بدرخان نوري
أسعار الزيت في عفرين المحتلة في تقلّبٍ مُستمرٍ، فبعد انخفاضٍ مروّعٍ فيها، ارتفعت قليلاً، ولكن دون أن تصل إلى المستوى الذي يحقق العوائد الماليّة المرجوة والتي يضمن معها الأهالي الدخل المطلوب الذي يغطي نفقات الإنتاج وإعالة أسرهم، وتؤكد جملة متضافرة في المناطق الخاضعة للاحتلال التركيّ أنّ اضطراب الأسعار نتيجة لسياسة تنتهجها سلطات الاحتلال التركيّ، للتحكم بالأسواق وتوجيه حركة البيع على حساب جهد الأهالي وأرزاقهم.
انخفاض الأسعار
نشرت شبكة عفرين بوست الجمعة 15/8/2024 تقريراً مفصلاً عن حالة أسعار زيت الزيتون، وذكرت أنّ سعر صفيحة من الزيت البكر الإكسترا بوزن 16كغ صافي، وذو الأسيد 0.5 والمعروف محلياً باسم 5 شخطات بلغ بداية موسم هذا العام إلى 84 دولار أمريكي، وانخفض قبل أسبوع من الآن إلى ما دون 60 دولار، ثم يعاود السعر الارتفاع قليلاً بسبب إحجام الفلاحين عن البيع، وبذلك قلَّ معروض الزيت، أي وفقاً لمبدأ العرض والطلب.
أما الزيت ذو الأسيد المرتفع 10 شخطات وما فوق، فلم يعد مرغوباً للتصدير وفق عدة روايات، وانخفض سعره، وبلغت قيمة الصفيحة الواحدة أقل من 55 دولار أمريكي، ولذلك فقد بات هذا النوع من الزيت غالباً مخصصاً للاستهلاك المحليّ، ويلجأ بعض التجار إلى خلط نوعين من الزيت، المتدني والعالي الأسيد، للحصول على نوع موحّد معتدل.
ترتبط المناطق المحتلة في شمال غربي سوريا بدءاً من جرابلس وحتى إدلب بعدة معابر مع تركيا، إضافةً لمعبر وحيد مع منبج الذي يقع في مناطق الإدارة الذاتيّة لشمال وشرق سوريا، ومعبر أبو الزندين – الباب الذي افتتح مع مناطق سيطرة حكومة دمشق إلّا أنّه أُغلق بعد أيام، وتسعى سلطات الاحتلال التركيّ لفتحه رغم معارضة بعض مجموعات المرتزقة. واعتباره مصالحة مباشرة مع دمشق.
من يتحكم بالتصدير؟
ينحصر تصدير زيت الزيتون من عفرين وإدلب إلى خارج سوريا عبر البوابات الحدوديّة مع تركيا، بينما تصل كمياتٌ محدودةٌ منه إلى مدينة حلب وذلك بسبب ارتفاع أسعار الشحن والذي يتجاوز 33 دولاراً، وكانت سلطات الاحتلال التركي وسلطات الأمر الواقع المرتبطة بها في الشمال المحتل قد نظمت حركة السلع الزراعيّة من الداخل السوريّ إلى تركيا وبالعكس وفق آلية محددة، تكون اليد العليا فيها للجانب التركيّ، من حيث تحديد الكميات وأنواع المنتجات، والسماح بها أو لا، إضافةً لوجود شركات تركيّة تعمل مباشرةً وأخرى مشتركة تتحكم بمجمل عمليات البيع والشراء.
تقوم سياسة الاحتلال التركيّ الاقتصاديّة في المناطق السوريّة الواقعة تحت سيطرته ونفوذه على استغلال الموارد الاقتصاديّة وبيع المنتجات التركيّة؛ علاوةً عل ذلك، تتعرض منطقة عفرين لأكبر عمليات سلب ونهب لمواسمها وخيراتها، عبر الاستيلاء الممنهج على الممتلكات وفرض الإتاوات والضرائب وعمليات السرقات الواسعة من قبل مرتزقة الاحتلال وحواضنها الاجتماعيّة من المستوطنين، وتم توثيق الكثير من هذه الانتهاكات والجرائم التي تدرُّ الأموال على متزعمي المرتزقة، ومنذ بداية الاحتلال التركيّ تم تقسيم المنطقة إلى قطاعات عسكريّة، وأُطلقت أيدي أمراء الحرب ليفرضوا سطوتهم بقوة السلاح ضمن تلك القطاعات وكأنها إمارات مستقلة.
خسائر الفلاحين
كغيرها من المنتجات والسلع يخضع الزيت لقانون العرض والطلب، ويضمن هذا القانون عادةً ربحاً معقولاً للفلاح صاحب الحقل ويغطي كامل النفقات ويؤمن دخلاً له، ومقارنةً بالمواسم في السنوات السابقة فإنّ أسعارَ الزيت الحالية رغم انخفاضها تضمنُ درجةً من الربح للفلاح نظراً لزيادة الإنتاج هذا العام، لكن في عفرين الواقعة تحت ظلم المرتزقة والإتاوات المفروضة فالفلاح يخسر بكلِّ تأكيد.
شهد هذا الموسم شراسة كبيرة في فرض الإتاوات بأسماء، فالبداية من إتاوات لمجرد ملكية الحقل بصرف النظر عن حجم الشجرة وإنتاجها، ومعلوم أنّ الزيتون يخضع لظاهرة المعاومة موسم واحد كلّ سنتين، وبذلك فإنّ عوائد الإنتاج هي مصدر دخل لسنتين، مقابل مصاريف الحقل على مدى عامين، وهناك إتاوة بذريعة حراسة الحقول، هي لا تضمن أبداً عدم سرقة الموسم وحتى قطع الأشجار، وإتاوة من نمط ثالث تُدفع في المعصرة، فقد تم تعيين مندوبين وتوزيعهم على المعاصر.
وغالباً تُفرض ضريبة على شكل عقوبة جماعيّة بدفع مبلغ كبير قد يتجاوز 150 ألف دولار على أهالي القرية الواحدة يدفعونها بالتضامن فيما بينهم. كما تقوم الحواجز العسكريّة والأمنيّة على الطرقات بسلب كميات من الزيتون أو الزيتون أثناء نقلها من وإلى المعاصر، ويُجبر الأهالي على عصر الزيتون في معاصر محددة تم الاستيلاء عليها وتُدار من قبل المرتزقة، ولا تُعرف نسب السرقة فيها، وقد يقوم عصبة من المرتزقة بتشكيل دوريات مسلحة والتجول على الحقول وسلب الزيتون من الأهالي.
في عفرين لا يمكن تحديد نسبة نهائيّة للإتاوات، وتتجاوز على مدى موسمين 45%، فيما مصاريف حقل الزيتون تُقدّر في أدنى الحدود 20%، في الظروف العادية، وتختلف من موقع لآخر بحسب موقع الحقل ولعلها تتجاوز 50% في الحقول الواقعة في المناطق الوعرة والتربة الكلسيّة، لأنّ الإنتاج منخفض. وفيما إذا تعرض الحقل للسرقة لا يبقى للفلاح صاحب الحقل أيّ عوائد ماليّة.
سياسات عنصريّة
يؤكد محمد حنان من قرية قورنه بناحية بلبل أن موسم هذا العام كان جيداً مقارنةً بالسنة الماضية، إلا أن الفلاح سيخسر بكلّ تأكيد في ظل السرقات والإتاوات وتدني أسعار الزيت، ويربط حنان ما مورِس من ضغوط وانتهاكات في عفرين بسياسات الدولة التركيّة ضد الكُرد في عفرين.
عبّر حنان كغيره من أهالي عفرين عن تخوّفه أن تؤدي هذه الانتهاكات واستمرارها إلى عجز الأهالي عن متابعة حياتهم الطبيعيّة، وقد يضطرّون لبيع أملاكهم، لاسيّما المهجّرين قسراً، وهذا بطبيعة الحال سيرسخ التغيير الديمغرافيّ في عفرين، فالسياسات الاقتصاديّة الخانقة تهدف إلى إفقار المواطنين الكُرد في عفرين، فيما يتم دعم التجمعات السكنيّة الهجينة (المستوطنات) في المنطقة ومنحها فرص التملك والبقاء طويل الأمد. وهذه السياسة تنطوي على أهداف عنصريّة تتمثل بإنهاء وجود الكرد في المنطقة.
أسباب مباشرة
بالعودة إلى الأسباب الحقيقية التي تؤثر على أسعار الزيت في عفرين، يقول تاجر مُطلع على عمليات التسويق والبيع (فضل عدم كشف اسمه): إنّ بعض أبناء عفرين المتعاونين مع الاحتلال التركيّ والذين عقدوا صفقات مع بعض متزعمي المرتزقة، قاموا منذ سنوات بتشييد شركات متخصصة بتسويق زيت الزيتون في الداخل التركيّ وبالتحديد في منطقة قره خان المحاذية لناحيتي شيه/شيخ الحديد وجندريسه، وتشتري هذه الشركات زيت عفرين، وتقوم بتصفيته وتعبئته وبيع الجزء الأكبر منه تحت مسمّى الزيت التركي، وهنا مربط الفرس، إذ يرتبط أصحاب هذه الشركات مع تجار صغار في عفرين، وتسهّل مجموعات المرتزقة والمجالس المحلية عملية نقل الزيت إلى داخل تركيا عبر معبر حمام غير الشرعي الذي افتتحه الاحتلال التركيّ بعد سيطرته على عفرين بهدف نقل المعدات العسكريّة والتجارة.
شركة تركيّة في إدلب
أبو مناف تاجر زيت من ريف إدلب قال: إنّ الشركة التركيّة في إدلب هي التي تُحدد الأسعار ولا يمكننا رفع أو خفض السعر في السوق المحليّة دون الرجوع إليها.
ووفق البورصة العالمية لزيت الزيتون؛ فإنّ سعر تنكة الزيت في تركيا يزيد بنسبة 35% عن السعر الذي تحدده الشركة في إدلب، بطبيعة الحال هناك تكاليف التصفية والنقل والجمارك لكنها لا تتجاوز الـ3% كتكاليف تسويقها إلى تركيا.
بربط آلية التجارة في عفرين والشركة التركيّة الموجودة في إدلب، فإنَّ المتحكم بأسعار الزيت في عفرين وإدلب هو تركيا، والتجار الذين يعملون لصالح هذه الشركات وهم مجرد واجهة، وامتنع المصدر عن كشف أسماء التجار لأسباب وصفها بالخاصة.
واستغل التجار المرتبطون بسلطات الاحتلال التركيّ التصريحات التي صدرت عن مدير معهد البحوث العلميّة السوريّ بأنّ الزيت السوريّ خرج من التصنيف العالميّ للتصدير، وتبين أنّها لا تمت للحقيقة بصلة، ويقول أبو مناف: “بالفعل نسبة الأسيد في الزيت السوريّ مرتفعة لأسباب تتعلق بالقطافِ المبكر، وفي سنواتِ الإنتاج الغزير تكثرُ الآفات، لاسيما ذبابة الزيتون التي تؤدي لزيادة الأكسدة والأسيد”، ويؤكد مهندسو الزراعة تلك المعلومات، ويردف أبو مناف قائلاً: “أسعار زيت الزيتون السوري ذو الأسيد المنخفض الأكسترا لا تخضع لتلك المعايي”ر.
لكن زيت عفرين يعدُّ الأفضل عالميّاً، وبالعودة للضوابط العالميّة بمنع بيع الزيت السوري تحت مسمّى الزيت التركي، إلا أنّ هذا الأمر لا يمكن ضبطه دون وجود رقابة غربيّة على الصادرات التركيّة من زيت الزيتون. بُعيد احتلال تركيا لعفرين، قال وزير الزراعة التركي بكير بكديرلي في البرلمان في تشرين الثاني 2018: “نريد عائدات عفرين، بطريقة أو بأخرى، في أيدينا، هذه منطقة تحت هيمنتنا، نحن، كحكومة، لا نريد أن تقع مُقدّرات هذه المنطقة تحت أيدي الغير”، التصريح التركي هذا تم تنفيذه بخطوات عدة ومدروسة، واليوم تظهر نتائجه الفعليّة على أرض الواقع.
فروق في الأسعار
بمقارنة بسيطة بين أسعار الزيت في عفرين والداخل السوريّ، يُلاحظ أنَّ صفيحة الزيت في قامشلو تُباع بنحو 90-110 دولار أمريكيّ، في حين سعرها في حلب ودمشق بحدود 85-95 دولار.
في دول الجوار السوري، يتراوح سعر صفيحة زيت الزيتون 100-140 دولار، وبطبيعة الحال أجور الشحن والنقل مرتفعة في سوريا، بسبب كثرة المعابر وصعوبة الطرقات وفرض الإتاوات من قبل عدة جهات، وقد زادت تكاليف التصدير مؤخراً نتيجة زيادة الجمارك والأجور، ما يؤثر على كميات الزيت التي قد تُصدّر عبر مناطق الإدارة الذاتية إلى العراق أو كردستان، ومع عدم وجود فروق كبيرة بالأسعار لن يخاطر إلا قلة من التجار على تصدير الزيت من عفرين إلى العراق.
تتحكم سلطات الاحتلال وسلطات الأمر الواقع بكلّ مفاصل الحياة في المناطق المحتلة، فهي المتحكمة بطرق التجارة والنقل، ولا تسمح بتصدير كميات زيت الزيتون إلا وفق متطلبات تركيّة معينة، ويستخدم الزيت المُصدر لهدفين: الاستهلاك المحليّ في تركيا وتراعى فيه شروط الأسيد المنخفض، أما المخصص للتصدير باسم زيت تركيّ فيجب أن يكون من النوع الممتاز، وهنا تكمن الفائدة للجانب التركيّ والتجار معاً، نظراً لفروق الأسعار، بتدنيها في منابع الإنتاج، والأسعار للزيت المصدر إلى دول الخليج وأوروبا وأمريكا وتصل نسبة الربح إلى 70%، والنسبة أعلى بالنسبة للزيتون والزيت المسروق، وسبق انّ تناولت تقارير صحفية أجنبية قضية سرقة الزيت وفضحتها في أعوام 2018-2019، لكن الحكومات الغربيّة تجاهلتها لتزداد السرقات وتتنوع بأساليبها.
أمثلة للإتاوات
أبلغ المسؤول الأمني في مرتزقة سليمان شاه/ العمشات الخميس 14/11/2024 أهالي قرية حسيه/ميركان بناحية موباتا/معبطلي للاجتماع بساحة القرية، وهدد باختطاف وضرب من يرفض أو يتأخر بدفع الإتاوة المفروضة عليهم، وستتم مصادرة ممتلكات الأهالي وآلياتهم حتى دفع الإتاوة، واضطر بعض الأهالي لبيع المصوغات الذهبيّة لزوجاتهم وتنكات الزيت بأسعار زهيدة لتجار من طرف المدعو أبو عمشة لدفع الإتاوات تجنباً للعواقب المحتملة وبطش المرتزقة.
في قرية كرزيليه بناحية شيراوا، فرض مرتزقة العمشات إتاوة مالية مقداره (1.5) دولار أمريكيّ عن كلِّ شجرة زيتون مهما كان حجمها حتى ولو كانت غرسة مزروعة حديثاً.
مع بداية الشهر الحالي حجز مرتزقة العمشات معظم جرارات وسيارات أهالي قرية كاخره بناحية موباتو/معبطلي، للضغط على الأهالي ممن لم يدفعوا إتاوة /6/ دولار أمريكيّ عن كلّ شجرة زيتون، والتي يبلغ مجموعها مئات آلاف الدولارات. وحجز معظم إنتاج زيت الزيتون في المعصرة بالقرية حتى الانتهاء من جمع كلِّ مبالغ الإتاوات، إضافةً لتفتيش السيارات الخارجة من القرية، وفرض دولار واحد على كلّ تنكة زيت تُنقل بقصد البيع أو الشحن. واستدعي بعض أهالي القرية وأهينوا وهُددوا وتمت مطالبتهم بالإسراع بدفع الإتاوات المفروضة عليهم.
المسنة حليمة حمرشو (80 سنة) اضطرت للهرب من القرية والنزوح قسراً إلى مدينة حلب، إذ لم تتمكن من دفع إتاوة /7/ آلاف دولار أمريكيّ مفروضة على أملاكها، فاستولى العمشات على منزلها وكافة أملاكها.
في قرية سيويا بناحية موباتا أبلغ المختار الأهالي عبر (الواتس آب)، بدفع دولار واحد عن كلّ شجرة زيتون، ليقوم المختار بتسليمها إلى المدعو أبو عدي في مقر ما يسمّى المكتب الاقتصادي لمرتزقة الشرقيّة، تحت طائلة أسوأ العواقب لمن يرفض أو يتأخر بالدفع.
وفرض مكتب مرتزقة الحمزات الاقتصاديّ على قرية أهالي قرية كوكانيه ــ راجو إتاوة مقدارها ليرتين تركيتين عن كلّ شجرة يتم كسحها.
في قرية سيمالكا فرض المكتب الاقتصاديّ لمرتزقة السلطان مراد إتاوة جديدة مقدارها 10% من إنتاج الأشجار، وأبلغ المختار الأهالي بذلك، وهذه الإتاوة منفصلة عن كلّ الإتاوات المفروضة سابقاً.
ويجبر مرتزقة أحرار الشرقية، أهالي القرى التي يسيطرون عليها في ناحية راجو، على عصر الزيتون في معاصر محددة، عبر مكتبها الاقتصادي ودوريات مسلّحة تقطع الطرقات وتراقب نقل الزيتون بالجرارات والسيارات. وفرضوا إتاوة دولار أمريكي عن كلّ شجرة زيتون، أياً كان حجمها وإنتاجها، ولا يُسمح بالقطاف إلّا بموافقة المكتب الاقتصادي والحصول على إذنٍ مكتوب علاوةً على إتاوة 50% من إنتاج حقول الزيتون العائدة للغائبين (وكالات)، وإتاوات عينيّة بحجة الحراسة.