بدأ ظهوره في القرن السادس مع الجيوش الرومانية بسروج على الخيول وباتت الآن أشبه بمشافي متنقلة.
يدين الملايين حول العالم لسيارات الإسعاف بحياتهم، لكن ما لا يعرفه الكثيرون أن أول سيارة إسعاف في العالم ظهرت في 28 تموز 1792، على يد البارون والجراح الفرنسي البارز في جيش نابليون بونابرت، دومينيك جان لاري، إبان الحرب الفرنسية-النمساوية.
الرومان أول من بدأ الاعتناء بجرحى الحرب
واقترن مفهوم “الإسعاف” بضحايا الحروب منذ بداية الصراع البشري والحروب، كانوا هؤلاء الضحايا يتركون على أرض المعركة يعانون البرد والعطش واحتمالات التعذيب من قبل الأعداء حتى انتهاء المعارك، بعدها يتم نقل القلة التي تبقى على قيد الحياة وبطرق تقليدية للغاية.
وحمل المصابون على نقالات ترفع على الأكتاف أو تحملها الحيوانات الأليفة -كانت النقالات تثبت على ظهور الحيوانات ببعض الأربطة، أو على ظهور تلك الحيوانات أو في سلال أو كراسي توضع عليها، أو على عجلات يدفعها إنسان أو تجرها الخيول والبغال، لتضميد جراحهم، إلى أن قرر فيليب الثاني المقدوني، والد الإسكندر الأكبر، تعيين عدد من الأطباء والجراحين ونقالة لحمل المصابين لكل كتيبة قتالية في جيشه.
وبدأت الجيوش الرومانية في الاعتناء بجرحاها من الجنود منذ القرن السادس الميلادي، وعين الإمبراطور البيزنطي موريكيوس فرقاً من الفرسان الذي يمتطون خيولا عليها سروج معدة بشكل يسمح بنقل المصابين عليها إلى الخيام الطبية المجهزة لتضميد جراحهم في أثناء الحرب.
وفي القرن الحادي عشر، خصص الصليبيون عربات لنقل الجنود المصابين في قوافل الأمتعة إلى خيام مخصصة لعلاجهم قبل نقلهم إلى مستشفيات القدس، كانت تتراوح التجهيزات بين سرير من القش أو قش ملقى على أرضية عربة شحن، أو عربة ركاب مخصصة لنقل الجرحى.
وأصبحت فرقة فرسان القديس يوحنا، التي أسست عام 1080، توفر الرعاية الطبية لحجاج الأراضي المقدسة، وأول كتيبة طوارئ أوكلت إليها مهمة تطبيب المصابين على جانبي ساحة المعركة، ونقل الجرحى إلى الخيام، بعد تلقيهم تدريبات من أطباء عرب ويونانيين على الإسعافات الأولية.
فرضت إسبانيا تصميم عربات لنقل جنودها الجرحى
وفي عام 1476، أمرت الملكة إيزابيلا، ملكة إسبانيا، بتصميم عربات مخصصة لنقل الجرحة من الجنود، وهو التوجه الذي تبنته مختلف جيوش أوروبا بعد ذلك.
ورغم أن معظم الجيوش الأوروبية كان لديها أطباء وجراحون متخصصون بعلاج الجرحى من جنودها، بجانب المستشفيات الميدانية والثابتة حتى منتصف القرن الثامن عشر، فإن خدمة إسعاف الجرحى ونقلهم من ميدان المعركة لم تكن متوافرة.
وكانت اللحظة المفصلية عندما شهد كبير الأطباء بجيش نابليون بونابرت، دومينيك جان لاري، معاناة الجرحى من الجنود الفرنسيين في معركة ليمبورغ، بعد أن تُركوا في أرض المعركة طيلة 24 ساعة قبل البدء في مداواة جراحهم.
ابتكار أول عربة إسعاف رسمية
ولئلا تتكرر تلك المأساة، ابتكر الطبيب الفرنسي لاري أول عربة إسعاف وكانت ذات عجلتين تجرها الخيول، لها هيكل خفيف لسرعة الحركة، ومزودة بغطاء للحماية من تقلبات الجو، ومهمتها تقديم العلاجات الأولية للجنود قبل نقلهم إلى خيام الرعاية الطبية، وكانت هذه أول مجموعة طبية رسمية في أي جيش بالعالم.
وظهرت خدمة منافسة لسيارة الإسعاف التي ابتكرها لاري، تمثلت في عربة معبأة بالتجهيزات الطبية والضمادات، تحمل الأطباء وأطقم التمريض، إلى ساحة المعركة لتضميد جراح المرضى هناك، ابتكرها البارون الفرنسي.
كما ابتكر البارون لاري، بعد ذلك، عربة إسعاف أخرى لها أربع عجلات تستطيع السير على المنحدرات وتوفر قدرا أكبر من الراحة للمرضى، ومنذ ذاك الوقت أصبح الاعتماد على “عربة” نقل الجرحى والمصابين هو المتبع عالميا، خاصة في الحروب.
من جر الخيول إلى محركات فورد
وبدأت شركة Hess and Eisenhardt ، المتخصصة في مجال تصنيع السيارات، بصناعة سيارات الإسعاف عام 1890، أما أول سيارة إسعاف كهربائية مزودة بمحركات، فظهرت عام 1899، وصنعت في شيكاغو وتبرع بها خمسة من رجال الأعمال البارزين لمشفى مايكل ريس، وامتازت بالسرعة الكبيرة مع السهولة السلاسة في الحركة، ودرجة حفاظ أكبر على سلامة المريض، واستطاعت السير من 20 إلى 30 ميلا.
ثم صنعت Hess and Eisenhardt سيارة إسعاف مدفوعة بمحرك عام 1906، ومع بداية الحرب العالمية الأولى كانت لا تزال بعض سيارات الإسعاف تجرها الخيول. وبمرور الوقت، تم تكييف سيارات الأجرة في باريس للقيام بخدمات الإسعاف.
وعندما دخلت أميركا الحرب العالمية، أحضرت 1000 من سياراتها لأغراض عديدة، من بينها نقل الجرحى، وأثبتت كفاءة عالية؛ نظرا إلى قدرتها على السير بسرعة 45 ميلا/ الساعة، وخاصة على الطرق الوعرة، وصنعت المزيد منها لنقل وتوزيع الجثث وغيرها من المهام.
وفي عام 1937 أنتجت Hess and Eisenhardt آخر إصداراتها من سيارات الإسعاف وهي في الوقت ذاته أول سيارة إسعاف مكيفة الهواء في أميركا، أما أول سيارة إسعاف كهربائية شهدتها مدينة نيويورك فظهرت عام 1990، وبلغت سرعتها 60 ميلا/ ساعة.
منافسة بريطانية-أمريكية على ابتكار السيارة الملائمة للظروف كلها
وزاد الاهتمام بسيارات الإسعاف خلال الحرب العالمية الثانية، فقامت الولايات المتحدة بتطوير سيارات دودج بمحرك أقوى وسرعات أكبر ووزن بلغ نصف طن، في حين استخدم البريطانيون سيارات” روفر9″ في الصفوف الأمامية، وكانت تتسع لنقالتين، أو نقالة واحدة وثلاث جرحى جالسين، أو ستة جرحى جالسين.
وكانت آخر سيارة إسعاف بريطانية استخدمتها قوات التحالف هي سيارة “بيدفورد”، البالغ طولها 19 قدما، واتسعت لأربعة نقالات، أو عشر جرحى جالسين، كما استخدم نمط ثالث من سيارات الإسعاف، تمثل في المركبات أو العجلات البرمائية التي تستطيع السير على الأراضي الوعرة وعلى امتداد الشواطئ.
دخول الإسعاف لخدمة المدنيين
وعقب تعيين إدوارد باري دالتون، الجراح السابق في الجيش، مشرفا على الشؤون الصحية لمدينة نيويورك، تفشى وباء الكوليرا، فابتكر نظاما لمواجهته، تمثل في: الشرطة التي يتم إبلاغها بالحالات المشتبه فيها، لتقوم على الفور بزيارة الحالة مع فريق من المفتشين الصحيين.
وعند التأكد من الإصابة، يتم استدعاء فريق متخصص بالتطهير في عربة مجهزة؛ أي إن العناصر الأربعة؛ الشرطة، والتلغراف، والمشفى، وعربة نقل المرضى، نواة لابتكار سيارة الإسعاف بمفهومها الحديث.
وفي الوقت نفسه، كانت هناك مناشدات بتوفير المستشفيات لسيارات إسعاف في بريطانيا، بدأتها المجلة الطبية البريطانية عام 1862، كما كان عدم تأهيل القائمين على نقل المصابين عائقا وتسبب في تفاقم الكثير من الكسور، وانتهى بالعديد من الحالات إلى بتر أطرافها أو الوفاة.
تفشي حمى الكوليرا شكل دافعاً قوياً
ولكن المناشدات لم تكن كافية لإقناع السلطات البريطانية، خاصة مع وجود أزمة في توفير تكاليف ذلك، غير أن الخوف من تفشي الحمى، ومن بعده وباء الكوليرا، بسبب نقل المصابين في سيارات الأجرة وعربات اليد المكشوفة، دفعها للبحث عن طريقة آمنة لنقل مرضى الحالات المعدية.
وظهرت أول خدمة إسعاف مدني عام 1869 على يد دالتون في مستشفى “بلفيو” بنيويورك. كانت عبارة عن مركبات مجهزة بشكل جيد ومزودة بنقالات وأصفاد وسترات ضيقة، مع بعض التجهيزات الطبية مثل الضمادات وأدوات التجبير والخمور الطبية أسفل كرسي السائق، ولها أرضية متحركة يسهل سحبها لاستقبال المريض.
وبعد انتهاء الحرب بدأ توزيع سيارات الإسعاف على المستشفيات المدنية، ما ساعد على انتشارها.
إلا أن جون فورلي، أحد مؤسسي إسعاف القديس يوحنا، صمم سيارة إسعاف معدلة اعتمدتها أغلب قطاعات الشرطة التي كان موكلا إليه مهمة إسعاف المرضى آنذاك حول العالم.
وافتتح جمعية إسعاف سانت جون عام 1877، وبدأ حملة قومية لتدريب الأشخاص على إجراءات الإسعافات الأولية، المصطلح الذي ابتكرته جمعيته، ومن هنا بدأ تاريخ الإسعاف المدني في بريطانيا.
ثم طور إسعاف سانت جون عدة أشكال من عربات الإسعاف؛ من بينها نقالة ثابتة بين دراجتين في ليستر عام 1892، إلى دراجة رباعية العجلات في برمنغهام 1895، ثم دراجة غير عادية يسهل تحويلها إلى نقالة تحمل على الأيدي من قبل رجال الشرطة في 1906.
حادثة راح ضحيتها 112 شخصاً أدت إلى انتشار تدريبات الإسعافات الأولية
وفي أواخر الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، لفت تطوران رئيسيان النظر إلى أهمية تدريب الجميع على خدمات الإسعاف؛ وهما: الإنعاش من الفم
(التنفس الاصطناعي)، وتدليك القلب؛ إذ يلعب العلاج في مكان الحادث دورا فعالا في إنقاذ حياة المصاب، خاصة في حالة التعرض لنوبات قلبية مفاجأة.
كما أدى الحادث المروع إلى تحطم قطار “هارو وويلدستون” عام 1952، والذي راح ضحيته 112 شخصا وخلف 340 مصابا، إلى إعادة هيكلة مفهوم سيارات الإسعاف لتصبح مستشفيات متنقلة ومجهزة بشكل تام.
وكان من الممكن إنقاذ العديد من الأشخاص لولا فقر التجهيزات، ومنذ ذاك الوقت، بدأ الاهتمام بتصنيع موديلات حديثة من سيارات الإسعاف وتجهيزها بأفضل الإمكانات واللوازم الإسعافية.