حمزة حرب
قد يقود عودة الدول العربية لتفعيل دورها في سوريا إلى إبطال مفعول قرارات الجامعة العربية عام 2011، مما سيرتب تداعيات على طرفي الأزمة، إذا لم تستطع هذه العودة دفع دمشق نحو تسوية سياسية مع السوريين وهذه السياسة العربية التي فشلت في تحقيق نتائج جذرية تنهي المعاناة السورية سابقاً لن تتمكن من حلها اليوم، فيما المتوقع بأن تزيد هذه السياسة المتبعة المشهد تعقيدًا بدل حله.
لن تؤدي السياسات العربية تجاه حكومة دمشق إلى تغيير حالة الجمود في سوريا سياسيًّا أو عسكريًّا على المدى القريب، ومن غير الواضح إن كانت هناك فرصة لتحول الجهود العربية إلى سياسة احتواء للحكومة كما عبرت عنها معظم الأوساط السياسية والدبلوماسية بأن الدول العربية تريد سحب البساط من تحت أقدام الأطراف الإقليمية بالتنسيق مع الولايات المتحدة بما يقود إلى تعديل سلوك حكومة دمشق لكن ذلك سيترك المجال مفتوحًا أمام الفاعلين في هذا المسار لإدارة الخلافات والتناقضات دون الوصول إلى تسوية تصب في صالح الشعب السوري في نهاية المطاف.
مواقفٌ متذبذبة أنتجت واقعاً مريراً
شهد عاما 2011 و2012 مقاطعة عربية شبه شاملة لحكومة دمشق، تمثّلت بسحب السفراء من دمشق أو حتى إغلاق السفارات فيها، وتعليق عضوية دمشق في جامعة الدول العربية، وفي كل اللجان المنبثقة عنها وانخرطت عدّة دول عربية، وخاصة من مجلس التعاون الخليجي في غرف العمليات المشتركة الخاصة بدعم المجموعات المسلحة حينها ضد قوات حكومة دمشق، حيث اشترك فيها مندوبون من السعودية وقطر والإمارات، إلى جانب دولة الاحتلال التركي والولايات المتحدة ودول أوروبية كما شاركت معظم الدول العربية فيما سمي حينها “مؤتمر أصدقاء سوريا” الأول في تونس والثاني في المغرب.
أربع دول حينها خرجت عن شبه الإجماع العربي وهي العراق ولبنان والجزائر وعمان والتي حافظت على علاقات طبيعية أو شبه طبيعية مع حكومة دمشق، ورفضت أو تحفّظت على كل القرارات التي سعت لإدانتها في انتهاكات لحقوق الإنسان أو قرارات عزلها سياسياً واقتصادياً وعسكرياً.
واختارت بقية الدول العربية مواقف متذبذبة ما بين دعم التوجه العربي العام في المقاطعة وما بين النأي بالنفس، بينما بدأت كلٌ من مصر وتونس بعد عام 2014 بإطلاق تصريحات تدعو لتطبيع العلاقات مع دمشق، لكن هذه التصريحات لم تترافق بخطوات فعلية، ما عدا إعادة فتح القنصلية التونسية في دمشق عام 2015، والتي شكّلت خطوة في اتجاه المناكفة السياسية الداخلية مع الحكومة السابقة أكثر مما هو توجه دبلوماسي إقليمي.
وتنبغي الإشارة هنا إلى أن كل الدول العربية، ومعها بقية دول العالم، حافظت على العلاقات الأمنية مع أجهزة حكومة دمشق بما فيها دولة الاحتلال التركي طوال فترة الأزمة وحتى اليوم، وتم البناء على هذه العلاقات ليتم اعتبارها أولى مؤشرات التقارب في حال دخول الأنظمة السياسية في مرحلة تطبيع العلاقات.
وانعكست الانقسامات الأيديولوجية والعقائدية للدول الداعمة للمجموعات المسلحة على فعاليتها في الميدان فاتفقت فيما بينها حيناً وتناحرت أحياناً بحسب تقارب وتنافر الدول الداعمة ولم يكن هذا الواقع المنقسم فقط على الصعيد العسكري إنما على الصعيد السياسي فتم تشكيل منصات معارضة عدة من منصة الرياض إلى منصة القاهرة وغيرها الكثير ليبقي الحال على ما هو عليه حتى سحبت معظم الدول العربية يدها من الدعم المباشر للمعارضة السياسية والمجموعات المسلحة وأغلقت غرف العمليات المشتركة “الموك والموم”.
يؤكد مراقبون أن هذا الواقع صب في صالح الاحتلال التركي والجانب القطري اللذين تحكمها إيديولوجيا مشتركة “الإخوان المسلمون ” وهو ما انعكس على واقع الحال في المعادلة السورية فبدعمٍ روسي إيراني لحكومة دمشق وعلى المقلب الآخر بأموالٍ قطرية وإدارة تركية تم عقد الصفقات والمقايضات ليتراجع دور وهدف المجموعات من أعتاب دمشق للانكفاء في المناطق المحتلة بأقصى شمال غرب سوريا وفق ما أنتجته صفقات ما سمي بـ”أستانا”.
الدول العربية والتراجع الدراماتيكي
نهاية عام 2018 بدأت هذه السياسات بالتغيير عندما أعادت الإمارات العربية المتحدة علاقاتها الدبلوماسية مع حكومة دمشق بعد انقطاع دام ست سنوات، مع العلم أن الدولتين حافظتا على قنوات التواصل الخلفية بينهما طيلة الوقت كانت هذه الخطوة إيذانًا لإعلان دول أخرى إعادة التنسيق الدبلوماسي والاقتصادي مع دمشق، مثلما فعلت الأردن، أو لكشف استمرار العلاقات كما فعلت البحرين.
وكأحجار الدومينو عادت الدول العربية أدراجها لتبادل البعثات الدبلوماسية والبرقيات الرسمية والزيارات رفيعة المستوى مع حكومة دمشق ورئيسها، وبقي مسار التطبيع بطيئًا نسبيًّا، إلى أن وقعت كارثة الزلزال في تركيا وسوريا، مطلع شباط 2023، فقد فتحت نافذة إنسانية أسهمت في تسريع وتيرة فك العزلة العربية عن حكومة دمشق وتم استغلالها على مبدأ “مصائب قومٍ عند قومٍ فوائد”، ولم يبقَ سوى عدد محدود من الدول العربية لم يستأنف العلاقات القنصلية والدبلوماسية مع دمشق، مثل قطر والكويت والمغرب واليمن.
يأتي مسار التطبيع في سياق محاولة عربية جديدة للانخراط في الأزمة السورية بعد انكفاء كبير بدأت ملامحه عقب فشل الخطة العربية عام 2012؛ فقد تراجعت الجامعة العربية تدريجيًّا عن دورها في رعاية العملية السياسية لصالح الأمم المتحدة، ثم تحول الدور العربي بعد محادثات فيينا للسلام في سوريا، أواخر عام 2015، إلى رعاية ما تسمى بالمعارضة السورية سياسيًّا قبل أن تُشاركها تركيا هذه المهمة بعد تشكيل مسار أستانا، عام 2017 وتهيمن على الكيانين السياسي والعسكري لتحول البوصلة لتحقيق مصالحها على الساحتين السورية والإقليمية بعد انكفاء الدور العربي كلياً.
عكست الجهود العربية الجديدة في سوريا تباينًا واختلافًا في دوافع وسياسات كل دولة، رغم اتفاقها جميعًا على ضرورة إعادة الاستقرار والتوصل لحل ينهي النزاع المستمر منذ عام 2011. على سبيل المثال، شكلت القضايا الأمنية ثم الاقتصادية دافعًا رئيسيًّا للأردن من أجل التطبيع مع دمشق، بعدما باتت عمان تواجه تهديدًا متزايدًا من أنشطة “الميليشيات الإيرانية” على الحدود المشتركة مع سوريا، ومن عمليات تهريب المخدرات بشكل شبَّهته بالحرب ضدها هناك أيضًا الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يمر بها الأردن حيث كان لإغلاق معبر نصيب وتوقف حركة التجارة والنقل مع سوريا خلال عقدٍ من الزمن سببًا في مفاقمتها.
استأنفت السعودية أيضًا علاقاتها الدبلوماسية مع حكومة دمشق، وتجاوزت الشروط السابقة التي كانت وضعتها لقبول التطبيع معه، مثل تطبيق القرار 2254 وتحديد موعد لرحيل بشار الأسد ومحاسبة مجرمي الحرب في الواقع، إن إعادة المملكة لصياغة سياستها الخارجية في سوريا كان نتيجة تبني سياسة أكثر واقعية في علاقاتها الإقليمية تقوم على تصفير المشاكل لاسيما مع إيران.
إن عدم وضع الرياض شروطًا على دمشق تضمن تبديد أو تقليص نشاط وخطر “الميليشيات الإيرانية” في سوريا وتدفق المخدرات من الأخيرة إلى أراضيها، لا يعكس بالضرورة عدم أهمية تلك القضايا الأمنية بالنسبة للمملكة، كون تركيزها انصب على إظهار ثقلها السياسي عربيًّا بوصفها دولة قادرة على قيادة المبادرات وحل الأزمات، إضافة إلى أنها تبحث عن استقرار إقليمي يُساعدها على النمو الاقتصادي عبر عدم إبداء أي خطوة تؤثر على نجاح الاتفاق مع إيران في نيسان 2023 برعاية بكين وموسكو أكبر منافسي واشنطن.
على المقلب الآخر كان موقف الولايات المتحدة تجاه التطبيع يبدو كأنه مناورة؛ فهي رفضت التطبيع من جهة، لكنها لم تتخذ خطوات دبلوماسية وقانونية تعيق تقدمه أو الانخراط العربي فيه من جهة أخرى. بل كان هناك تراخ من قبلها في تطبيق قانون قيصر بما أحدث في النهاية فجوة فيه.
خطوة مقابل خطوة بين التطبيق والفشل
وإطلاق المبادرة العربية لاحتواء حكومة دمشق وما تخللها من زيارات لوزراء خارجية الدول العربية إلى دمشق واجتماع عمان الوزاري الخاص بوضع خطة للحل السياسي في سوريا، وفق مسار “خطوة مقابل خطوة” لم يحقق أي تقدم ملحوظ على خارطة التطبيع العربي مع دمشق.
ويشير مراقبون سياسيون في تحليلاتهم، عن مؤشرات فشل المبادرة العربية “خطوة مقابل خطوة” وذلك بسبب عدة عوامل رئيسة على رأسها استمرار عمليات تهريب المخدرات القادمة من سوريا إلى الدول العربية، وعدم تمكن حكومة دمشق من مكافحة تلك العمليات.
أيضاً تمسُّك الدول العربية بالقرار الدولي 2254 الصادر عن مجلس الأمن ضمن المبادرة المطروحة، وامتناع حكومة دمشق عن مناقشة الانتقال السياسي في سوريا ضمن أي مبادرة أو حل سياسي يرمي لإنهاء الأزمة السورية فبالتالي تكون دمشق قد نعت فعلياً المبادرة العربية، من خلال عدم قدرتها على تنفيذ المطالب العربية المتعلقة بعودة العلاقات الدبلوماسية بشكل تام.
كما أن عودة حكومة دمشق لتوقيع عقود اقتصادية واتفاقيات جديدة طويلة الأمد مع إيران بعد ثلاثة أشهر من انطلاق المبادرة العربية، أكد فشل جميع الجهود العربية الرامية لعودة سوريا إلى الحضن العربي مجدداً في ظل تحكّم إيران بقرارات دمشق السياسية والسيادية.
كما أن تأثير الموقف العربي على الملف السوري ينحسر باستمرار في مقابل تنامي لدور كل من روسيا وإيران ودولة الاحتلال التركي، ويبقى هامش المناورة العربي الوحيد هو العمل بالتنسيق مع واشنطن والتناغم مع موقفها باعتبارها الوحيدة القادرة على إحداث الفارق، وفي هذا السياق يمكن فهم الموقف الذي جمع وزير الخارجية البحريني ونظيره السوري في نيويورك.
ضرورة لعب دور محوري في المعادلة السورية
ومع كل هذا الفشل يبقى للدول العربية دوراً هاماً يجب لعبه وذلك بسحب البساط أولاً من تحت أقدام دولة الاحتلال التركي التي تسعى لترسيخ وجودها واقتطاع أراضٍ سورية ومساهمتها في إطالة أمد الأزمة السورية بتكريسها لحالة الارتزاق الحاصلة في صفوف السوريين بعيداً عن الحالة الوطنية الجامعة التي يجب على السوريين اليوم أن يلتفوا حولها.
ولا شك أن التراجع التدريجي للدور العربي في سوريا بعد عام 2011 كان لصالح تقدم أدوار فاعلين آخرين مثل روسيا وإيران ودولة الاحتلال التركي، ومثلما كان ذلك التراجع نتيجة الظروف الدولية والإقليمية أكثر من الذاتية؛ فإن عودة الانخراط العربي في سوريا بعد عام 2018 هو أيضًا لذات الأسباب، ويهدف لاستدراك مصالح وتبديد مخاوف هذه الدول الأمنية والاقتصادية.
فالفشل السابق أتاح للمخططات الخبيثة وعلى رأسها مخططات دولة الاحتلال التركي أن تتنامى مع ضعف دور الدول العربية ودعم بعضها كقطر على سبيل المثال لإحداث تغيير ديمغرافي يمهد عملية الاقتطاع المنشودة من قبل أنقرة وفق ميثاقٍ مللي تسعى لتحقيقه وللتلاعب بالعواطف بنت مستوطناتٍ في عفرين المحتلة وباقي المناطق التي تحتلها بأسماءٍ فلسطينية كنوعٍ من اللعب على وتر العواطف العربية وأموالٍ قطرية إخوانية وهجرت السكان الأصليين من مدنهم وقراهم ودمرت البشر والحجر والشجر.
كما لإيران ولروسيا مخططاتها الخاصة أما لمجابهة واشنطن أو إسرائيل أو لتحقيق مصالح قائمة على التوسع والتمدد بحسب مراقبين فيما يضيع السوريون بوصلتهم باتجاه الحل وتقسم أرضهم وتتحول أزمتهم إلى أزمة ثقة متبادلة بين الأطياف السورية وتخرج عن نطاق البحث المشترك عن حلول جوهرية تنهي المعاناة والأزمة السورية. لم يُؤد الاختلاف أو التباين في سياسات الدول العربية بشأن العلاقة مع حكومة دمشق إلى تعطيل مسار التطبيع معه لكن هذا الدور المستجد يرى فيه مراقبون أنه مفتقدًا إلى خطة عمل ومبادرة مشتركة بسبب التفاوت في السياسات والأهداف ومن شأن ذلك أن يُضعف فرص وجود مساهمة عربية حقيقية في الحل السياسي، إلا في حال تبلور الدور العربي تباعًا وانسجامه مع دور الأمم المتحدة في سوريا.
وهذا ما دفع بمجلس سوريا الديمقراطية الذي يرعى منذ سنوات خطوات الحل السوري ـ السوري بعيداً عن الإملاءات الخارجية ويشدد على ضرورة التفاف السوريين حول بعضهم البعض بنبذ المخططات الخارجية الرامية إلى تقسيم سوريا ورفض الاحتلال والسعي وراء تحقيق تطلعات السوريين بالانتقال ببلادهم من التشتت والتشرذم إلى الوحدة والتفاهم وذلك بتشديد المجلس إلى ضرورة أن يكون هناك دور هام للدول العربية في دعم جهود حل الأزمة السورية.
محذراً من جر سوريا إلى حرب إقليمية، مطالباً بضرورة المُضي قُدماً في التواصل مع السوريين وتحريك مختلف الاتجاهات التي تخدم قضية الشعب السوري، في ظل التغييرات المهمة التي تشهدها المنطقة وأهمية أن يكون هناك دور محوري يمكن أن تلعبه الدول العربية في سبيل إيجاد حلّ سياسي شامل للأزمة السورية وفقاً للقرار “2254” لمجلس الأمن الدولي والذي يجمع عليه كل السوريين لإيجاد مخرجٍ يخلصهم من معاناتهم.