دجوار أحمد آغا
عبر تاريخ البشرية الطويل والممتد آلاف السنين، حدثت الكثير من الظواهر الطبيعية التي أدّت في نهاية المطاف، إلى العالم الحالي الذي نعيش فيه من حيث الجغرافية الطبيعية، أي قارات العالم والمحيطات والبحار، كذلك الأمر بالنسبة للجغرافية البشرية، جرت الكثير من الوقائع التاريخية التي كان لها تأثير على البشرية جمعاء.
تاريخ البشرية مليء بالكثير من الأحداث والوقائع الكبرى التي جرت في العالم وخلّدها التاريخ. أبرز هذه الوقائع والأحداث جرت بين البشر أنفسهم بعد تشكّل الدولة لدى سومر في ميزبوتاميا السفلى ومن ثم نشوء الأمم وظهور الدولة القومية، بدأت الصراعات الكبرى على السلطة والسيطرة، في الحدوث. أصبحت هناك قوى عالمية تتصارع من أجل إحكام قبضتها على العالم وإدارته وفق مصالحها وفائدتها فقط لا غير.
أبرز الأحداث العالمية
على مرِّ التاريخ، كانت هناك حروب ونزاعات بين الشعوب من جهة، والقوى المهيمنة (السادة، الإقطاع، البرجوازية، الرأسمالية، الإمبريالية) من جهة أخرى. هذه القوى سعت دوماً إلى استغلال الإنسان مقابل قوته اليومي، لا أكثر ولا أقل. لم يكتفِ الإنسان بالكوارث الطبيعية (البراكين، الزلازل، الفيضانات) والأوبئة والأمراض (الطاعون، الملاريا، الكوليرا، الكورونا) التي حصدت أرواح الملايين من البشر، بل سعى إلى بسط سيطرته ونفوذه على أخيه الإنسان مما أدى إلى نشوب حروب كبيرة راح ضحيتها عشرات الملايين من البشر، لعل أبرزها: الحرب العالمية الأولى 1914 ـ 1918، والحرب العالمية الثانية 1939 ـ 1945، بالإضافة إلى الحرب الأمريكية ضد فيتنام 1955 ـ 1975، والحرب الأمريكية ضد كوريا 1950 ـ 1953.
واقع الشرق الأوسط
للشرق الأوسط موقع جيوستراتيجي هام للغاية كونه يحتل موقع القلب بالنسبة لقارات العالم القديم (آسيا، أوروبا، إفريقيا). وقد سكنت فيه شعوب وأقوام أصيلة منذ زمن بعيد مثل (الكرد، العرب، الفرس، الأرمن، السريان، الآشور وغيرهم) وقاموا ببناء حضارات عريقة من خلال ممالك وإمبراطوريات عظيمة تركت الكثير من الآثار التي تدل على مدى تقدم ورُقي هذه الشعوب. كما شهد الشرق الأوسط، ولادة الأديان السماوية التوحيدية (الإبراهيمية، اليهودية، المسيحية، والإسلام)، أضف إلى ذلك، أن الشرق الأوسط غني جداً بثرواته الباطنية (النفط، الغاز الطبيعي، الفحم الحجري) وثرواته الطبيعية (المياه العذبة، سهول حقول القمح والقطن)، لذا؛ فقد توجّهت قوى الهيمنة العالمية للسيطرة على هذه المنطقة دوماً.
الواقع الكردي الأليم
الكُرد من الشعوب الأصيلة في المنطقة وقد سكنوا سلسلة جبال زاغروس وطوروس منذ آلاف السنين فهي موطنهم كردستان التي تقع في قلب الشرق الأوسط، ولأن كردستان غنية بالثروات الباطنية وخاصةً البترول، والثروات الطبيعية وخاصةً المياه العذبة وسهول القمح والشعير، بالإضافة إلى موقعها الاستراتيجي الواقع على طريق الحرير الذي يربط أسواق الهند والصين بأوروبا، فقد تعرّض الكُرد وموطنهم كردستان إلى الكثير من الاحتلالات والغزوات عبر تاريخهم الطويل.
منذ انهيار وسقوط المملكة الميدية سنة550 ق م والكُرد يتعرضون للانكسار تلو الانكسار، غزوات مستمرة من جانب المحتلين الغزاة، وفي نهاية المطاف، بعد أن تم تقسيم كردستان بين العثمانيين الأتراك والصفويين الإيرانيين سنة 1514، قام العديد من زعماء الإمارات الكردية ورجال الدين الوطنين الشرفاء، بالانتفاض والثورة ضد المحتل مثل (مير محمد راوندور، مير بدرخان بك، شيخ عبيد الله النهري، شيخ سعيد بيران، سيد رضا، وغيرهم)، لكنها جميعها باءت بالفشل.
ظهور القائد المُفكّر
السبب الرئيسي والأساسي وراء فشل الثورات والانتفاضات الكردية ضد المحتل، كان يعود إلى المؤامرات والدسائس التي كان يُحيكها أعداء الكرد وبيد بعض الكرد الخونة، مما يؤدي إلى إلقاء القبض على قائد الثورة وإعدامه الأمر الذي يؤدي إلى انهيار الثوار وبالتالي القضاء عليها.
لكن الأمر اختلف مع ظهور “القائد المفكر” للمرة الأولى في تاريخ الكرد المعاصر. القائد الذي يدرس التاريخ ويستخلص منه الدروس والعبر ويقدم طريق الحل للشعب الكردي وشعوب المنطقة كافة من أجل التخلص من استبداد الدولة وأدواتها القمعية والقدرة على العيش وفق نموذج الإدارة الذاتية بعيداً عن سلطة الدولة.
ظهور هذا القائد تم في حقبة السبعينيات من القرن الماضي، وهنا نقصد القائد والمفكر “عبد الله أوجلان”. كان أمراً لافتاً للنظر بشكلٍ كبير، خاصةً بالنسبة للشباب الكرد المتعطش لرؤية قائد ومفكر في الوقت نفسه، يستطيع أن يضع طريق الحل بالنسبة للقضية الكردية التي تعرضت إلى الكثير من النكسات والضربات المؤلمة والموجعة، فبعد كل ثورة أو انتفاضة كان يقوم بها الكرد ضد المحتلين الغزاة، كانت تحدث مجازر ومذابح بحقهم، فمن مذابح كوجكيري، إلى آل قمش، ومن نوالا قصابا إلى روبوسكي، مروراً بحلبجة، قلعة دزة، كرميان، وصولاً إلى كوباني، وعفرين.
انبعاث الروح الكرديّة من الرماد
لم يكن قد بقي شيء اسمه كردي ولا كردستان، فبعد انهيار ثورة 11 أيلول 1961 في باشور كردستان ولجوء قائدها مصطفى البارزاني الى الولايات المتحدة الأمريكية، انتهى عصر الثورات والانتفاضات الكردية الكبرى، ولم يعد بإمكان الكرد القيام بأي نشاط ثوري ضد المحتلين سوى بعض المناوشات البسيطة. لكن؛ بعد نضوج الفكر الثوري في عقول وقلوب شباب وشابات كردستان من خلال اللقاءات المتواصلة بينهم وبين القائد والمفكر أوجلان، حيث كان يقوم بإعطائهم المحاضرات الفكرية والسياسية والثقافية لمعرفة كيفية النضال، قرر القائد وكرد على عملية اغتيال الكادر المتقدم والمناضل الكبير حقي قرار في 18 أيار 1977 بأنه قد حان الوقت للقيام بتأسيس حزب يقوم بتنظيم الشعب وتوحيد جهوده من أجل الوصول إلى الحقوق المشروعة للشعب الكردي، فكانت انطلاقة حزب العمال الكردستاني التاريخية.
الانطلاقة التاريخية وتأسيس الحزب
27 تشرين الثاني 1978 يوم تاريخي في حياة شعبنا الكردي بالدرجة الأولى، وبقية شعوب الشرق الأوسط والعالم، ففي هذا اليوم، اجتمع 22 شاباً وشابة من مختلف أرجاء باكور كردستان وبينهم رفاق من غير الكرد في قرية “فيس” التابعة لمدينة آمد في باكور كردستان، من أجل الانتقام لاستشهاد رفيقهم حقي قرار وذلك بالإعلان عن تأسيس حزب العمال الكردستاني PKK، هذا الحزب الذي أصبح قائد ثورة الشعب الكردي في العصر الحديث.
مع تأسيس الحزب، تغيّرت الأمور بشكلٍ جذري، خاصةً مع انتشار الكوادر الطليعية للحزب في كافة أرجاء كردستان، هذه الكوادر التي كانت بمعظمها من النخبة المثقّفة، طلبة الجامعات. حتى أنهم عُرفوا بين الشعب في البداية بـ “الطلبة”. هذا الأمر الذي لاقى ترحيباً شعبياً وجماهيرياً كبيراً في ظل الانكسار الذي كان يعيشه بعد فشل وانهيار الثورات والانتفاضات. أصبح الشعب يطلق على أعضاء الحزب اسم (آبوجي) نسبةً إلى القائد عبد الله أوجلان الذي أطلق عليه رفاقه لقب “آبو”؛ أي العم.
القفزات المُتتالة في تاريخ الحزب
حزب ثوري من طراز رفيع، مختلف كلياً عن الأحزاب الكلاسيكية المعروفة وحتى الثورية آنذاك، منذ الانطلاقة الأولى له، نشر كوادره بين صفوف الشعب، وبدأوا بنشر الفكر الثوري وبأن “كردستان مستعمرة” ويجب تحريرها. انتشرت أفكار الحزب الثورية بسرعة النار في الهشيم، تلقفها الشعب بقوة وسرعة عجيبة، الأمر الذي أرعب قوى الهيمنة العالمية والتي أوعزت للفاشية التركية بالقيام بضربة استباقية فكان انقلاب 12 أيلول 1980 الدموي. عشرات ومئات الآلاف من كوادر وأنصار الحزب وحتى مجرد من قال بأنه كردي، تم الزجّ بهم في السجون والمعتقلات التي لم تعُد تتسع لهم، فقاموا بجعل المدارس مراكز اعتقال وتعذيب.
هذا التعذيب الوحشي واللاإنساني، أدى إلى قفزة 14 تموز 1982 ألا وهي مقاومة السجون بقيادة (مظلوم دوغان، كمال بير، محمد خيري دورموش، عاكف يلماز، وعلي جيجك). انتصر الحزب في هذه المواجهة بفضل الإرادة الحرة وتضحيات هؤلاء القادة بأرواحهم. لكن؛ مقاومة السجون أصبحت الأساس لقفزة 15 آب 1984 التي انطلقت إلى ذُرى وقمم جبال كردستان الشامخة وبدأت حرب الكريلا في مواجهة العدو المحتل، ومن ثم كانت قفزة 1 جزيران 2004 التي أكّدت الإصرار على السير في طريق المقاومة حتى تحقيق النصر بعد المؤامرة بحق القائد عبد الله أوجلان واختطافه.
المؤامرة الكونية واختطاف القائد
قوى الهيمنة العالمية، لم يعجبها الفكر الثوري الذي أطلقه القائد أوجلان، ولا مسيرة الحرية التي انتهجها حزب العمال الكردستاني منذ بداية انطلاقته وحتى تاريخه. لذا؛ قامت بنسج وحبك خيوط مؤامرة كونية شاركت فيها قوى هيمنة عالمية مثل الماسونية والصهيونية بالإضافة الى أجهزة الاستخبارات العالمية مثل: الموساد الإسرائيلي، الـ CIA الأمريكية، الاستخبارات التركية، الاستخبارات الروسيّة، الاستخبارات اليونانية، الاستخبارات المصرية، وغيرها من أجل اختطاف القائد أوجلان.
بدأت أولى خيوط المؤامرة بالضغط على سوريا من أجل إخراج القائد من ساحة الشرق الأوسط (ساحة المقاومة). وفي العاشر من تشرين الأول 1998 خرج القائد من سوريا إلى اليونان التي كانت منغمسة في قذارة المؤامرة من رأسها حتى أخمص قدميها، ومن هناك توجه القائد إلى روسيا ثم بقي فترة حوالي الشهرين في روما العاصمة الإيطالية التي كانت وقتها تحت حكم رئيس الوزراء الاشتراكي “ماسيمو داليما”. تعرّض لضغوط كبيرة جداً لم يكن يستطيع مواجهتها؛ الأمر الذي دفع به للطلب من القائد مغادرة روما. وانكشفت خيوط المؤامرة الكونية لتنتهي مرحلتها الأولى في العاصمة الكينية “نيروبي” وتم اختطاف القائد من منزل السفير اليوناني، ليتم تسليمه للمخابرات التركية في 15 شباط 1999.
الفكر الثوري مُستمر في الانتشار
رغم مرور أكثر من ربع قرن على هذه المؤامرة الكونية، إلا أنها لم -ولن- تستطِع أن توقف مدّ وانتشار الفكر الثوري، لا في كردستان، ولا في الشرق الأوسط، بل على العكس من ذلك، توزّع في جميع أنحاء العالم من خلال التعرّف على فكر وفلسفة المقاومة التي أطلقها القائد أوجلان، هذه الفلسفة والفكر الثوري التي جاءت نتيجة طبيعة للقراءة الصحيحة للمعطيات الحالية بالإضافة إلى تاريخ البشرية الممتد عبر آلاف السنين من مختلف الجوانب الاجتماعية والسياسية والفلسفية والعلمية.
فلسفة المقاومة التي أهداها القائد أوجلان للكرد ولجميع شعوب العالم، لم تكن أحادية الجانب، بل شملت كما جاءت في المرافعات (مانيفستو الحضارة الديمقراطية) الذي يتألف من خمس كتب هي: (المدنية ـ المدنية الرأسمالية ـ سوسيولوجيا الحرية ـ أزمة المدنية وحل الحضارة الديمقراطية في الشرق الأوسط ـ القضية الكردية وحل الأمة الديمقراطية). هذه الكتب شملت ليس فقط أسلوب الكفاح والنضال، بل أيضاً سبيل وطريق الحل لكافة القضايا التي تهم الشعوب والمجتمعات. الحل إذاً موجود ويكمن في مفهوم الأمة الديمقراطية الذي يستند إلى العيش المشترك وأخوّة الشعوب والإدارة الذاتية الديمقراطية بعيداً عن سلطة وسيطرة الدولة القومية وأجهزتها القمعية.
وفي الختام
نرى بأن يوم الـ 27 من تشرين الثاني ليس يوماً عادياً كبقية أيام السنة بالنسبة لشعبنا الكردي وبقية شعوب الشرق الأوسط والعالم، فهذا اليوم غيّر وجه ووجهة التاريخ. تاريخ الشعوب الذي كان مدفوناً في الأعماق السحيقة، إلى أن جاء القائد عبد الله أوجلان وحركة حرية كردستان وقام بنفض الغبار عنه وإعادة إحيائه من جديد.
السابع والعشرين من تشرين الثاني، يوم انبعاث الحياة مجدّداً في روح الشعب الكردي التي أطفئها الطُغاة والمحتلين من خلال كسر إرادة هذا الشعب لدرجة وصل به الأمر إلى إنكار ذاته والتهرب منها.
27 تشرين الثاني جعل من الشعب الكردي طليعة قيادة مرحلة تحرر شعوب المنطقة والعالم من ظلم واستبداد الأنظمة القمعية والاستبدادية حول العالم.
27 تشرين الثاني ميلاد جديد للمرأة الحرة التي فجّر فيها القائد، تلك الطاقات الهائلة الكامنة في ذاتها. بعد أن كانت عبدة ذليلة خانعة وخاضعة لسيطرة الذهنية الذكورية، جعل منها امرأة حرة صاحبة إرادة فولاذية وقوة تُمكّنها ليس فقط من الدفاع عن نفسها، بل حتى عن مجتمعها وشعبها وتقوم بالدور الطليعي إلى جانب الرجل الحر من أجل بناء مجتمع حر ديمقراطي بيئي يتّخذ من حريتها أساساً له.