روناهي/ محمد عيسى ـ في ظل استمرار الأزمة السوريّة على مدار ثلاثة عشر عاماً، بقيت حلب محور الصراعات الإقليمية والدولية، حيث بقيت حكومة دمشق غائبة فعليّاً عن المشهد دون إيجاد حلول تُلوّح في الأفق، لتطال المؤامرات والاتفاقيات حسب مصالح الدول المتدخلة الشعب السوري ككل.
في قلب الصراع المستمر في سوريا، الذي بدأ قبل ثلاثة عشر عامًا، تبدو الساحة على أعتاب مرحلة جديدة تزداد تعقيدًا يومًا بعد يوم، ومع تجدد التوترات، أشعلت هجمات مرتزقة ومجموعات متطرفة تابعة للاحتلال التركي الموقف مجددًا، حيث قاد مرتزقة “هيئة تحرير الشام” الإرهابية، الذراع السوري لتنظيم القاعدة، هجومًا ممنهجًا على مدينة حلب. هذا الهجوم لم يُعلن فقط عن عودة المعارك بشكلٍ أكثر شراسة، بل فتح الباب أمام تحولات كبيرة قد تُعيد تشكيل موازين القوى في المنطقة، وتؤكد أن الآمال في التوصّل إلى حل سياسي شامل قد تلاشت بسرعة.
تفاصيل عن بداية الهجوم
فجر الأربعاء الماضي، شهدت مناطق ريف حلب الغربي والجنوبي تصعيداً غير مسبوق من الهجمات، حينما شنّت مجموعات تابعة لهيئة تحرير الشام، المعروفة سابقاً بجبهة النصرة، هجوماً مفاجئاً على عدد من البلدات والقرى في المنطقة. الهجوم جاء وسط ظروف ميدانية صعبة، حيث تمكنت هذه الجماعات من استغلال الثغرات الموجودة في الخطوط الدفاعية لجيش حكومة دمشق، مستفيدةً من ضعف التنسيق والقدرة على الاستجابة السريعة.
بعد ساعات من بدء الهجوم، تمكنت المرتزقة التابعة لدولة الاحتلال التركي من اجتياح مناطق واسعة وصولاً إلى تخوم مدينة حلب، حيث تمكنت من قطع الطريق الدولي M5، الذي يُشكّل شرياناً رئيسياً يربط بين العاصمة دمشق وحلب. يعد هذا الطريق من أهم المعابر الاستراتيجية التي تضمن حركة الإمدادات العسكرية والاقتصادية، ومن ثم فإن تعطيله يُمثل ضربة قوية على أكثر من صعيد.
وتواصلت هجمات مرتزقة هيئة تحرير الشام التابعة لدولة الاحتلال التركي في قلب المدينة، حيث تمكنت من التوغل إلى أحياء استراتيجية مثل الراشدية والحمدانية، وهي مناطق حيوية ذات أهمية رمزية وعسكرية، وقد استخدمت هذه الجماعات أسلوب الهجوم المزدوج عبر السيارات المفخخة، في محاولة واضحة لخلق حالة من الفوضى والتشويش على الأجهزة الأمنية والعسكرية التابعة لحكومة دمشق. هذا التصعيد عكس حجم التنسيق والتخطيط الذي أعدّته هذه المجموعات، إضافة إلى الدعم الذي تلقته من أطراف أخرى.
مساعي الاحتلال التركي وأبعاد إقليمية مُعقدة
الهجوم الأخير الذي شنّته مرتزقة هيئة تحرير الشام في ريف حلب أثار العديد من التساؤلات حول دوافعه وتوقيته، خاصةً أنه تزامن مع اجتماعات أستانا التي جمعت الأطراف الرئيسية المعنية بالملف السوري. وقد كانت هذه الاجتماعات فرصة لإعادة ترتيب الأوراق بين القوى الإقليمية والدولية، بما في ذلك تركيا وروسيا وإيران، حيث تناولت النقاشات قضايا حساسة مثل التطبيع بين حكومة دمشق وأنقرة، ومستقبل الوجود العسكري في بعض المناطق.
توقيت الهجوم قد يكون مرتبطًا بمحاولة الاحتلال التركي إظهار قدرته على التأثير في مجريات الأحداث العسكرية والسياسية في سوريا، بما يتماشى مع مصالحه الاستراتيجية في المنطقة. من جهة أخرى، قد يكون الهجوم محاولة لاستغلال فترة ما بعد اجتماع أستانا لتعزيز موقف مجموعات المرتزقة المدعومة من أنقرة، وهو ما يعكس السعي لتوسيع نطاق المفاوضات حول مستقبل المنطقة. كما يرى مراقبون إن هذه التحركات تصب في إطار سعي الاحتلال التركي لاحتلال المزيد من الأراضي السوريّة وتقسيم سوريا ككل، بهدف تعزيز نفوذه الجيوسياسي واستغلالها كأوراق ضغط في التسويات الإقليمية والدولية.
هذا التصعيد العسكري لا يُمكن اختزاله في مجرد مناورة ميدانية، بل يتجاوز ذلك ليحمل أبعادًا سياسية وعسكرية عميقة تهدف إلى إعادة تشكيل التوازنات الإقليمية بما يتماشى مع الأجندات الخارجية. ويُعتقد أن الاحتلال التركي يقف وراء هذه الهجمات من خلال دعمه المباشر لمرتزقة هيئة تحرير الشام، التي تدّعي تركيا علنًا أنها معادية لها، بينما تُقدِّم لها الدعم بشكل خفي. ويرى محللون أن هذا الدعم التركي يهدف إلى تحقيق مكاسب استراتيجية طويلة الأمد، أبرزها تعزيز نفوذها في الشمال السوري، واستخدام هذه المجموعات كورقة ضغط سياسي على حكومة دمشق، إلى جانب تحقيق أطماعها في احتلال المزيد من الأراضي السورية.
على الرغم من أن تركيا لطالما قدّمت دعماً عسكرياً وسياسياً لهذه المجموعات، فإن التصعيد الحالي يبرز دورها كداعم رئيسي لها في سعيها لتعزيز نفوذها العسكري والسياسي في المنطقة. هذا الدعم يندرج ضمن سياسة تهدف إلى تحقيق أهداف استراتيجية طويلة المدى، ذكرناها آنفاً.
يرى متابعون للشأن السوري إن هذا الهجوم يأتي أيضًا ضمن مخطط تركي أوسع للضغط على حكومة دمشق لقبول شروط الاحتلال التركي في مسار التطبيع بين البلدين. ففي وقتٍ تتزايد فيه الضغوط الداخلية على أنقرة بسبب أزمة اللاجئين السوريين، تسعى تركيا إلى إيجاد تسوية مع دمشق تضمن معالجة هذه الأزمة، وتسعى لتحقيق ذلك عبر تهديدات بهجمات احتلالية تهدف إلى دفع حكومة دمشق للتفاوض بشأن قضايا رئيسية مثل عودة اللاجئين وترتيب الوضع في المناطق الحدودية، مع تحقيق مكاسب إضافية عبر احتلال مناطق جديدة يمكن أن تساهم في تعزيز موقفها في المفاوضات.
على الرغم من التصريحات الرسمية التركية التي تروّج لدعم ما تمسى بالمعارضة السوريّة، تبدو هذه الجماعات المدعومة كأداة ضغط رئيسية على حكومة دمشق، حيث تسعى أنقرة إلى استخدام هذه المجموعات لتحقيق أهدافها الاستراتيجية في المفاوضات المُقبلة. في المقابل، تجد حكومة دمشق نفسها أمام خيار صعب بين التفاوض مع تركيا والتنازل مقابل استقرار الوضع على حدودها الشمالية، أو مواجهة هجمات دولة الاحتلال التركي ومرتزقتها المتزايد الذي يهدف أيضًا إلى فرض واقع جديد عبر توسيع الاحتلال التركي للأراضي السوريّة.
بالمجمل، يشير الهجوم التركي الأخير إلى أنه ليس مجرد مناورة عسكرية، بل جزء من سياسة أوسع ذكرنا تفاصيلها.
من جهة أخرى، يبدو أن الصمت الروسي إزاء هذه التحركات قد منح “ضوءاً أخضر” لمزيد من الفوضى العسكرية في مناطق معينة، خصوصًا في الشمال. روسيا، التي دعمت حكومة دمشق في صراعات سابقة، تظهر اليوم عدم اهتمام بتصعيد الوضع على الجبهات الجنوبية والشمالية، ما يفتح المجال أمام فاعلين آخرين مثل دولة الاحتلال التركي للعب دور أكبر في مجريات الأحداث، واستغلال هذا الفراغ لتحقيق أطماعها التوسعية.
يرى مراقبون أن هذا الهجوم لا يُمثل مجرد هجوم ميداني، بل هو جزء من تحولات استراتيجية كبيرة تتداخل فيها الأبعاد العسكرية والسياسية، ما يزيد من تعقيد الوضع في سوريا ويجعل التحركات الإقليمية والدولية أكثر تعقيدًا، بينما يستمر الاحتلال التركي في استغلال هذا التعقيد لتمكين سيطرته وفرض واقع احتلالي جديد.
تداعيات إقليمية ودوليّة
تأتي التطورات الأخيرة في سوريا في سياق إقليمي ودولي معقد للغاية، حيث تتداخل التحديات العسكرية والسياسية التي تؤثر بشكلٍ كبير على القوى الكبرى في المنطقة. في هذا السياق، تواجه إيران ضغوطًا متزايدة نتيجة للهجمات الإسرائيلية المستمرة ضد مصالحها في سوريا، خاصةً تلك التي تستهدف منشآت الأسلحة التابعة لها ولحلفائها مثل حزب الله. هذه الهجمات أضعفت قدرة إيران على تقديم الدعم السياسي والعسكري لحكومة دمشق كما كانت في السابق، مما يزيد من تعقيد الوضع العسكري في سوريا. وعلى الرغم من أن إيران كانت تشكل أحد أبرز الداعمين لحكومة دمشق في مواجهته للتحديات الداخلية والإقليمية، فإن الهجمات الإسرائيلية على منشآتها العسكرية في سوريا تضعف قدرتها على الاستمرار في هذه المهمة، وتحد من قدرة طهران على استعراض قوتها في الساحة السوريّة.
إلى جانب هذه الضغوط العسكرية، تواجه حكومة دمشق تحديًا آخر يتمثل في التصعيد على الحدود اللبنانية -الإسرائيلية، الذي نشأ بعد الهجوم المفاجئ لحركة حماس في تشرين الأول 2023. هذا التصعيد أدى إلى زيادة الانشغالات الإيرانية في ملفات متعددة، مما أضعف قدرة طهران على التركيز على دعم دمشق في مواجهة تلك الضغوط. في هذه الأثناء، لا يمكن تجاهل دور حزب الله اللبناني الذي كان من أبرز حلفاء حكومة دمشق في هذا الصراع. فقد قدم الحزب دعمًا عسكريًا مباشرًا لحكومة دمشق، حيث كان يشارك في العمليات القتالية إلى جانب الجيش حكومة دمشق في عدة جبهات، إلا أن تزايد الضغوط على إيران وحزب الله في الساحة الإقليمية، وكذلك انشغال طهران في مواجهاتها على أكثر من جبهة، جعل من الصعب على الحزب الاستمرار في لعب الدور نفسه الذي كان يؤديه في السابق، ما يزيد من تعقيد الوضع بالنسبة لحكومة دمشق.
من جهة أخرى، تجد حكومة دمشق نفسها في مواجهة تحديات مماثلة من جانب روسيا، التي كانت تعد أحد أبرز حلفائها العسكريين والسياسيين. انشغال روسيا بالحرب الأوكرانية أثر بشكلٍ كبير على قدرتها في توفير الدعم العسكري الكافي لحكومة دمشق، حيث كانت موسكو تقدم الدعم العسكري المباشر عبر الضربات الجوية والطائرات الحربية، بالإضافة إلى الاستشارات العسكرية وتقديم الدعم الدبلوماسي في المحافل الدولية. لكن؛ مع تصاعد الأولويات العسكرية الروسية في أوكرانيا، أصبح من الصعب على موسكو الوفاء بالالتزامات تجاه حليفها السوري، مما يزيد من تعقيد الوضع العسكري في سوريا ويجعل حكومة دمشق تواجه تحديات إضافية في الحفاظ على استقرارها العسكري والسياسي.
في ظل التراجع المستمر في الدعم الإيراني والروسي، تواجه حكومة دمشق تحديات كبيرة تضاف إلى الأزمات العسكرية والاقتصادية التي تعصف بالبلاد. فوز دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة الأمريكية لعام 2024 يزيد من تعقيد هذه التحديات، حيث يُعرف الرئيس الأمريكي الجديد بتوجهاته المتشددة تجاه إيران وحكومة دمشق. من المتوقع أن يسعى ترامب إلى تكثيف الضغوط على طهران، وهو ما يفتح المجال لفرض مزيداً من العقوبات الاقتصادية والعسكرية ضدها في وقتٍ تشهد فيه إيران تراجعًا ملحوظًا في قدرتها على دعم سوريا.
تجسد هذه الضغوط الأمريكية خطرًا إضافيًا على حكومة دمشق، التي تعتمد بشكلٍ كبير على الدعم الإيراني، سواء على المستوى العسكري أو الاقتصادي.
إن هذا التحول في السياسات الإقليمية والدولية يجعل من الصعب على حكومة دمشق الحفاظ على استقرارها العسكري والسياسي دون دعم مستمر من حلفائها التقليديين. ومع تقلص القدرة الإيرانية والروسية على التدخّل بشكلٍ فعال، تصبح الخيارات أمام حكومة دمشق محدودة. لذلك؛ ستحتاج دمشق إلى تكثيف جهودها لإيجاد حلفاء جدد، في ظل الظروف الراهنة التي تشهد تصعيدًا متزايدًا على مختلف الجبهات، سواء كانت إقليمية أو دولية.
نقطة تحوّل مصيريّة
تتجاوز التطورات الأخيرة في حلب حدود التغيرات الميدانية لِتُسهم في إعادة تشكيل معالم المشهد السياسي والعسكري في سوريا بشكلٍ غير مسبوق. عودة مرتزقة هيئة تحرير الشام إلى الواجهة بهذه الطريقة المكثفة تفتح الباب أمام تدخّلات إقليمية ودولية جديدة، تهدف إما إلى احتواء التصعيد أو استغلاله لتحقيق أجندات خاصة قد تُعقد الموقف أكثر.
أما حكومة دمشق، فقد أصبحت أمام تحدٍ مزدوج لا يُحتمل: فمن ناحية، عليها إعادة ترتيب أوراقها على المستويين الميداني والسياسي داخليًا، ومن ناحية أخرى، الاستعداد لمفاوضات قد تفرض عليها تنازلات قد تكون قاسية.
في وقتٍ تفتقر فيه الساحة السوريّة إلى توافق دولي حقيقي، أصبحت حلب اليوم نقطة محورية وحاسمة في صراع طال أمده لأكثر من عقد. بينما تسعى القوى الإقليمية والدولية لخدمة مصالحها الضيّقة، يظل الشعب السوري هو الخاسر الأكبر، مما يعزز من الإلحاح في إيجاد حل سياسي شامل يُنهي هذه المعاناة الممتدة ويُعيد الأمن والاستقرار إلى أرضه.