بعد هجوم سيبرانيّ استهدف منظومة اتصالات حزب الله، شنت إسرائيل غاراتٍ مكثفةً على لبنان، ووافقت هيئة الأركان الإسرائيليّة على خطط لعملية هجوميّة، ما يعني الانتقال من مرحلة المناوشات المتبادلة عبر الحدود إلى فتحِ الجبهة الشماليّة، فيما جبهة قطاع غزة مازالت مفتوحة، وأعلن المسؤولون الإسرائيليّون إنّهم يهدفون إلى تقويضِ القدرات العسكريّة لحزب الله، وبذلك فالمواجهة بين الطرفين باتت مفتوحة على كافة السيناريوهات.
من المناوشات إلى الهجوم
شهدت الأيام القليلة الماضية تركيزاً إسرائيليّاً في استهداف مواقع لحزب الله الذي يخوض حملة إسناد عسكريّ لغزة منذ بدء الحرب في 7/9/2024، وإذ حافظ الوضع على الجبهة الشماليّة على وتيرة شبه ثابتة من القصف المتبادل، إلا أنّه شهد صباح الاثنين 23/9/2024 تحولاً خطيراً بهجمات جويّة إسرائيليّة مكثفة، ليضع لبنان على أعتاب منعطف كبير، وسط تهديدٍ إسرائيليّ باجتياح بريّ للأراضي اللبنانيّة، ونزوح واسع من الجنوب إلى العاصمة بيروت.
وفي حصيلة أعلنها مساء الاثنين، قال الجيش الإسرائيليّ إنّه هاجم 1300 هدفاً تابع لحزب الله في جميع أنحاء لبنان، مشيراً إلى أنّه نفذ أكثر من 650 طلعة هجوميّة خلال 24 ساعة. وقال المتحدث باسم الجيش الإسرائيليّ إن هذا الهجوم يعدُّ “ضربة استباقية” بعد رصد تحركات لحزب الله لاستهداف إسرائيل.
وشملت موجات من الغارات كامل قرى وبلدات جنوب لبنان وصولاً إلى عمق الجنوب في النبطية وصور، وفي منطقة البقاع الغربيّ والشماليّ، كما طالت الغارات منطقة جبيل في شمال لبنان، وهي المرة الأولى التي تتعرض فيها هذه المنطقة للقصف منذ انطلاق المواجهات بين حزب الله وإسرائيل منذ انطلاق بركان الأقصى. وقالت مراسلة روسيا اليوم إن جميع البلدات الحدودية في جنوب لبنان وأطرافها دون استثناء تعرضت للعديد من الغارات الجوية الإسرائيليّة المتواصلة، وإن الغاراتِ استهدفت مناطق عدة في السلسلة الغربية في البقاع الشمالي، شرق لبنان.
وقال رئيس أركان الجيش الإسرائيليّ هرتسي هاليفي، إن الجيش “يفكك قدرات لحزب الله بناها على مدار 20 عاماً، ونهاجم أهدافاً ونُعِد كل الجهود التي تهدف لخلق الظروف لإعادة السكان إلى منازلهم”.
وأعلن الجيش الإسرائيليّ صباح الاثنين أنّه أحبط عملية إطلاق صاروخ كروز من أحد منازل جنوب لبنان، محذّراً سكان الجنوب اللبنانيّ، بضرورة الابتعاد عن أيّ مبنى يستخدمه “حزب الله” وعن عناصر الحزب، مشدداً على أنّ “كلّ من يتواجد بالقرب من عناصر حزب الله أو أسلحته يُعرّض نفسه للخطر”.
خسائر بشريّة كبيرة
أعلنت وزارة الصحة اللبنانيّة، ليل الاثنين، ارتفاع عدد القتلى جراء الضربات الإسرائيليّة إلى 492 وعدد المصابين 1645 منذ صباح اليوم ذاته، بينهم نساء وأطفال ومسعفين، وأعلن مركز عمليات طوارئ الصحة العامة بوزارة الصحة العامة، أن من بين القتلى 35 طفلاً و58 امرأة.
وقال وزير الصحة اللبناني فراس الأبيض في مؤتمر صحفي إن الغارات استهدفت مستشفيات ومراكز طبية وسيارات إسعاف. وبحسب الوزير “الأبيض” فقد أُصيب نحو خمسة آلاف شخص في أقل من أسبوع، نتيجة الغارات الإسرائيليّة التي استهدفت مناطق مختلفة في لبنان وتفجير أجهزة اتصال لحزب الله.
وطلبت وزارة الصحة اللبنانية من مستشفيات بالجنوب والشرق وقف العمليات غير المستعجلة لأجل علاج جرحى العدوان الإسرائيليّ.
وأعلن وزير التربية اللبناني عباس الحلبي تعطيل المدارس والجامعات الثلاثاء في أنحاء البلاد، وقررت السلطات فتح المؤسسات التعليمية لإيواء النازحين.
استعدادات لاجتياح بري
صرّح رئيس الوزراء الإسرائيليّ بنيامين نتنياهو من غرفة القيادة الرئيسيّة بوزارة الدفاع في تل أبيب، أنّ إسرائيل “على أعتاب أيام معقدة”. وتابع: “وعدت بأنّنا سنغيّر ميزان القوى في الشمال، وهذا بالضبط ما نفعله”، وأكد أن إسرائيل “لا تنتظر التهديد بل تسبقه”، وفقاً لما نقلته القناة الـ12.
ونقل موقع “والا” عن قادة كبار بالجيش الإسرائيليّ أنّهم “جاهزين للشروع بعملية بريّة في لبنان”. فيما نقلت شبكة بلومبيرغ عن مسؤول عسكريّ إسرائيليّ أنّ الجيش يركّز حالياً على الحملة الجويّة وأنّ الغزو البريّ ليس وشيكاً. وأضاف المسؤول العسكريّ أنّ إسرائيل تسعى لتدمير منصات إطلاق الصواريخ والقذائف التابعة لحزب الله لإضعاف قدراته.
وقالت هيئة البث الإسرائيليّة إنّ الحكومة صادقت “بشكلٍ مستعجل على إعلان حالة الطوارئ في الجبهة الداخليّة، وأنّ هذا القرار سيدخل حيز التنفيذ فوراً ولمدة أسبوع، وأفادت وسائل إعلام محليّة بأنّ إسرائيل قررت تمديد إغلاق المجال الجويّ المدنيّ من الخضيرة إلى حيفا حتى نهاية أيلول الحالي”.
استهداف قياديي حزب الله
أعلن الجيش الإسرائيليّ مساء الاثنين أنه نفذ غارة جوية على الضاحية الجنوبيّة في بيروت، وأفادت هيئة البث الإسرائيليّة بأنّ المستهدف بالغارة هو القيادي علي كركي الذي وصفته بالرجل الثالث في حزب الله، مشيرةً إلى أن مرتبته تعادل القائدين فؤاد شكر وإبراهيم عقيل اللذين اغتالتهما إسرائيل في وقتٍ سابق. فيما وصفته صحيفة “هآرتس” بأنّه قائد الجبهة الجنوبية. ووفق وزارة الخارجية الأمريكية، فإن علي كركي يُعد أحد كبار قادة مجلس الجهاد في حزب الله، وكان يقود القيادة الجنوبية ومسؤولاً عن العمليات العسكريّة في جنوبي لبنان.
وفيما نقلت وكالة رويترز عن مصدر أمنيّ أنّ مصير القيادي علي كركي، “غير معروف”. أكّد حزب الله نجاة “كركي” من الغارة الجويّة وأنّه انتقل إلى “مكان آمن”.
انتقال إسرائيل من قصف الهرمل حيث العمق الاستراتيجيّ لحزب الله إلى بيروت حيث تتمركز قياداته، يشكّل تحولاً خطيراً في مسار الحرب. وإذا صحّ استهداف إسرائيل لكركي فهو تأكيد لسعيها إلى تصفية الجيلين الأول والثاني من قادة الحزب، وانتقال القيادة إلى الجيل الثالث.
استهدفت غارة جويّة إسرائيليّة الجمعة 15/9/2024، الضاحية الجنوبيّة لبيروت وتسببت بمقتل 45 شخصاً بينهم أطفال ونساء، والقيادي البارز في حزب الله إبراهيم عقيل، وأُصيب 68 شخصاً. والسبت نعى “حزب الله”، 16 عنصراً له بينهم مسؤول العمليات في الحزب إبراهيم عقيل، وقياديّاً آخر هو أحمد محمود وهبي الذي قاد العمليات العسكريّة لقوة “الرضوان”.
وأكّد رئيس أركان الجيش الإسرائيليّ هرتسي هاليفي، الأحد 22/9/2024، أنّ القضاء على إبراهيم عقيل وقادة وحدة “الرضوان” ضربة مهمة جداً لـ”حزب الله” هزت المنظمة بأكملها. وأوضح هاليفي أن “هؤلاء القادة خططوا لاحتلال الجليل، وخططوا لكيفية تنفيذ الهجوم التالي”، وأضاف: “لقد سبقناهم بفضل القدرات الجيدة جداً للجيش الإسرائيليّ في مجال الاستخبارات والهجوم. هذه رسالة واضحة إلى منظمة حزب الله ورسالة إلى الشرق الأوسط برمته”. وشدد على أنّ “هناك إمكانيات كثيرة لم يتم تفعيلها بعد” وأكد أنّ “إسرائيل تعمل على جبهات متعددة في غزة والشمال واليمن والعراق وإيران”.
تحذير اللبنانيين
وقال موقع “النشرة” اللبنانيّ الاثنين، إنّ مكتب وزير الإعلام في حكومة تصريف الأعمال زياد المكاري تلقى اتصالاً، دعا خلاله المجيب الآليّ إلى إخلاء المبنى. وجاء ذلك بالتزامن مع موجة كبيرة من الرسائل التحذيريّة أطلقتها إسرائيل عبر الهواتف المحمولة والثابتة.
قال المكاري في بيان “في إطار الحرب النفسيّة التي يعتمدها العدو الإسرائيليّ، تلقى عدد كبير من المواطنين في بيروت والمناطق رسائل هاتفية عشوائية موحدة عبر الشبكة الأرضيّة، تدعو المجيب إلى إخلاء مكان وجوده”، مشيراً إلى تلقيه إحدى تلك الرسائل.
وقال مكتب وزير الثقافة اللبنانيّ، محمد وسام المرتضى، إنه “تلقى اتصالاً تحذيريّاً من شخص يتكلم العربيّة الفصحى بلكنة غريبة، بوجوب مغادرة المكتب فوراً لأنّه مستهدف”، حسب الوكالة الوطنية للإعلام.
ووجّه الجيش الإسرائيليّ يوم الاثنين تحذيراً إلى سكان جنوب لبنان، داعياً إياهم للابتعاد عن أيّ مبنى يستخدمه “حزب الله” وعن عناصر الحزب. وقال بيان الجيش الإسرائيليّ: “تحذير عاجل إلى سكان القرى في لبنان: إذا كنتم تتواجدون داخل أو بجوار مبنى يستخدمه حزب الله لتخزين أسلحة أو وسائل قتاليّة عليكم إخلاء هذا المبنى والابتعاد عنه فوراً”، وشدد على أنّ “كل من يتواجد بالقرب من عناصر حزب الله أو أسلحته يعرّض نفسه للخطر”.
ووصلت رسائل إلى هواتف اللبنانيين نصها كما يلي: “إذا أنت متواجد بمبنى به سلاح لحزب الله، ابتعد عن القرية حتى إشعار آخر”.
رد بالصواريخ
وردّ حزب الله على استهداف الضاحية الجنوبيّة، برشقات صاروخيّة استهدفت رقعة واسعة من الجولان إلى حيفا وصولاً إلى مرج بن عامر. ودوّت صفارات الإنذار في بلدات بمنطقة تل أبيب الكبرى وقرب مطار بن غوريون، ورُصد سقوط صواريخ في مواقع بالضفة الغربيّة، ووفقاً لصحيفة تايمز أوف إسرائيل، رُصد نحو 200 صاروخ أُطلقت من لبنان على إسرائيل.
وذكرت صحيفة يديعوت أحرونوت أنّ انفجارات دوّت في مدينة حيفا وأُطلِقت صفارات الإنذار جنوبي المدينة، وكذلك في عكا والكرمل والجليل الأوسط عقب إطلاق رشقة صاروخيّة كبيرة من لبنان. وسبق ذلك إطلاق رشقة صاروخيّة كبيرة من جنوب لبنان باتجاه الجليل.
وأعلن حزب الله فجر الأحد 22/9/2024 أنّه قصف قاعدة ومطار رامات دافيد والمقر الاحتياطي للفيلق الشمالي وقاعدة تمركز احتياط فرقة الجليل في قاعدة عميعاد، كما قصف مجمعات الصناعات العسكريّة لشركة رافائيل في منطقة زفولون شمال مدينة حيفا.
واُستهدفت قاعدة “رامات ديفيد” الجوية الإسرائيليّة بعشرات الصواريخ من طراز “فادي 1″ و”فادي 2”. ويشار إلى أنّ قاعدة “رامات ديفيد” الجويّة تحوي مطاراً عسكريّاً، وهي أحد أهم ثلاث قواعد جويّة إسرائيليّة، وتقع جنوب شرق مدينة حيفا في سهل مرج ابن عامر، وكان ذلك هجوم “حزب الله” الأبعد مدىً نحو إسرائيل منذ بدء المواجهات.
هجوم “البيجر” الدموي
تصاعدت الحرب بين حزب الله وإسرائيل عقب تفجيرات أجهزة اتصالات في أنحاء لبنان الثلاثاء 17/9/2024، وكذلك الأربعاء، وتسببت بمقتل 37 شخصاً وإصابة أكثر من 3250.
خلصت السلطات اللبنانية إلى أنّ الأجهزة تم تفجيرها بواسطة “رسائل إلكترونية” أُرسلت إليها، وفقاً لرسالة البعثة اللبنانيّة إلى الأمم المتحدة، ونقلت صحيفة نيويورك تايمز عن مسؤولين أمريكيين أنّ أجهزة الإرسال تلقت رسائل بدت أنّها آتية من قيادة حزب الله قبل التفجير. وذكرت الصحيفة أنّ الرسائل بدت وكأنّها قد قامت بتفعيل الأجهزة.
أشارت تكهنات مبكرة إلى أنّ أجهزة “البيجر” قد تكون تعرضت لهجوم قرصنة معقد تسبب بانفجارها، ولكن الخبراء استبعدوا هذه النظرية بسرعة، فإحداث هذا الحجم من الضرر، وفقاً للخبراء يُحتمل أن تكون الأجهزة قد جُهزت بالمتفجرات قبل حيازتها من قبل حزب الله.
أظهرت صور بقايا أجهزة البيجر طراز AR-924 المكسورة شعار شركة إلكترونيات صغيرة تايوانيّة تُدعى غولد أبولو، لكنّ مؤسس الشركة، شو تشينغ كوانغ، نفى علاقة شركته بالعملية، وقال للصحفيين: “انظروا إلى الصور الآتية من لبنان. لا توجد أيّ علامة تقول إنّها صنعت في تايوان، نحن لم نصنع تلك الأجهزة!”. وأشار بدلاً من ذلك إلى شركة مجريّة تدعى بي إيه سي كونسالتينغ.
وقال المسؤولون في المجر إنّ الشركة تم تأسيسها عام 2022، وهي مجرد “وسيط تجاري دون موقع تصنيع أو عمليات” في البلاد، وذكر موقع بي إيه سي على الإنترنت أنّ شخصاً واحداً يشغل منصب المدير التنفيذي والمؤسس وهي كريستيانا بارسوني – أرسيديوكونو، والتي قالت لموقع أن بي سي نيوز: “أنا لا أصنّع أجهزة البيجر. أنا فقط الوسيط”.
أفاد الموقع المجريّ تيليكس أنّ الشركة الحقيقية التي زوّدت حزب الله بأجهزة “البيجر” اسمها “نورتا غلوبال Norta Global، ومقرها العاصمة البلغاريّة صوفيا.
ذكرت صحيفة نيويورك تايمز أنّ الشركة كانت واجهة للاستخبارات الإسرائيليّة، وقالت الصحيفة، استناداً لثلاثة مسؤولين إسرائيليّين، إنّه تم إنشاء شركتين وهميتين أخريين لإخفاء هويات الأشخاص الذين كانوا بالفعل ينتجون أجهزة البيجر: ضباط استخبارات إسرائيليّون.
الأجهزة التي انفجرت في الموجة الثانية كانت من طراز IC-V82 وتنتجها الشركة اليابانية آيكوم. ووفقاً لوكالة رويترز، اشترى حزب الله تلك الأجهزة قبل خمسة أشهر، وقال مسؤول مبيعات في الفرع الأمريكيّ لشركة آيكوم لوكالة أسوشيتد برس إنّ أجهزة الراديو التي انفجرت في لبنان بدت وكأنّها منتجات مقلدة لم تصنعها الشركة، ومن السهل العثور على نسخ مزيفة منها عبر الإنترنت.
وقالت شركة آيكوم في بيان إنّها توقفت عن تصنيع وبيع هذا الطراز منذ نحو عقد من الزمن، في تشرين الأول 2014، وأنّها أوقفت أيضاً إنتاج البطاريات اللازمة لتشغيله، وأضافت الشركة أنّها لا تستعين بمصادر خارجيّة للتصنيع في الخارج، وأنّ جميع أجهزتها اللاسلكية تُصنع في مصنع في غرب اليابان.
ووفقاً لوكالة الأنباء اليابانية كيودو، أشار مدير شركة آيكوم، يوشيكي إينومويو، إلى أن الصور التي تُظهِر الأضرار حول مقصورة البطارية في أجهزة اللاسلكي المنفجرة تشير إلى أنّها قد تكون قد عُدّلت لتحتوي على متفجرات.
النظرية المتداولة أنّ إسرائيل لم تكن تنوي تنفيذ خطة تفجير أجهزة الاتصال بهذا التوقيت، ولكنها اضطرت إذ خشيت كشف الخطة، ووفقاً لموقع أكسيوس الأمريكي، كانت الخطة الأصلية أن يكون هجوم أجهزة الإرسال هو الطلقة الأولى في حربٍ شاملة كوسيلة لمحاولة إضعاف مقاتلي حزب الله، وبعدما علمت إسرائيل بأن حزب الله بدأ يشك، اختارت تنفيذ الهجوم مبكراً.