روناهي/ حمزة حرب ـ على مدار ستة وأربعين عاماً قدم حزب العمال الكردستاني تضحيات جمة، لتخليص المجتمعات من براثن الرأسمالية التي فرضت نفسها في الشرق الأوسط والعالم أجمع، وذلك من خلال فلسفة الأمة الديمقراطية والعيش المشترك وتحرر المرأة.
من منظور الفكر الحر هو أن أساس التحرر حياة الفرد المواطن الحر في الأمة الديمقراطية، فحسب القائد عبد الله أوجلان إن عضوية الفرد في الدولة القومية هي التي تحدد مستوى العبودية العصرية للرأسمالية أي أن الفردية الرأسمالية تعنى الخنوع والعبودية المطلقة، في حين تُعبر مواطنة الأمة الديمقراطية عن حالة الفرد الحر، ولذلك يجب على الفرد أن يتجاوز فردانيته التي طعمتها الرأسمالية بالفردية ومن هنا كبر الهدف وزادت التضحيات للوصول إلى الحياة الحرة الكريمة التي باتت شعوب الشرق الأوسط تطمح لبنائها في عموم المنطقة، وتكون على تلك الأسس التي وضعها وتحدث عنها القائد الكردي والأممي عبد الله أوجلان.
الولادة والانطلاقة
تركيا دولة قومية عنصرية أبادت القومية الأرمنية بشكل نهائي ولديها ذعرٌ كبير من القومية الكردية في الحاضر لأن السلطات فيها لم تؤمن الا بالدولة التي لها لغة واحدة وعرق واحد، ولون واحد وقومية واحدة وهي التركية، واللغات الأخرى ليست مهملة؛ إنما معدومة، فحتى منتصف التسعينات كان ممنوعاً على الكردي فيها التحدث في الشارع، حيث تمت مصادرة اللغة الكردية من الحياة اليومية واليوم ما زالت الطورانية التركية تُصادرها بشكل جزئي، وفرضت الرقابة على المتحدثين في الأسواق والمدارس والمقاهي، وجردتهم من وظائفهم، وضيّقت عليهم أسباب العيش، وكان لهذه السياسات أثر تحطيمي مديد في المجتمع، وفصل ثقافي بين ثلاثية الطبيعة البشرية الأرض، والسكان، والذاكرة.
بهذا المظهر القومي الأحادي، العنصري، الدولة التركية هي دولة قومية تستند إلى الأصل العرقي المتخيل الخرافي، واتبعت أسلوبين للتخلص من التعددية، الأول الإبادة المباشرة الجسدية، كما الأسلوب الأرمني، ولاحقاً مجموعات كاملة من الكرد، في مناطق ما زالت تعيش فراغاً سكانياً نسبياً إلى اليوم.
والثاني عبر الإبادة الثقافية مستخدمة لتحقيق هذا الهدف كل قوة الدولة وعنفها وقوانينها المصاغة لاستدامة عدم المساواة والتمييز السلبي النموذج التركي هنا هو خير دليلي على فوضوية العنصرية، التي عملت منذ الأزل على صهر الكرد في بوتقة الدولة القومية، وظل التحدي الكبير الذي يواجهه الكرد هو كيفية صد تلك المحاولات، والحفاظ على هوية ذلك الشعب وبين محاولات الصهر وردود الصد دارت رحى العذابات التي تتابعت على الكرد طوال المائة عام الماضية، والتي راح ضحيتها مئات الألوف من أبناء ذلك الشعب، فإن محاولة الدولة القومية السيطرة على القوميات الأخرى وإنكار وجودها هو أحد أسباب الصراعات الدولية القائمة اليوم، وإحدى ترسبات الفكر القومي الغربي الذي تم تصديره للمنطقة بعد انهيار العثمانية وتقسيم الشرق الأوسط الى دول ودويلات وحرمان الكرد حقهم في إقامة دولتهم المستقلة.
إن سعي الدولة القومية والرأسمالية لزيادة أرباحها عبر السيطرة على مكامن السلطة والاقتصاد هو أيضاً أحد أسباب الصراع الدولي المستمر في المنطقة؛ فمحاولة الدول الرأسمالية لتسويق أسلحتها سبب آخر من أسباب الصراع الدولي في الشرق الأوسط والحفاظ على مسببات استمرار الحروب في المنطقة.
تصدير الأزمات الداخلية لاسيما الاقتصادية منها، وتأزم الحالة الاقتصادية الرأسمالية تدفعها إلى خلق الصراعات الدولية وذلك من خلال محاولة فرض منهج ثقافي واحد، وتعليب المجتمع الدولي عبر العولمة الثقافية أيضاً جانب من جوانب الصراعِ الدولي القائم اليوم والذي يدفع ثمنه شعوب المنطقة التي سلبت حقوقهم وسلب إرثهم ومحاولات دفن الحضارة القائمة على الأرض.
حركات التحرر وتخطي عقبات الدولة القومية
اتسمت حركات التحرر الثورية للشعوب التي قهرتها المنظومة الدولية الحاكمة سواء في الربع الأخير من القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين الذي انتهي انهيار الدولة العثمانية بالسعي نحو الاستقلال وتأسيس دول قومية مستوردة الأفكار والمبادئ، إلا أن المنظومة الدولية قد وضعت عراقيل شتى أمام قيام أي أمة تُهدد مؤامرة سايكس بيكو.
الشعب الكردي جاء في مقدمة ضحايا هذه التقسيمة للغنيمة ومع تصدر القائد عبد الله أوجلان المشهد الكردي بأفكاره الإصلاحية الرامية للحفاظ على حقوق الشعب الكردي والاعتراف بها، زادت عمليات استهداف الكرد، ومع بروز الرؤى الفكرية للقائد عبد الله أوجلان من خلال رؤية فاحصة ناقدة تم استخلاص أن التجربة الدولتية القوموية هي تجربة فاشلة قائمة على أشلاء الشعوب الأخرى ولن تقدم أي جديد عما قدمته الأنظمة القمعية الشوفونية ذات اللون الواحد والعرق الواحد واللغة الواحدة فكان من الضروري وفق منظور القائد عبد الله أوجلان أن يتم التخلي عن حُلْمِ “الدولةِ القومية الكردية” التي لطالما طالب بها بعض الكرد في الشرق الأوسط والجنوح إلى طرح نموذج الأمة الديمقراطية.
فعلى مدار القرن العشرين تجذر واقع دولي وإقليمي أظهر جلياً أن وضعَ أي دولة قومية كردية سيكتب لها النجاح في حيزٍ جغرافيٍ محصورٍ بين قوى قومية تناصب الكرد العداء سواء من جانب إيران أو تركيا أو سوريا والعراق ستكون عواقبها أشد وطأة وأكثر تأثيراً ليؤكد القائد عبد الله أوجلان، أن “الدويلات القومية ذات الطابع الدنيوي والقومي ليست قدراً محتوماً علينا، وأن الدولة القومية هي الأنسب والأخطر في الوقت ذاته للدولة الإله”.
جاءت نظرة القائد عبد الله أوجلان إلى سيناريوهات حل القضية الكردية بواقعية شديدة ورؤية واضحة للموقف الدولي، أو بالأحرى فهم ألاعيب الحداثة الرأسمالية. لذا، فكل مقومات الدولة القومية ليست هي الأساس في وجود الأمم، وبالتالي يُمكن التوصل إلى أفكار تحافظ على خصوصية الأمم وهو ما ساعد في ولادة مصطلح الأمة الديمقراطية بعد مخاض شديد وصعب حاول القائد عبد الله أوجلان من خلاله العودة للجذور بعيداً عن النظريات والمذاهب السياسية التي وضعت بالأساس لخدمة أهداف المنظومة الدولية الحاكمة.
القائد عبد الله أوجلان يؤكد على أن تنظيم الحداثة الرأسمالية لنفسها كدولة قومية، يؤدي دوراً قمعياً واستغلالياً أكبر من تنظيمها لذاتها كاحتكارٍ اقتصادي من هنا، فالنقصان الفادح والتحريف الأولي للماركسية خصوصاً وللسيسيولوجيا عموماً، يتجسدان في القصور عن رؤية أواصر الدولة القومية مع القمعِ والاستغلال، أو في تقديمِ الدولة القومية كمؤسسة اعتيادية جداً في البنية الفوقية.
وهذا ما جعل القائد عبد الله أوجلان يرتكز في تعريفه لمصطلح الأمةَ على أنها ظاهرة أو مجموع علاقات ملتفة حول الوعي القبلي والوعي الديني، ممتزجتين مع كل من السلطة السياسية المشتركة والسوق فالأمة هي مفهوم افتراضي نشأ بتدرجٍ مع تكون عالم ذهنيٍ وثقافي مشترك بين الطبقات والأجناس والألوان والأثنيات المختلفة.
المساواة وتحقيق العدالة
ومع ولادة نموذجُ الأمةِ الديمقراطيةِ الذي أكد القائد عبد الله أوجلان من خلاله انه نموذجاً حَلاّلاً، يُنعِشُ ثانيةً دمقرطةَ العلاقات الاجتماعية التي مزقتها النزعة الدولتية القوميةُ إرباً إرباً، ويُفعِمُ الهويات المتباينةَ بروحِ الوفاق والسلامِ والسماحة لذا، فانعطافُ أمة الدولة صوب الأمة الديمقراطية، سيجلبُ معه مكاسب عظمى فنموذج الأمة الديمقراطية يتسلح بوعيٍ مجتمعي سديد للقيامِ أولاً بتطويعِ الإدراكات المجتمعية المشحونة بالعنف، ثم لتصييرها إنسانية “الإنسان العاقل والمفعم بالمشاعر، الذي يشعر بالآخرِ ويتقمصُه”.
فالحياة الاجتماعية ضمن مفهوم الأمة الديمقراطية تأتي لتُعيد للإنسان ذاته سواء كان رجل أو إمرة، حيث أن سلطة الدولة القومية، قد عززت التمايز الطبقي، مما أصاب الحياة الاجتماعية بمرض السرطان الاجتماعي، ومن ثم تحولت الحياة الاجتماعية لفخ يُحيط بالمرأة، التي تأثرت بشدة من ممارسات الحداثة الرأسمالية تجاهها، حيث تُعد المرأة في هذا النظام ملكة السلع، ولم يقتصر الأمر عليها كــ “ربة منزل” فحسب، بل أكثر من هذا، هي أرخص عاملة – من حيث الأجور-وأداة رئيسة تضخ الأجيال للنظام القائم. وهي درة تاج صناعة الدعاية، ووسيلة تطبيق السلطة الجنسوية.
إن في الأساس حياة الإنسان ذات طابع اجتماعي، والمجتمع موجود قبل ظهور الدولة والرأسمالية، وبالمجتمع غدا الإنسان إنساناً، لذا فالتراجع عن المجتمع يُعنى التجرد من كينونة المجتمع والتخلي عن الإنسانية وعن كينونة الإنسان لذلك فإن مشروع الأمة الديمقراطية يُصر على البقاء على المجتمع أولاً، وتتصدي للحداثة الرأسمالية بشعار “المجتمع أو لا شيء”.
تُعد قضية المرأة هي منبع كافة القضايا، وأن حل قضية المرأة هو الأساس الركن لفك عقدة جميع القضايا الاجتماعية الشائكة العالقة. وأن أية أيديولوجية تتمحور حول حرية المرأة، وتتناولها بنحو استراتيجيّ، وتبني عليها أفكارها وهيكليتها الثورية أو المجتمعية، وتجعل منها فلسفة الحياة الحرة والكريمة؛ هي الأيديولوجيا الصحيحة والسليمة المخوَّلة لدحض دعائم مجتمع المدنية.
فالحياة الندية ترفض مفهوم التملك، وتُقيم الحرية الاجتماعية بين الجنسين، على أساس العدالة والمساواة وهذا يخلق إرادة حرة ومتكافئة بينهما وهكذا تتحقق الحياة الندية الحرة التي تليق بالإنسان.
ولعل ما ذكره القائد عبد الله أوجلان فيما يخص تعزيز الحياة الندية هو أفضل السبل لتحقيق التشاركية المجتمعية في ظل مشروع الأمة الديمقراطية “يتميزُ تحررُ المرأةِ بعظيمِ الأهمية خلال التحول إلى أمة ديمقراطية فالمرأة المتحررة تعني مجتمعاً متحرراً. والمجتمع المتحرر هو أمة ديمقراطية”.
فالمرأة هي الخلاقة والمبتكرة والمبدعة الأولى التي ظهرت في تاريخ الإنسانية، إلا أنه بعد مرور فترة وظهور النظام الذكوري السلطوي الذي يتم تنظيمه وتطويره بلون وثقافة الذهنية الذكورية، تم صبغ المجتمع بأكمله بلون هذه الذهنية من الهيمنة والسيطرة والسطوة والالغاء للأخر.
الشرق الأوسط الممزق وسبيل الحل الوحيد
علينا أن ندرك أن الحلول لمشاكل الشرق الأوسط، لا يمكن أن تكون حلولاً إلا عبر الحلول الجذرية والطويلة الأمد، وذلك عبر تعزيز وتحقيق حقوق الإنسان والديمقراطية والتنمية الاقتصادية داخل المجتمعات المتعايشة لتحقيق لأمة الديمقراطية “الاتحاد مع الاختلاف”، والتي تدعو إلى الاتحاد بين تلك الشعوب مع محافظة كل أمة على خصوصياتها الثقافية، وكذلك بناء حياة مشتركة لجميع الشعوب والثقافات والمعتقدات.
وبعد كل تلك السنوات من الرسم الاستعماري لخرائط المنطقة من خلال اتفاقية سايكس – بيكو ومساهمتها في نشوء الدول القومية المتصارعة بغية إبقاء بؤر توتر قابلة للانفجار في أية لحظة، وكذلك عبر سياسة “الفوضى الخلاقة” والتي هي باختصار استكمال لاتفاقية سايكس – بيكو، وذلك لضرب الكل بالكل، ذلك لأن الإنسان والمجتمعات تميل بطبعها إلى الاستقرار والتكامل مع غيرها في حين أن الطارئ المفروض استعمارياً عليها كان التباعد والتفكك، المنافي لخط السير الموضوعي باتجاه الاندماج والتكامل والتوحد.
فشعوب هذه المنطقة بدت مؤمنة اليوم أكثر من أي وقت مضى بأن الحل يكمن في فلسفة الأمة الديمقراطية والعيش المشترك فمع تبني هذا المبدأ لما لاحظنا أي مسببات للحروب والدمار في المنطقة لأن شعوب الشرق الأوسط ما يجمعها هو أكثر بكثير مما يجمع سكان الولايات المتحدة أو ألمانيا أو فرنسا أو الاتحاد الأوروبي الذي يعتبر مزيج من اللغات والأثنيات والأعراق لكن الويلات التي مروا فيها خلال الحربين العالميتين وصلوا إلى نتيجة مفادها أن الاختلاف لا يعني الخلاف.
لذا لا بد من الوحدة مع الاختلاف وبالاعتراف بالآخر حيث ثمة نضال أو يجب أن يكون هناك نضال للسعي إلى اتحاد الأمم الديمقراطية وتشكيل فضاء سياسي واقتصادي متكامل نظراً لتمتع هذه البقعة من الكرة الأرضية بموارد بشرية وطبيعية كافية لتكامله واكتفائه الذاتي واستقلاله عن المراكز الاقتصادية العالمية.
ويقول القائد عبد الله أوجلان: “إن كل شيء ينمو على جذوره”، لذا يتضح أن مشروع الأمة الديمقراطية هو الحل بالنسبة لشعوب المنطقة التاريخية، بل أكثر من هذا، كل القضايا العالقة أو المشابهة في أنحاء العالم، حيث ارتكز الحل حول ذهنية الأمة الديمقراطية.
وعندما طرح المفكر والفيلسوف عبد الله أوجلان نموذج الأمة الديمقراطية كان لأجل حل جميع القضايا والمشاكل في كافة أنحاء العالم، وليس لمجتمع واحد بحد ذاته، ومن خلال ذهنية الأمة الديمقراطية يتم دمقرطة العلاقات الاجتماعية، وضم الهويات المتباينة بروح الوفاق والسلام والسماحة.
كما تُسلح المجتمع بوعي شديد، وإعادة المنطقة إلى عهدها حيث التعايش السلمي والبناء الحضاري إذا؛ فإن مشروع الأمة الديمقراطية هو حجر الأساس في إقرار التعايش السلمي بين شعوب الشرق الأوسط، بل يتعدى تأثيره إلى كل المجتمعات التي تُعاني من ظلم وقهر نموذج الدولة القومية.
وبما أنه يستوجب رد الشيء لأصله؛ فإن الحلول الكامنة في نفوس شعوب المنطقة وهو “التحول الديمقراطي” والانتقال الى “الأمة الديمقراطية” المنشودة لنفض غبار “الفكر القوموي” المتعصب والعيش بحرية وكرامة ونبذ الخلاف الناجم عن ترسبات الرأسمالية العالمية وهو ما حملته حركة التحرر الكردستانية والمفكر عبد الله أوجلان كشعلة في عتمات الشرق الأوسط والتي ستهتدي بها شعوب المنطقة للخلاص يوماً ما وبدت تلك البوادر تطفو على السطح.