي قاسوها، ويمكن وصفه بأكثر السجون قسوة في العالم، بسبب استخدام أساليب تعذيب وحشية ومعاملة لا إنسانية للمعتقلين تصل إلى الإعدام أو الموت تحت التعذيب.
وفي عام 2011 استخدمت غرف الملح لحفظ الموتى، الذين فقدوا حياتهم تحت التعذيب أو بسبب الأمراض السارية حتى يتم دفنها أو حرقها لافتقار السجن من ثلاجات الموتى، وعمليات الإعدام تتم بشكل دوري، كما نشرت رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا في تحقيق لها عام 2022، فقد خصص يومين في الأسبوع لعمليات الإعدام، المعتقلون لا يتم إبلاغهم بالقرار بل يجرون على حبال المشنقة في اليوم نفسه لعملية الحكم. وأوضح في التحقيق بأن هناك غرفتين للإعدام واحدة في البناء الأبيض والثانية في البناء الأحمر، وأن عملية الإعدام تتم شنقاً وفي كلا الغرفتين عدة منصات لذلك.
وعملية التخلص من الجثث تتم بطريقتين؛ فمن قتل شنقاً ينقل إلى مقابر جماعية في “سيارة اللحمة” كما أطلق عليها السجانون، أو يتم التخلص من الجثث داخل السجن فقد كشف فيديو من داخل السجن بعد تحريره مكبس لطحن الجثث في داخل غرفة الإعدام التي حوت على المشانق والحبال، حيث يتم طحن الجثث وتعبئتها في كيس للتخلص منها ومن مات نتيجة التعذيب يرمى في غرف الملح مع رقم على جبينه، وبعد أن تتجمع الجثث تنقل في سيارات للدفن الجماعي أو الحرق.
أظهرت مقاطع فيديو بثت على مواقع التواصل الافتراضي مشاهد من غرفة مراقبة السجناء في سجن صيدنايا، وتظهر المشاهد نزلاء بالسجن بينهم نساء تتم مراقبتهم على مدار الساعة بعدة شاشات مجمعة في غرفة للتحكم.
إعدامات بالجملة
وتشير تقارير إلى قيام نظام البعث بإعدامات جماعية وسرية داخل السجن، خاصة بعد عام 2011، ففي عام 2017، أصدرت منظمة العفو الدولية تقريرًا بعنوان “مسلخ بشري”، أشارت فيه إلى أن ما بين خمسة آلاف، و13 ألف شخص أُعدموا في سجن صيدنايا بين عامي 2011 و2015، فيما قالت تقارير حقوقية أخرى، إن عمليات الإعدام التي تُنفذ بشكل ممنهج، غالبًا ما تنفذ عن طريق الشنق.
ويذكر أنه أعدم خلال عشر سنوات 35 معتقلاً بشكل مباشر أو تحت التعذيب، وقلة الرعاية الطبية والتجويع، وفي عام 2015 أصدرت منظمة هيومن رايتس ووتش الحقوقية تقريراً صادما عن الوفيات الجماعية والتعذيب في المعتقلات السورية، جاء تحت عنوان “لو تكلم الموتى”، وتحدث عن تواتر شهادات عن التعذيب والقتل في 27 من المعتقلات السورية.
لم تتوقف قسوة السجان عند القتل والتعذيب والتنكيل، بل إن شهادات مروعة كشفت عن عمليات اغتصاب واسعة للسجينات داخل المعتقل، خاصةً للسجينات السياسيات اللواتي جرى اعتقالهن عقب ثورة 2011. وقد قضى نحو 13 ألف سوري، بينهم 108 أطفال، تحت التعذيب داخل معتقلات النظام منذ بدء الثورة 2011، وفق ما أعلن المرصد السوري لحقوق الإنسان عام2020.
كما نشر مصور عسكري انشق عن النظام يلقب “القيصر” صور تظهر الانتهاكات التي ارتكبت في السجون عام 2017، وقد أوضحت هذه الصور المعاملة التي عامل النظام بها شعبه بكل وحشية وبعيداً عن أدنى قيم الإنسانية.
وقد خرج السجناء في البناء الأبيض كما يطلق عليه، وبدأت عمليات إخراج ممن هم في البناء الأحمر، وبين مسجونون سابقاً أن السجن يحتوي أيضاً طوابق تحت الأرض، وهناك العديد من السجناء الذين مازالوا عالقين تحت الأرض من دون نوافذ أو تهوية أو كهرباء، لا يعلمون ما يجري خارج زنزاناتهم.
ما خفي أعظم
هذا وانتشرت مع أسماء المعتقلين الذين بلغ عددهم أكثر من ثلاثة آلاف شخص، بعض التهم التي سجنوا بسببها، ومنها ما اقتصر على كلمة واحدة وهي سجن بتهمة أنه كردي، وأخرى أثارت تساؤل واستغراب الناس، وهي تهمة صلاة الفجر جماعة، وغيرها من التهم للانتماء لطائفة أخرى أو ديانة أخرى أو حمل علم معارض أو الخروج في مسيرات ضد النظام بأعوام متفاوتة وغيرها من التهم التي لا يتحاكم فيها السجين.
أظهرت مقاطع فيديو بثت على مواقع التواصل الافتراضي مشاهد من غرفة مراقبة السجناء في سجن صيدنايا، وتظهر المشاهد نزلاء بالسجن بينهم نساء تتم مراقبتهم على مدار الساعة بعدة شاشات مجمعة في غرفة للتحكم، وفتاة دخلت السجن بعمر 19 لتخرج، وهي تبلغ من العمر 32 ومعها ثلاثة أطفال، لا تعلم من هو والدهم، هذا وقد انتشرت مقاطع فيديو أخرى لإخلاء لسجون النساء، والتي تواجد فيها أطفال لا يتجاوز أعمارهم أربع سنوات.
كما نشرت العديد من صور المعتقلين الذين ترى الشرود في وجوههم، وكأنهم في عالم آخر، ومنها صورة لرجل أثناء فتح زنزانته المنفردة بعد 13 عاماً من السجن والصدمة والدهشة تعلو وجهه برؤية البشر، وكثيرون فاقدوا العقل والذاكرة، وبعضهم لم يصدق أن الأسد قد سقط بعد، ومن الفيديوهات التي حملت القسوة والألم لرجل كردي لا يجيب على سائليه سوى بكلمة سوريا، من أين أنت؟ سوريا، ما كنيتك، اسمك؟ سوريا، وآخرون خرجوا قبل ساعات من عمليات إعدامهم، فقد قرر إعدام أكثر من 54 شخصاً في يوم سقوط النظام ليكتب لهم عمر جديد.
ومنهم من توفي بعد أن خرج من بوابات السجون بساعات، وحال المحررين اختلطت فرحتهم بالاندهاش وعدم التصديق، وسط كدمات وجراح نفسية وجسدية دامت سنوات، ولم تسلم النساء والأطفال من التعذيب كالطفل حمزة الخطيب طفل قتل تحت التعذيب بعمر 13 سنة، وتبين خلال مقطع صورته الأسرة لحمزة جثمانه مكسور الفك والركبتين، بينما تم قطع أعضائه التناسلية وإحراق جلده بأعقاب السجائر.
وفي الساعات الأولى من خروج المعتقلين من السجون تدفقت عشرات القصص المروعة للتعذيب لم يفرق بين الرجال والنساء، ولا بين البالغين والأطفال، لكن هذا ربما لا يمثل نقطة من بحر ما سيتم الكشف عنه خلال الأيام والأسابيع المقبلة.
علت الفرحة على وجوه أهالي السجناء، حيث فقد الكثيرون الأمل في أن يتحرروا من قيود النظام البعثي في المعتقلات، لتظهر الأيام المقبلة هول الكارثة الإنسانية، التي كانت ترتكب في تلك المعتقلات، وكيف حرم بعض الأهالي من معرفة مصير أبنائهم وقتذاك، فقد كانت هناك عوائل كاملة مسجونة تحت الأرض.
صيدنايا ليس السجن الوحيد في سوريا الذي ارتكبت فيه جرائم بهذه البشاعة، فهناك الكثير سواء في دمشق وضواحيها، أو في مدن سرية كبرى كسجن فلسطين، وعدرا وغيره من السجون، التي لها تاريخ دامٍ في الثورة السورية.