الاعتقادُ أنّ تركيا بصدد بعدوان عسكريّ جديد، في ظل الحرب في غزة ولبنان، سطحيّ وخداع للنفس، فالقضية ليست متعلقة فقط بترتيبات مناطقيّة وتنسيق في إطار أستانه بل أيضاً بالفضاء الإقليميّ، والمتغيرات فيه، والتي شهدت الحرب في أوكرانيا وتداعياتها في سوريا، وكذلك عملية طوفان الأقصى قبل عام والحرب في غزة وفتح إسرائيل جبهة لبنان، لتنهيَ جبهة الإسناد التي أعلنها حزب الله ويصبح لبنان جبهة بذاته، ويفرض في الحد الأدنى إعادة انتشار القوات الإيرانية وحزب الله في سوريا.
التصعيد في إدلب
في الوقت الذي يصرّح فيه مسؤولو دولة الاحتلال التركيّ على أعلى مستوى الهرم السياسيّ الحديث عن مواصلة المسار التصالحيّ مع دمشق، وتأكيد استمرار اللقاءات الأمنيّة والتطلع إلى لقاء قمة بين الرئيسين، تروّج أوساط ما تسمى بالمعارضة السوريّة ومجموعات المرتزقة التابعة لها لقربِ البدء بعملٍ عسكريّ كبيرٍ في ريف حلب الشماليّ.
وذلك بالتوازي مع تصعيد عسكريّ بدأ منذ أكثر من أسبوع في إدلب التي تسيطر عليها “هيئة تحرير الشام” المصنّفة على قوائم الإرهابِ، وتقصف قوات حكومة دمشق يوميّاً مواقع “الهيئة” بالمدفعية والطائرات المسيّرة. في وقتٍ تفيد فيه معلومات بتحضيرِ “هيئة تحرير الشام” لهجومٍ مرتقب ضد قوات الحكومة في ريف حلب.
وآخر أخبار التصعيد مقتل وإصابة عدد من عناصر قوات حكومة دمشق بقصف مدفعيّ وصاروخيّ الجمعة 11/10/2024 من قبل مرتزقة “هيئة تحرير الشام/ جبهة النصرة سابقاً” بريف حلب وبعض مناطق إدلب، وسط تبادل القصف بين الطرفين بتلك المناطق.
فقد استهدفت مجموعات غرفة عمليات “الفتح المبين” بصاروخ موجه مجموعة عناصر لقوات حكومة دمشق على محور بسرطون غربي حلب، ما أدى إلى مقتل أربع عناصر وإصابة ثلاثة آخرين”. واستهدفت أيضاً بقذائف المدفعية الثقيلة والصواريخ مواقع لقوات الحكومة في مدينة سراقب وقرية داديخ شرقي إدلب، والفوج 46 وبلدة أورم الكبرى غربي حلب، مؤكدةً تحقيق إصابات مباشرة.
وردت قوات الحكومة على الهيئة باستهداف مواقعها ومواقع مجموعات أخرى بريفي إدلب وحلب، واستهدفت بعشرات القذائف المدفعية والصاروخية قرى وبلدات معربليت وسفوهن والفطيرة بجبل الزاوية جنوب إدلب. كما استهدفت مواقع للهيئة في قرى تقاد وكفرعمة وكفرتعال ومكلبيس وأطراف الأبزمو كفرنوران بريف حلب الغربي بنحو خمسين قذيفة مدفعية وصاروخية من مواقعها في الفوج 46 وأورم الكبرى في المنطقة نفسها.
تهويل بعدوان جديد
مُعرفات وصفحات محسوبة على مرتزقة الاحتلال التركيّ تداولت خبر الاستعداد لعدوان تركي جديد في ريف حلب الشمالي، كما تداولت صوراً مفبركة يظهر فيها علم مرتزقة “القوة المشتركة” مرفوعاً على القوس الكائن على الطريق المؤدي إلى بلدة تل رفعت، وقالوا إنّ القوة المشتركة تحضّر لفتح المعركة قريباً، وتم تداول مقطع مصوّر قيل إنّه لبدء مرتزقة “القوة المشتركة” تحريك المدرعات في 8/10/2024 ليلاً استعداداً للعملية العسكريّة الجديدة، وبالتزامن مع إطلاق الرصاص الكثيف الذي سُمع في أرجاء قرية كفرجنة، قيل إنّه بسبب تدريبات بالذخيرة الحية في معسكرات الجيش الوطنيّ. وأنَّ وزير الدفاع فيما يسمى الحكومة المؤقتة حسن حمادة اجتمع بقادة مجموعات المرتزقة لبحث تفاصيل العملية العدوانية القادمة.
بمراجعةِ العديدِ من المواقعِ الإخباريّة التركيّة وفي مقدمتها وكالة الأناضول لم يُعثر على أيّ خبرٍ جديدٍ يتعلقُ بقربِ تنفيذ عملية عسكريّة مُقبلة، ووُجد تقرير نُشر الجمعة 4/10/2024، في موقع Levant 24 بالإنكليزيّة عنوانه: US and Turkey Prepared for Threats in the Region as Tensions Escalate” الولايات المتحدة وتركيا تستعدان للتهديدات في المنطقة مع تصعيد التوتر. وتحدث التقرير عن تعزيز أنقرة لوجودها العسكريّ في مناطق عملياتها في سوريا وذكر عفرين وإدلب، حيث توجد العديد من نقاط المراقبة. وقالت إنّ ذلك “جزءٌ من الجهود المستمرة التي تبذلها لتأمين حدودها الجنوبيّة” وذكرت زيارة الوفد العسكريّ التركيّ. وانفرد الصحفي التركيّ محمد جان بيكلي بنشر تغريدة على منصة إكس قال فيها إن الاستعدادات تتم لعمل عسكريّ جديد.
معلوم أنّ عدوان عسكريّ تقوم به أنقرة، يسبقه إعادة صياغة مجموعات المرتزقة التابعة لها، فتنقلها وتُعيد انتشارها على خطوط التماس، إلا أنّ هذه المجموعات تمر بحالات توتر على خلفيّة أوامر تركيّة بحل “صقور الشمال”، وبدا الانقسام بين المجموعات المرتزقة بوضوح ما بين مجموعات المرتزقة التركمانيّة وأخرى ذات الخلفيّة الإخوانيّة، وكلمة السر أنّ مرتزقة “صقور الشمال” ينحدرون من جبل الزاوية في إدلب. ولذلك كان انضمامها إلى مرتزقة “الجبهة الشاميّة” متوقعاً لأنّ هي الأخرى مهددة بالتصفية.
إنَّ مسألة عملٍ عسكريّ يُقصد بها السيطرة على مزيد من الأرض وتهجير الساكنين عليها، وإنهاء وجود الكرد في ريف حلب! وهي خطة مُتفق عليها في إطار أستانه، لتثبيت وجود عوامل الأزمة التي تم ترحيلها إلى الشمال السوريّ، وإعادة التركيبة الديمغرافيّة للبلاد وفقاً لمعطيات الأزمة، وأما الحديث عن استغلال الظرف الحالي المتمثل بالحرب في لبنان، فهو ليس بذي صلة مباشرة وكان ذلك ممكن التصديق لو أنّ المجموعات موجودة في ريف دمشق ولم تركب الحافلات في رحلات “التسوية” إلى شمالي سوريا!! إضافةً إلى أنّ أنقرة لم تُبدِ تحولاً في موقفها إزاء المسار التصالحيّ مع دمشق.
قرعُ طبولِ الحربِ من قبل المجموعات المرتزقة لا قيمةَ له أبداً، لأن الطبلَ الذي يأذنُ ببدءِ الحربِ أو عملٍ عسكريّ موجودٌ في أنقرة فقط، ولن يُسمح بالضربِ عليه إلا بموافقةٍ روسيّةٍ! ويُستبعدُ احتمالُ أن تمنحَ موسكو الضوءَ الأخضرَ لأنقرة التي أبدت دوراً سلبيّاً في ضبطِ هيئة تحرير الشام في إدلب بالتصعيد الذي تقوم به حالياً، وهناك سعي لقطع الطريق على المزيدِ من التصعيد!
عملياً لم يتوقف الجيش التركيّ عن القصف المدفعيّ والجويّ عبر الطائرات المسيّرة. واستهدفت طائرة مسيّرة للاحتلال التركيّ الخميس سيارة قرب قرية أحرص في منطقة الشهباء ما أدى لاحتراقها، ولم ترِد معلومات عن ضحايا عقب القصف.
لا جاهزية لانسحاب فوري
جملة عناوين يتم تداولها في المرحلة الحالية منها: المسار التصالحيّ بين أنقرة ودمشق، طلب دمشق ضمانات بالانسحابِ وليس الانسحاب الفوريّ، التصعيد العسكريّ في إدلب، تعزيزات الجيش السوريّ إلى إدلب، الحديث عن عدوان عسكريّ جديد، زيارة وفد عسكريّ تركيّ رفيع المستوى إلى عفرين وإدلب، استمرار الترحيل القسريّ للاجئين السوريين من تركيا، مشاغلة مجموعات المرتزقة بالتوتر والاقتتال، استقدام مرتزقة تحت مسمى الجهاديين من إدلب، مواصلة القصف التركيّ والاستهداف بالمسيّرات في مواقع عديدة من شمال وشرق سوريا، المعابر الحدودية والتي بدأت بقصة معبر أبو الزندين ومعارضة فتحه، تصريح لافروف وتجديده كعادته الاتهام للإدارة الذاتيّة.
جملة هذه الحوادث لا تؤيد احتمال عملٍ عسكريّ جديد، ولكنها لا تُنفيها مطلقاً، ففي السياسة ليس من الصواب نفي شيء مطلقاً، وبخاصةٍ أنّ أنقرة لديها الشهية لضرب الكرد أينما وُجِدوا!
موسكو تسعى لإنهاء ملف إدلب، وأنقرة تتطلع إلى إنهاء وجود الكرد في ريف حلب الشمالي، ولكن فرص التوصل إلى اتفاق مقايضة صعب في هذه المرحلة، ويتعارض ذلك مع المسار التصالحيّ الذي ترعاه موسكو بين أنقرة ودمشق، إلا إذا تم رسميّاً إعلان “نعي” هذا المسار.
دمشق غير جاهزة بهذا التوقيت لملء الفراغ الإداريّ والأمنيّ في المناطق التي تحتلها تركيا، وهي تحتاج طرفاً مشاغباً يعرقل فتح المعبر، ذلك أنّ فتح المعبر يفرضُ استحقاقات مباشرة، وهذا الطرف غير موجود من الجهة التي تسيطر عليها، ولذلك فإنّ اعتصامات واحتجاجات الشامية تصبُّ في مصلحة دمشق علم المرتزقة ذلك أو لم يعلموا، كما أنّ وعرقلة فتح المعبر يُربكُ سلطات الاحتلال ما يُحسّن بالمقابل شروط دمشق للتفاوض، وبذلك فإنّ الترويج لعملٍ عسكريّ قريبٍ يزيد انشغال المرتزقة ويزيد رصيد أنقرة التفاوضيّ.
ولا يقتصر التفاوضُ على معبرٍ واحدٍ، بل المطلوب كلّ المعابرِ تدريجيّاً، إلا أنّ ملف إدلب شائك بسبب ما تسمى بالحالة الجهاديّة متعددةِ الجنسيات وبخاصةٍ الروسيّة (أوزبك، داغستان، طاجيك…)، وهذا سبب الحماسة الروسيّة لإنهائه، وليبقى ملفَ عفرين بيدِ الاحتلال التركيّ! وباختصار: البازار في إدلب، والثمن في عفرين!
الحقيقة أنّ الكلّ مأزوم، فقبل أكثر من عامين بدأتِ الحربُ في أوكرانيا وكانت لها إسقاطاتٌ في سوريا، ومن جملة تداعياتها الأخيرة، توجيه موسكو الاتهام لأوكرانيا وواشنطن بتأمين مُسيّرات لتحرير الشام، لضربِ القوات الروسيّة، في مقال لوزير الخارجية الروسيّ سيرغي لافروف نشره موقع الوزارة، ما يمنح موسكو عاملاً إضافيّاً لزيادةِ التصعيدِ.
وفيما تواصل إسرائيل استهداف مواقع القوات الإيرانيّة، بدأت في هذا التوقيتِ الحرب على حزب الله لبنان، وهذا المتغيّر من شأنه أن ينعكس مباشرةً على واقع الانتشار العسكريّ في سوريا، ويفرض على القوات الإيرانية وحزب الله انسحابات أو إعادة الانتشار العسكريّ، وبخاصةٍ في ريف حلب، وبذلك دفعت حكومة دمشق بتعزيزات عسكرية كبيرة إلى ريفي إدلب الجنوبي وحلب الجنوبي..
وفد وتعزيزات عسكريّة للاحتلال التركيّ
قام وفد عسكريّ من جيش الاحتلال التركي برئاسة قائد القوات البرية في الجيش التركي سلجوق بيرقدار الأربعاء 2/10/2024 بزيارة تفقديّة إلى منطقة عفرين ومدينة إدلب. وضم الوفد العسكريّ كلّاً من قائد الجيش الثاني وقائد القوات الخاصة التركية وقائد الفيلق السادس، وكانت مهمة الوفد إجراء تقييم ميدانيّ لاستيعاب المتغيرات المحتملة في المنطقة. ولم تتحدث عن عملٍ عسكريّ مُحتمل، بل جعلت التهديد في إطار الإعلام. خلافاً لعادة أنقرة التي يصدر التهديد فيها من أعلى هرم السياسة.
استقدمت دولة الاحتلال التركيّ الخميس 10/10/2024 تعزيزات عسكرية من معبر باب السلامة الحدوديّ شمالي حلب، لليوم الثاني على التوالي. وتتألف من 17 عربة عسكرية محملة بالأسلحة والمواد اللوجستية والطبية، اتجهت للقواعد التركية المتواجدة على خطوط التماس. ويأتي ذلك، في إطار تعزيز نفوذ القوات التركية في المنطقة. ويوم الأربعاء دخل رتل عسكري للجيش التركي مؤلف من 13 آلية عبر معبر باب السلامة الحدوديّ إلى القاعدة التركية في منطقة مريمين في ناحية شران.
28 عملية إرهابيّة لمرتزقة داعش في أسبوع
وفي جملة الأحداث المتقاطعة تأتي العمليات التي تنفذها خلايا مرتزقة “داعش”، والتي تأتي بموازاة التصعيد التركيّ ضد الإدارة الذاتيّة. فقد كشف مرتزقة “داعش”، الجمعة 11/10/2024، حصيلة هجماتٍ، قال إنّه نفذها الأسبوع الفائت، في سوريا والعراق ومناطق بإفريقيا وآسيا.
وشهد الأسبوع الفائت تصاعداً بهجمات “داعش” وتنويعاً فيها، وأدت هجماته إلى مقتل وإصابة 82 شخصاً حول العالم، وفقاً لمعرفات مقربة منه. ونقلت صحيفة “النبأ” الإلكترونية التابعة لمرتزقة “داعش” أنّهم نفذوا 28 هجوماً، خمسة منها في سوريا، أودت بحياة وإصابة ثلاثة أشخاص. وفي إفريقيا، نفذ داعش 20 هجوماً أوقعت 72 شخصاً بين قتيل وجريح، بحسب الصحيفة المقربة من داعش. كما نفذ المرتزقة هجوماً في “شرق آسيا” راح ضحيته شخص واحد. وبينت الصحيفة أنّه من خلال العمليات تم تدمير وإعطاب ثمانية آليات وحرق ثلاثة منازل.
العفو الدوليّة تُحمّل أنقرة المسؤوليّة
وبالتزامن مع الانتهاكات وعمليات سرقة موسم الزيتون والاختطاف في عفرين المحتلة أصدرت منظمة العفو الدوليّة “أمنستي تقريراً حمّلت فيه تركيا مسؤولية الانتهاكات في عفرين باعتبارها “قوة محتلة”. ودعت لحملة تواقيع إلكترونية لوقف الانتهاكات.
وقال التقرير إنّ التحقيقات التي أجرتها منظمة العفو الدوليّة وجماعات حقوق الإنسان الأخرى أوضحت انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان ارتكبتها قوات تركية والمجموعات التي تدعمها تركيا في سوريا، والوضع مستمر.
وإنّ سكان عفرين يعانون من مجموعة واسعة من الانتهاكات، معظمها على أيدي الجماعات المسلحة السورية التي جهزتها وسلحتها تركيا. وتشمل هذه الانتهاكات الاعتقالات التعسفيّة والاختفاء القسري ومصادرة الممتلكات والنهب التي غض الجيش التركي الطرف عنها. كما استولت بعض هذه الجماعات، والجيش التركي نفسه، على المدارس، ما أدى لتعطيل تعليم الآلاف من الأطفال.
ونقل تقرير المنظمة عن مدير أبحاث الشرق الأوسط في منظمة العفو الدوليّة قوله: “إنّ “تركيا” هي القوة المحتلة في عفرين، وبالتالي فهي مسؤولة عن رفاهية السكان المدنيين والحفاظ على القانون والنظام. وحتى الآن، فشلت قواتها المسلحة تمامًا في هذه الواجبات. لا يمكنها التهرّب من المسؤولية باستخدام الجماعات المسلحة السوريّة لتنفيذ عملها القذر”.