بدرخان نوري
لا يبدو أنّ المناطق التي تحتلها تركيا في سوريا تشكّل نقطة خلاف بين شركاء أستانه، رغم حجم الانتهاكات الكبير الذي تُرتكب فيها في ظل فوضى السلاح، إلا أنّ الخلاف مستعصٍ حول إدلب، التي تسيطر عليها “هيئة تحرير الشام” المصنفة على لوائح الإرهاب. فالمحافظة باتت جغرافية للمرتزقة المدعين بالجهاديين؛ متعددي الجنسيات من العائديّة الروسيّة، ومؤخراً أضحت مقصد خبراء عسكريين أوكران، لتكون إدلب ملحق الحرب في أوكرانيا، كما هي ملحق لحرب الشيشان.
إدلب ملف خلافيّ
لكن عوائق مسار التطبيع بين أنقرة ودمشق لا تنحصر بالشروط المتبادلة بين الطرفين بل تتعداها إلى اختلاف بين موسكو وأنقرة، ففي 12/9/2024، قال وزير الخارجية الروسيّ سيرغي لافروف خلال اجتماعه مع سفراء الدول الأجنبيّة في موسكو: “تفيد المعلومات التي وردتنا بوصول عناصر في الاستخبارات الأوكرانيّة إلى منطقة وقف التصعيد في محافظة إدلب السوريّة، باشروا تجنيد مرتزقة “جبهة النصرة” التي تحولت إلى “هيئة تحرير الشام” لاستخدامهم في عمليات جديدة يخططون لها”.
فقد نقلت وكالة سبوتنيك الروسية، الثلاثاء 12/11/2024، عمن وصفته بمصدر سوريّ مطلع وصول مجموعة مكونة من 250 خبيراً عسكريّاً أوكرانيا إلى إدلب لتدريب عناصر من “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقاً) على تصنيع الطائرات المسيرة. وبحسب الوكالة الروسية توزع الخبراء على ورش صناعية وعدة مواقع في مدينة إدلب وعلى أرياف جسر الشغور، لتصنيع طائرات من دون طيار. وتزامناً وصلت دفعات من عشرات الطائرات المسيّرة إلى إدلب على أنها قطع تبديل وضمن بضائع مدنية تجارية”، بحسب سبوتنيك. وبالمطلق؛ فإنّ وصول هؤلاء كان عبر الحدود مع تركيا. وهذا محل الخلاف.
هذا الاتهام تجدد مرة أخرى بصورة رسميّة على لسان الممثل الخاص لرئيس الاتحاد الروسي لشؤون التسوية السورية ألكسندر لافرينتييف، في لقاء أجرته معه وكالة تاس الروسيّة ونشرته الخميس 14/11/2024. وقال: “لدينا بالفعل معلومات تفيد بأن متخصصين أوكرانيين من مديرية المخابرات الرئيسية في أوكرانيا يتواجدون “على أراضي إدلب، ولا يقومون فقط بتزويد الطائرات بدون طيار هناك عبر قنوات معينة، ولكن أيضًا يقومون بتدريب المتطرفين على تصنيعها واستخدامها، وهو أمر خطير للغاية لأنه في أيدي العناصر المتطرفة”. وأكد لافرينتيف “حقيقة إن أوكرانيا تستخدم بالفعل الأراضي السورية من أجل إلحاق أكبر قدر من الضرر بالاتحاد الروسي، خارج الحدود”.
وبذلك باتت إدلب ملحقاً للحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا والتي بدأت في 24/2/2022. والتي بلغ عدد ضحاياها مليون شخص روسي وأوكرانيّ قتلى ومصابين، بحسب تقرير نشرته صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية في 17/9/2024.
ولم تعلق الحكومة الأوكرانيّة على الاتهامات الروسيّة المتعلقة بإرسال عسكريين أو خبراء إلى سوريا لتدريب “هيئة تحرير الشام”.
لكن ما تسمى “حكومة الإنقاذ” التابعة لـ “تحرير الشام” نشرت في 16/11/2024، بياناً على حسابها على فيس بوك، قالت فيه: إنَّ “الاحتلال الروسيّ يواصل حملته الإعلاميّة التضليلية وآخر فصولها هو ادعاء وجود عناصر تتبع للاستخبارات الأوكرانيّة في إدلب،”. وأضاف البيان أن “هذه الدعاية الفارغة التي تفتقر إلى أي أدلة موثوقة تأتي في إطار المساعي الروسية لتحويل شمال غرب سوريا إلى ساحة مفتوحة لجرائم نظام الأسد وتوفير غطاء لتحركات الميليشيات الإيرانية”.
وأشار إلى “مؤشرات خطيرة تدل على نوايا روسية تصعيديّة تتزامن مع ارتفاع وتيرة استهداف الطائرات المسيرة للمدنيين في قرى ريف إدلب وريف حلب الغربي وبلداتهما”.
وأوضح البيان أنّ روسيا نفذت خلال 15 يوماً أكثر من 140 هجوماً عبر طائرات مسيرة انتحاريّة بالتزامن مع قصف مدفعي وصاروخي مستمر ما تسبب بموجات نزوح جديدة نحو المناطق الحدودية وأدى إلى تفاقم الأزمة الإنسانية في منطقة إدلب.
الخوذ البيض سوداء في موسكو
هاجمت المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، الأربعاء 13/11/2024، منظمة “الخوذ البيضاء” واتهمتها بالمشاركة في أنشطة تخريبيّة داخل سوريا، وأنّها أحد أسباب عدم استقرار سوريا.
وقالت ماريا: “الآن نسمع أقل عن الخوذ البيضاء، ولكن لسوء الحظ، بأموال من يسمون الرعاة، وهؤلاء هم البريطانيون والأمريكيون، لا تزال منخرطة في أنشطة تخريبية في سوريا”. وتابعت أن “الخوذ البيضاء لا تزال عنصرًا خطيرًا للغاية من عناصر عدم الاستقرار على الأراضي السورية”.
وأضافت أنه “يجب وقف أنشطة هذه المنظمة وقفا كاملا على الأراضي السورية، مع الكشف لاحقا عن جرائم الماضي، فهو أحد ضرورات استقرار الوضع في سوريا التي طالت معاناتها وفي المنطقة ككل”.
واتهمت ماريا بريطانيا بأنها تعمل على الترويج لهم ومساعدتهم ومساندتهم فهي تطلق عليهم ألقاب “العاملون الإنسانيون الشجعان وغير الأنانيين”، وفقاً لحديثها.
توجيه الاتهام لمنظمة “الخوذ البيضاء” ليس جديداً من قبل موسكو ففي 3/11/2021، ذكرت وزارة الدفاع الروسيّة أنَّ منظمة “الخوذ البيضاء” تعدُّ استفزازاً في محافظة إدلب بهدف اتهام حكومة دمشق بشنِّ ضربات عشوائية على المدنيين. وأفاد حينها نائب مدير مركز حميميم لمصالحة الأطراف المتناحرة في سوريا والتابع لوزارة الدفاع الروسية، اللواء البحريّ، فاديم كوليت، في بيان صدر عنه في 30/10/2021، بتلقي معلومات تتحدث عن “إعداد عناصر منظمة الخوذ البيضاء التي يزعم أنها إنسانية (والتي تعرف كذلك كالدفاع المدني) استفزازا بهدف اتهام القوات الحكومية بشن ضربات عشوائية على المنشئات المدنية والسكان المدنيين”. وأوضح كوليت أن المنظمة تجري اختيارا للمشاركين في التصوير المفبرك في بلدتي كفر كرمين وسرمدا بمحافظة إدلب. وأضاف مدير مركز حميميم أنه “من المخطط بهدف التغطية على الاستفزاز إشراك ممثلين عن وسائل الإعلام الناطقة باللغة الإنجليزية وصلوا إلى منطقة إدلب لخفض التصعيد”.
وفي 2/11/2018 قالت الخارجية الروسيّة، في بيانٍ: “تفيد المعلومات الواردة بأن المنظمة الإنسانية الزائفة المعروفة كالخوذ البيضاء المشهورة بسجلها المحزن والتي تم إنشاؤها بدعم الاستخبارات الغربيّة تنفذ محاولاتها اليائسة الأخيرة للإعلان عن وجودها في سوريا، وهذه المرة في منطقة خفض التصعيد بإدلب”. وأشار البيان إلى أن “مجموعة من عناصر هذه المنظمة وصلت أواخر تشرين الأول 2018 إلى كل من إعزاز ومارع والراعي في محافظة حلب بهدف إعداد استفزازات كيميائيّة، وهذه البلدات قد نقلت إليها في وقت سابق حاويات بمواد سامة ويعتقد أنها تحتوي على الكلور”.
وأكدت الخارجية الروسية: “هناك شهادات عديدة تؤكد أن الخوذ البيضاء تمثل عمليا فرعا لتنظيم جبهة النصرة الإرهابي الذي تم إدراجه في قائمة العقوبات لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة”.
“الخوذ البيضاء” هي منظمة تطوعيّة تعمل في المناطق الخاضعة لسيطرة مجموعات المرتزقة المسلحة التابعة للاحتلال التركي في شمال وغربي سوريا، وتأسست عام 2013، ويعمل لديها أكثر من ثلاثة آلاف متطوع.
خلاف ومطالبة بدور روسيّ
في 16/11/2024، قال وزير الخارجية التركيّ، هاكان فيدان، في لقاء تلفزيونيّ إنّه إذا أرادت حكومة دمشق اتخاذ خطوات بشأن بعض القضايا الحاسمة، “فلا أعتقد أنّ الروس سيقولون لا، لكنني لا أعتقد أن الروس سيمارسون ضغوطاً كبيرة على حكومة دمشق لاتخاذ هذه الخطوات”. وأضاف: “بصراحة يبدو أن الروس محايدون بعض الشيء بشأن هذه القضية”.
وفي محاولة لاستثمار ملف اللاجئين السوريين، أشار فيدان إلى ضرورة اتخاذ بعض الخطوات اللازمة للتوصل إلى حل في المسألة السورية، مشيراً إلى أنه “على حكومة دمشق أن تختار إعادة نحو عشرة ملايين سوري في الخارج إلى بلادهم”.
وكان وزير الخارجي الروسيّ سيرغي لافروف قد أعلن في 1/11/2024 في مقابلة مع صحيفة Hürriyet التركية، توقّف مفاوضات التطبيع بين أنقرة ودمشق، بسبب الخلاف على مسألة سحب أنقرة لقواتها من الأراضي السوريّة، وقال لافروف: إن حكومة دمشق تصر على أنه يجب في البداية اتخاذ قرار بشأن انسحاب الوحدة العسكرية التركية من أراضي سوريا. من جانبها تؤكد تركيا من حيث المبدأ التزامها بسيادة سوريا ووحدة أراضيها، لكن الجانب التركي يقترح العودة إلى مسألة سحب قواته في وقت لاحق. ترسل السلطات في الدولتين إشارات على الاهتمام الجاد باستئناف الحوار، لذلك سيعملون بنشاط لكي يتم بشكل سريع استئناف عملية التفاوض بينهما.
وأكد الوزير أن روسيا تبذل جهودها بشكل مطرد للتغلب على التناقضات بين دمشق وأنقرة. ومن بين المواضيع ذات الاهتمام الخاص، سلط لافروف الضوء على عودة اللاجئين السوريين ومكافحة الإرهاب وضمان أمن الحدود.
والثلاثاء 12/11/2024، تطرق البيان الختاميّ من مباحثات الجولة 22 من أستانه حول سوريا، إلى ضرورة مواصلة جهود التطبيع بين دمشق وأنقرة.
وفي سياق متصل بمسار التطبيع بين أنقرة ودمشق قال أحمد طعمة رئيس وفد ما تسمى بالمعارضة السوريّة إلى اجتماعات أستانا 22، الثلاثاء 12/11/2024، إنّه طلب من روسيا أن يكون لها دور أكبر في تقريب وجهات النظر بين المعارضة وحكومة دمشق.
وقال طعمة في تصريح صحفي لشبكة “رووداو” الكردية، إنه “طلب من الجانب الروسي دوراً أكبر في تقريب وجهات النظر بين المعارضة والنظام”. وأضاف طعمة أنه “إذا أدى التقارب بين دمشق وأنقرة إلى إيجاد حل في سوريا، فنحن مع التقارب”. مشيراً إلى أنّ “هذه الظروف قد تكون فرصة لتوحيد جميع الأطراف في مواجهة التحديات، ونقلنا هذا الأمر للجانب الروسيّ”. وشدد طعمة على أهمية أن تلعب روسيا دوراً إيجابياً وتضغط على حكومة دمشق للانخراط في عملية السلام.
إعادة تقييم للوجود الأمريكي
يبدو أنّ الانتخابات الرئاسيّة الأمريكيّة كانت مناسبة لكل من موسكو وواشنطن لإعادة تقييم بقاء القوات الأمريكيّة في سوريا، إذ لطالما تم الترويج لانسحاب أمريكيّ وشيك ومحتمل. وكان الوجود الأمريكيّ محلّ اهتمام ترويكا “أستانه” وأفردت له بنوداً في بيانات اجتماعاته الختاميّة.
ففي1/9/2024 نقل موقع روسيا اليوم عن وزير الخارجية الروسيّ سيرغي لافروف ما وصف بتحذيره لكرد سوريا من مصير مشابه للأفغان الذين وثقوا بواشنطن، ولم يخلُ حديثه من جملة اتهامات معهودة من مسائل النفط ودعم إنشاء كيان انفصاليّ، في تجاهل كامل للحقائق على الأرض والمبادرات التي تطرحها الإدارة الذاتيّة للحوار الوطنيّ وتأكيد وحدة سوريا.
ففي إعادة تقييم للوجود الأمريكيّ؛ أعلن المبعوث الروسي الخاص إلى سوريا ألكسندر لافرينتيف، الثلاثاء 12/11/2024، استعداد موسكو لاستئناف الحوار مع واشنطن حول سوريا بعد فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية. وقال المبعوث الروسي في تصريحاته: “إذا كانت هناك مقترحات، فإن الجانب الروسي سيكون منفتحا عليها ومستعدون لمواصلة الاتصالات مع الأمريكيين”. وأضاف أنه “عندما يتم تقديم أي اقتراح، سيتم النظر فيه بطبيعة الحال من قبل القيادة الروسية، وعلى الأرجح سيكون الرد إيجابياً”. وأشار إلى أنه “لا يمكن التوصل إلى حلول وسط إلا عبر المفاوضات.. دعونا نأمل أن يحدث ذلك”.
وفي 12/11/2024 جدد وزير دفاع دولة الاحتلال التركي، يشار غولر في حديث مع قناة TV100 التركيّة، عدم وجود نية لحكومته بالانسحاب من سوريا دون شروط واضحة لم يذكرها. وأضاف غولر أنّ “هذه المصالحة ستكون إيجابية للنظام السوريّ الذي يفتقر إلى قاعدة شعبيّة حقيقيّة”، وأشار إلى أنّ ما يسمى “الجيش الوطنيّ السوريّ سيكون جزءاً من مستقبل سوريا إذا بقيت دولة واحدة”. وما يقصده غولر بالحرف أنّه حكومته ليست بصدد الانسحاب من المناطق التي تحتلها إلا بعد ضمان غرس “مسمار جحا” الذي تمثله مجموعات المرتزقة التابعة لتركيا.
وتطرق غولر في حديثه إلى أنّ الرئيس الأمريكيّ المنتخب، دونالد ترامب، “سيحرص بشدة على انسحاب القوات الأمريكيّة من سوريا”.
كشفت مصادر دبلوماسيّة تركيّة، الاثنين 11/11/2024، أنّ الولايات المتحدة ليس لديها أجندة لسحب قواتها من سوريا. وذكرت المصادر لموقع “bbc tutkce”، أن أنقرة تلقت رسالة من واشنطن بضرورة حل مشكلة الانسحاب من سوريا على أساس التعاون. وأضافت المصادر أنّ سياسة الولايات المتحدة تجاه سوريا جرت مناقشتها في واشنطن، وقد تتم عملية انسحاب بين 2025 و2026. وقالت المصادر الدبلوماسيّة إنَّ الولايات المتحدة “لا يمكنها إنهاء وجودها في المنطقة إلا نتيجة اتفاق شامل مع تركيا”.