مع انعقاد مؤتمر الأمم المتحدة للتنوع البيولوجي (كوب 16)، يجدر الوقوف على سياسة تدمير البيئة في عفرين المحتلة. فعمليات التحطيب الجائر ليست مجرد إفراط باستخدام حطب الأشجار للتدفئة في ظلِ أزمة المحروقات، بل سياسة ممنهجة تشجعها سلطات الاحتلال التركيّ لتغيير هوية المنطقة البيئيّة والطبيعية، ولم يكن من الممكن إزالة المساحات الكبيرة للغابات وقطع مئات آلاف أشجار الزيتون؛ لو اتخذت سلطات الاحتلال أدنى إجراءات المساءلة، وليس صدفةً تحولُ مواقع قطع الأشجار واقتلاعها إلى مشاريع استيطانيّة، إضافة لعمليات بيع الحطب وإنشاء المفاحم للإتجار بالفحم، فيما كانت الأراضي التركيّة وجهة عشرات الشاحنات المحملة بحطب الأشجار المقطوعة في عفرين.
جرس إنذار دوليّ
دعا الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش الأحد 20/10/2024 الدول الأعضاء في اتفاقية الأمم المتحدة للتنوع البيولوجيّ إلى “استثمارات كبيرة” في الصناديق الدولية لإنقاذ الطبيعة.
جاء ذلك في رسالة مصورة بعثها غوتيرش إلى النسخة السادسة عشرة من مؤتمر الأمم المتحدة للتنوع البيولوجي (كوب 16) في كالي ــ كولومبيا. وقال غوتيريش عشية افتتاح المفاوضات التي تستمر حتى الأول من تشرين الثاني القادم: “يجب أن نغادر كالي مع استثمارات كبيرة في صناديق الإطار العالمي للتنوع البيولوجي، ومع التزامات بتعبئة مصادر أخرى للتمويل العام والخاص لتنفيذه بالكامل”. وحث غوتيريش مندوبي الدول الأعضاء الـ196 (باستثناء الولايات المتحدة) في الاتفاقية بشأن التنوع البيولوجي، على “الانتقال من الأقوال إلى الأفعال… لأنّنا لسنا على الطريق الصحيح”.
وذكّر غوتيريش: بأنّ “تدمير الطبيعة يؤجّج الصراعات والجوع والأمراض، ويغذّي الفقر وأوجه عدم المساواة والأزمة المناخية، ويضرّ التنمية المستدامة والوظائف الخضراء والتراث الثقافي والناتج المحلي الإجمالي”. وشدد على أن “الأمر يتعلق بالوفاء بالوعود التي قُطعت فيما يتعلق بالتمويل وتسريع الدعم للبلدان النامية”؛ لأنّ “انهيار الخدمات التي تقدّمها الطبيعة، مثل التلقيح ومياه الشرب، سيؤدّي إلى خسارة سنوية للاقتصاد العالمي تقدّر بتريليونات الدولارات، حيث ستكون أفقر البلدان هي الأكثر تضررا”. وأضاف: “يتعين على أولئك الذين يستفيدون من الطبيعة أن يساهموا في حمايتها واستعادتها”.
بدأ هذا الجهد الدوليّ في أيار 1989، عندما شكّل برنامج الأمم المتحدة للبيئة فريق الخبراء العامل المخصص في الشؤون التقنيّة والقانونيّة لإعداد صك قانونيّ دولي لحفظ التنوع البيولوجيّ واستخدامه على نحو مستدام. وبحلول شباط 1991، أصبح الفريق المخصص العامل معروفاً باسم لجنة التفاوض الحكومية الدولية. وتوج هذا الفريق ذروة أعماله في 22/5/1992 في مؤتمر نيروبي باعتماد النص المتوافق عليه لاتفاقية التنوع البيولوجيّ. وفُتح باب التوقيع على الاتفاقية في 5/6/1992 خلال مؤتمر الأمم المتحدة المعني بالبيئة والتنمية (“قمة الأرض” في ريودوجانيرو). وبقي مجال التوقيع مفتوحاً لغاية 4/6/1993 وبلغ حينها 168 توقيعاً. ودخلت الاتفاقية حيز التنفيذ في 29/12/1993، وحُددت الجلسة الأولى لمؤتمر الأطراف في الفترة من 28/11 ــ 9/12/1994 في البهاما.
تركيا وتناقضاتها مع التزاماتها
اتفاقية التنوع البيولوجيّ مستلهمة من الالتزام المتزايد للمجتمع العالميّ بالتنمية المستدامة. وشكّلت خطوة نوعيّة في حفظ التنوع البيولوجيّ والاستخدام المستدام لمكوناته وعناصره، والمشاركة العادلة والمنصفة للمزايا الناجمة عن استغلال الموارد الجينيّة.
بالمطلق تشكل هذه الاتفاقية رغم قصور الجهود الفعليّة خطوة عالميّة لحماية البيئة والطبيعة، وتداول الإعلام التركيّ في 20/4/2023 أنّ النسخة الـ16 لمؤتمر أطراف اتفاقية الأمم المتحدة للتنوع البيولوجي ستعقد في تركيا، وجاء خلال على لسان أردوغان خلال منتدى الاقتصادات الكبرى بشأن الطاقة والمناخ.
وفيما تدق أجراس الإنذار على المستوى الدوليّ الداعية للمحافظة عل الطبيعة والبيئة، تستمر سلطات احتلال التركي والمجموعات المرتزقة التابعة لها بالتعديات البيئة الطبيعية في إقليم عفرين المحتل سواء بالتحطيب الجائر بهدف الاتجار بالحطب أو إضرام الحرائق.
ومنذ أن احتل الجيش التركي عفرين في 18/3/2018 ارتفعت نسبة اندلاع الحرائق في المنطقة وبخاصة في فصل الصيف، ولا يمكن مقارنتها بما كان يحدث في العقود السابقة خلال سيطرة حكومة دمشق أو سنوات الإدارة الذاتيّة، وترتقي سياسة الاحتلال إلى التدمير الممنهج للبيئة والطبيعة.
وإذا كانت المسؤولية تترتب مباشرة على سلطات الاحتلال التركيّ، لعدم اتخاذ أيّ إجراءات فاعلة تمنع قطع الأشجار وإضرام الحرائق والمحاسبة المتسببين بها، فإنّها لا تبذل أدنى الجهود للمساعدة في إخماد الحرائق، وبخاصة أنّ مواقع الحرائق قريبة من الحدود كما أنها تمتلك الإمكانات الكبيرة بما في ذلك الآليات والحوامات، وكانت قبل اندلاع الأزمة السوية تشترك في إطفاء الحرائق على الأراضي السورية.
بالمجمل لا تتوفر إحصائيات دقيقة لعدد أشجار الزيتون التي طالها القطع في عفرين المحتلة، وكذلك المساحات الغابيّة التي تمت إزالتها، بيد أن الصور المتداولة للغابات التي أزيلت مروعة، ووصفت المشاهد بغزو التصحر.
وذكر التقرير التوثيقي الأسبوعي لحزب الوحدة الديمقراطيّ الصادر في 6/8/2024، أنّ الغابات الطبيعيّة في عفرين قبل الاحتلال كانت تنتشر على مساحة (18500هكتار) والاصطناعية (21000 هكتار) في عفرين، وبلغت التدهور فيها أكثر من 60%، أي أُزيل ما يقرب من ستة ملايين شجرة حراجية طبيعية إضافة إلى /13/ مليون شجرة حراجيّة مزروعة ليبلغ المجموع العام /19/ مليون شجرة، إضافة إلى ملايين الأشجار الصغيرة الحجم بين تلك الكبيرة، سواء بالقطع الواسع وحتى قلع الجذوع بالآليات الثقيلة، وكذلك بإضرام النيران فيها. وهناك غابات اختفت بشكل كامل من الوجود.
وفي إحصائية لما يسمى الدفاع المدني السوريّ (الخوذ البيضاء)، فقد اندلع /55/ حريقاً في الغابات خلال تموز 2024؛ أغلبها في منطقة عفرين.
جبل هاوار نموذج لتدمير البيئة
جبل هاوار هو أحد أمثلة الغابات الغنية، ويوصف بأنه غابة طبيعية بكريّة ويضم أشجاراً من السنديان العادي والزيتون البري والقطلب والزرود ومرافقات حراجيّة عريضة الأوراق ومخزوناً وراثيّاً من البذور، وكان يفترض أن يكون محمية طبيعيّة، وملاذاً للحيوانات البريّة أيضاً. إضافة لموقعه الجغرافيّ والطبيعيّ الاستراتيجيّ، وفيه مغارات وآثار قلعة قديمة.
وآخر الحرائق التي أضرمت فيه كان الخميس 3/10/2024، وامتد إلى محيط قرية قره كوله في ناحية بلبل، وقضت على مساحات واسعة من الغطاء النباتيّ وألحقت أضراراً جسيمة بالغابة، وقبلها أضرم حريقٌ في 20/8/2024 في الجبل.
وذكرت عفرين بوست في 27/8/2024، أنّه خلال أشهر حزيران وتموز وآب، أدت الحرائق إلى تدهور نحو 50% ما يعادل ألفي هكتار من الغابة، وقد ازداد نشاط مرتزقة ما يسمى “الجيش الوطنيّ” في قطع الأشجار الحراجيّة المتبقية وتجميع بقايا الحطب المتفحم، وقلع الجذوع المطمورة تحت الأتربة بالآليات الثقيلة، وصناعة الفحم. ويتم نقل الحطب والفحم بواسطة الشاحنات الكبيرة إلى محافظة إدلب، ويباع الطن الواحد من الحطب بـ/100/ دولار.
مساء الإثنين 3/6/2024، أضرمت النيران في أشجار جبل هاوار، وصباح الثلاثاء توسّعت وتصاعدت أعمدة دخان كثيفة وانتشرت في سماء المنطقة، واستمرت حتى فجر الخميس 6/6/2024، وأعلن “الدفاع المدنيّ السوريّ” إخمادها بعد /44/ ساعة من العمل الصّعب والمتواصل، والتهمت الحرائق نحو /150/ هكتار من المساحة الخضراء، ومئات أشجار الزيتون وكروم العنب لأهالي قريتي “ديكيه، جيه” المطلّتين على الغابة.
منذ إضرام حرائق كبرى في غابة جبل هاوار الطبيعيّة بين ناحيتي بلبل وراجو، أوائل حزيران الماضي، واستمرارها لثلاثة أيام، يتجدد إشعال النيران فيها بشكلٍ شبه يومي، كلّ مرّة في جهة منها، وتُقدّر المساحة التي التهمتها الحرائق ألفي هكتار؛ ففي 13/8/2024، أشعلت في موقع “پوز مشمش” جنوبي قرية “جيه/ الجبلية” المتربعة على سفح الجبل، ولشدة النيران وهبوب الرياح أحرقت حوالي /125/ شجرة زيتون عائدة لأولاد المرحوم محمد علي حمو من أهالي القرية، رغم عدم وجود الأعشاب اليابسة بينها.
مساء الأحد 21/7/2024، أضرمت مرتزقة من “السلطان مراد” النيران في الجهة الشرقية لجبل “هاوار” المحاذية لقريتي “شوربة” و”سيمالكا” بناحية موباتا. ولم يُشاهد قدوم سيارات إطفاء أو محاولات لإخماد النيران. فيما اصطفت عدة سيارات في سهل الجبل وفيما تشاهد ألسنة النار ترتفع من مسافات بعيدة.
في 5/8/2024 ظهراً اندلع حريق في أحراش جبل هاوار قرب قرية قره كوله/ اليابسة بناحية بلبل، وكانت هناك صعبة في إخماد الحريق بسبب وعورة الجبل وصعوبة الوصول للمكان، مع إخماد الحريق نصبت مجموعات كبيرة من المستوطنين والمرتزقة المسلحين يتجاوز عددهم المائة خياماً قرب موقع الحريق، وبدؤوا العمل كورشات تحطيب، يقلعون جذور الأشجار الحراجيّة والمثمرة المحترقة للاتجار بحطبها. المستوطنون بتواطؤ مع مرتزقة الفرقة التاسعة ويسكنون المستوطنة القريبة من قرية إفراز بناحية معبطلي، وعملوا على التحطيب وتجميع أغصان السنديان لصناعة الفحم إذ يتجاوز سعر ثمن طن الفحم “650 دولاراً.
بتاريخ 14/8/2024، أضرمت النيران مجدداً فيما تبقى من غابة جبل “بعيفه” شمالي قرى “ميدانا” – راجو، وقام بعض أهاليها بإطفائها، دون مشاركة أيّة جهة من سلطات الاحتلال التركيّ أو مجموعات المرتزقة؛ فيما لم يشارك أهالي قرية “كوسا” المجاورة هذه المرّة في إطفائها، بعد تعرض عددٍ منهم للتحقيق والمساءلة لدى “الشرطة العسكريّة في راجو” لقيامهم بإطفاء النيران التي أشعلت في الغابة بشكلٍ واسع بتاريخ 27/7/2024 ونشروا صوراً ومقاطع مصورة، وتم تحذيرهم بعدم التكرار.
إزالة الأحراش عمل ممنهج
في 12/4/2023 نشرت منظمة سوريون من أجل الحقيقة والعدالة وجمعية ليلون للضحايا تقريراً مفصلاً عن عمليات التحطيب الجائر التي طالت 114 موقعاً للغابات (الحراجية والبرية) في عفرين المحتلة، وأُرفق التقريرُ بعدد كبيرٍ من الصور للتوثيق. وقالت المنظمة إنّ “ممارسات القطع الجائر في إزالة الأحراش أخذت أشكالاً ممنهجة منذ 2018 وتمّ توثيق تورط ميليشيات من “الجيش الوطنيّ” بتلك الأفعال كأحد طرق التمويل”.
وجاء في التقرير: كان من بين تلك المواقع (57) موقعاً تضرر بشكل كبيرٍ، وقطعت فيه الأشجار بشكل شبه تام، بينما بلغ عدد المواقع التي تضررت بشكل متوسط من عمليات القطع التعسفيّة (42) موقعاً، وعدد المواقع التي تضررت بشكل جزئيّ (15) موقعاً.
وأشار التقرير إلى أنّ إزالة الغابات وقطع الأشجار الجائر يتسبب بآثار مأساويّة على البيئة، التنوع الأحيائيّ، والمجتمعات المقيمة في المناطق المستهدفة. بيئيّاً، ويؤدي قطع الأشجار إلى إزالة منطقة حماية تؤمنها الغابات طبيعيّاً، فالأشجار تمنع تآكل التربة والفيضانات، وتحد من مخاطر التغيّر المناخي، بالأخص ارتفاع مستويات ثاني أكسيد الكربون. كذلك، للقطع الجائر نتائج مدمرة على التنوع الأحيائي، حيث تهدد إزالة الغابات الكثير من الحيوانات والحشرات بالانقراض؛ فالأشجار المقطوعة موائل لعدد كبير ومتنوع من الحيوانات، التي تدخل بمنافسة شرسة على الغذاء بعد أن تهجر مواطنها الأصلية المدمرة، فيما تصبح غير قادرة على التكاثر.
وأضاف التقرير أنّ قطع الأشجار يسبب ضررا بالغاً للسكان مهددةً حيواتهم في نواحٍ عدة. وصحيّاً، تبحث الحيوانات والحشرات المهجرة من مساكنها عن مأوى في القرى المأهولة المحيطة بالغابات، ما يفتح مجالاً لتماسٍ غير مألوف بين السكان والحياة البريّة؛ واعتبر ذلك على قدر عالٍ من الخطورة، لاسيما وأنّه يخلق بيئة حاضنة للأمراض.
ويقوض قطع الأشجار الأمن الغذائيّ للسكان، حيث تَعُد المجتمعات المحيطة الغابات مصدراً مباشراً أو غير مباشر للغذاء، فتحصد ثمار الأشجار وغيرها من الأعشاب والأصناف النباتية القابلة للأكل، أو تزرع المحاصيل في تربتها الخصبة. كما يهدد قطع الغابات كذلك بتهجير السكان، إما لخسارتهم مصادرهم الغذائيّة أو سبل عيشهم؛ فالتربة تمنح المزارعين مغذيات عضوية للمحاصيل، فيما تمدُّ الرعاة من السكان بنباتات رعويّة لمواشيهم.
واستهدفت عمليات القطع على نحو خاص الأشجار المعمرة التي يتجاوز عمر بعضها قرنين، وكانت شاهدة على عدة أجيال، وفي محيط بلدة ميدان إكبس بناحية راجو استهدفت حملة كبيرة لمرتزقة فيلق الشام في نهاية آب 2022، أشجار البلوط المعمرة والتي يناهز عمر بعضها 200 سنة.
ومن المواقع الحراجية التي طالها التحطيب الجائر: حرش كفروم، منطقة حراجية قرب قورت قولاق (الديب الكبير)، المنطقة قريبة من قريتي قره تبه وقسطل كشك، الأحراج القريبة من جمان، المنطقة الحراجية فوق تل الزيادية في مدينة عفرين، المنطقة الحراجية القريبة من باسوطة، المنطقة الحراجية في كفر صفرة، المنطقة الحراجية على سفح تلة كفر صفرة (شيخ محمد). أحراج قرى هيكجة، إشكان غربي، تاتارا (قمة قازقلي)، حرش بريما، وغابة بطال، أحراج كوردان ورمضانا حج حسن (شيخ الحديد)، وكفرجنة وقطمة. غابات جبال قرى “بيكه، شنكيله، علي كارو، طوبال.
ولا يكاد يمر يومٌ دون توثيق حادث قطعٍ لأشجار الزيتون واقتلاعها، لتتجاوز المسألة البعد الاقتصاديّ والاتجار بالحطب وحتى التغيير البيئيّ، وتوصفَ بدوافع عنصريّةٍ حاقدةٍ، إذ لطالما عُرفت عفرين بأشجار الزيتون وشكّل الزيتون رمزاً لهويةِ المجتمع الكرديّ في عفرين، ولا تتوقف الانتهاكات البيئيّة بقطع الأشجار وحرقها، إذ يضاف آلاف حوادث الرعي الجائر في البساتين والحقول وتعديات رعاة الأغنام على الأهالي وصولاً لارتكاب جرائم القتل العمد.