الارتباط بين شخص مسن وأرضه، رابط عميق ومميز يعكس الروابط الثقافية والتاريخية التي تربط الإنسان بمكان، ليمثل هذا الارتباط علاقة قوية تعود للعديد من الأجيال، فالأرض جزءًا أساسيًا من الثقافة والتقاليد في شمال وشرق سوريا، وتُعد رمزًا للوفاء والإصرار على البقاء في الظروف الصعبة.
وكلما كبر الإنسان في العمر، تصبح أواصر هذا الارتباط أقوى من ذي قبل، في حين أن المسن الذي يحافظ على أرضه، يعدُّ الأرض مصدرًا للفخر والاعتزاز، حيث تروي كل شجرة من أشجاره قصة عمر طويلة، مليئة بالصبر والعناية التي تمتد لعقود. بالعناية اليومية والجهد المستمر، حيث يعمل المسن في أرضه بتفانٍ وحب، ما يعكس عمق الروابط الروحية بينه وبين الأرض التي يعيش عليها.
أشجار الفستق الحلبي رمز الصبر
يعكس الارتباط الفريد تفاني المسن في الحفاظ على تراثه وتقاليده، وتواصله مع الطبيعة والعناصر الجذرية لحياته، فروح الانتماء والارتباط بالأرض هي جوهر هذه العلاقة، وتجسد قيم الصمود والعمل الشاق، التي تميز هذا الجيل الحكيم، الذي يحمل تراثاً ثقافياً عميقاً.
وتعدُّ زراعة أشار الفستق الحلبي نوعا من أنواع الصبر، ففي البداية، تكون أشجار الفستق الحلبي صغيرة الحجم وتحتاج إلى الري المنتظم والتسميد المناسب لتعزيز نموها، وبمرور الوقت، تبدأ الشجرة بالنمو ببطء تدريجي، حيث تبدأ فترة نمو أشجار الفستق الحلبي عند زراعتها من بذرة أو شتلة، وتحتاج إلى رعاية واهتمام شديدين خلال الأعوام الأولى لحياتها.
وللحديث أكثر عن سبب ارتباطه ببستانه الذي يزرع فيه أشجار الفستق الحلبي؛ التقت صحيفتنا المزارع “كامل خلف“، الذي حرص على العناية بهذا البستان، الذي ورثه عن جده ووالده، والذي يقع في قرية رحيك التابعة لمدينة الدرباسية بمقاطعة الحسكة، والذي يبلغ عمر بستانه اليوم أكثر من قرن: “نعمل في هذا البستان، نحن الأخوة الثلاثة، وتبلغ مساحة الأرض 800 دونم، وقد جئنا إلى هذه الأرض عام 1957، واشتراه جدي من عائلة من الشعب المسيحي”.
وتابع: “ومنذ ذلك الحين بدأنا العمل في هذا البستان دون كلل أو ملل، وكانت توجد في هذا البستان أشجار من مختلف الأصناف، إلى جانب أشجار الفستق الحلبي، وهذه الأشجار بالتحديد تتطلب جهداً طويلاً، حيث تحتاج إلى الري المنتظم والتسميد المناسب لتعزيز نموها”.
وزاد: “ومع مرور الوقت، تبدأ الشجرة بالنمو ببطء تدريجي، حيث تنمو أفرعها ويتكون اللوز الخاص بها، ويستمر نمو الشجرة وتزدهر عندما تصل إلى سنواتها الناضجة”.
مدة زمنية طويلة
وتابع خلف: “تحتاج أشجار الفستق الحلبي بعض الوقت حتى تبدأ بإعطاء الثمار، وتستغرق ثماني سنوات لتعطي أول محصول لها”، مضيفاً: “وخلال هذه الفترة، تظهر أشجار الفستق الحلبي تنوعًا في الأوراق والأزهار التي تضيف جمالًا إلى المناظر الطبيعية”.
وزاد: “وبمرور الزمن، تنمو ثمار الفستق وتبدأ عملية النضج؛ ما يتطلب العناية والتقليم لضمان جودة الإنتاج، وتستمر هذه الفترة من النمو والازدهار لعقود، مما يعكس صلابة وروعة هذه الأشجار العتيقة، التي تحمل في تاريخها العديد من الذكريات والقصص القديمة”.
وأوضح: “تبدأ عملية الإنتاج في شهري آذار ونيسان، أما جني المحصول فيكون في شهر تشرين الأول، حيث نبدأ بقطف الفستق وتعبئته في الأكياس لعرضه في الأسواق، وبعد جني المحصول نبدأ عملية التقليم، فنقص الأغصان الزائدة، وتلك التي تكون قد شاخت، ولم تعد تُثمر، وذلك لئلا تؤثر على الأغصان الأخرى”.
التمسك بالبستان
واستكمل خلف قائلاً: “بلغ عدد سنين عملنا في هذا البستان أكثر من خمسين عاماً، وعلى الرغم من تقدمي في السن، إلا إنني لا زلت متمسكاً به كما الأيام الأولى، ففي هذا العمر، أذهب وأنظف محيط الأشجار، فأقوم بحفر محيطها، وذلك لتتم السقاية بشكل مناسب، وهذه الأعمال هي التي جعلت الأشجار تستمر في عطائها حتى هذا اليوم، فالأشجار إذا أُهملت لم تعد تنتج ثمارها”.
المزارع كامل خلف، أنهى حديثه بالقول: “لم أعد أنظر إلى علاقتي بهذا البستان علاقة المزارع بأرضه، بل أنني أرى في هذا البستان الشريان الذي يربطني بهذه الحياة، حيث لم أعد أتصور حياتي بدونه، لدرجة أنني لا أستطع أن أسلمه لغيري، وأنا لازلت حياً”.
مضيفًا: “لذلك، سأبقى متمسكاً بهذا البستان ما حييت، وما يُحزنني، هو أن الجيل، الذي أتى بعدي لم يعر هذا البستان الاهتمام، الذي أعرته له، فأبنائي لا يتعاملون معه مثلي، لذلك، أخشى ألّا يحافظوا على هذا البستان من بعدي”.