ضجّت وسائل الإعلام ووسائل التواصل الافتراضي بتصريحات وزير الخارجية الروسي (لافروف)، وتصريحات الحكومة التركية، وكلمة رئيس حكومة دمشق بشار الأسد أمام مجلس الشعب حول التقارب المحتمل بين تركيا وسوريا؛ والذي أبدى مرونة وخفّف من لهجته السابقة حول شروط لقائه مع رئيس دولة الاحتلال التركي أردوغان (الانسحاب من الأراضي السوريّة التي تحتلّها تركيا خاصةً في إدلب وعفرين في شمال غربي سوريا والتي تمت بضوء أخضر روسي، والانسحاب من شمال وشرق سوريا خاصةً من سري كانيه وتل أبيض/ كري سبي والتي تمت بضوء أخضر أمريكي زمن الرئيس ترامب)، لقد قال بشار الأسد عن شروطه أنّها “متطلّبات” وليست شروطًا، أمّا لافروف الذي بدا ناصحاً للإدارة الذاتية، ويذرف دموع التماسيح من مغبّة تكرار “تجربة أفغانستان” بالانسحاب الأمريكي المفاجئ من قواعدها في شمال وشرق سوريا – كما حصل مع الأفغان- ويتابع لافروف نصيحته للإدارة الذاتية للتفاهم مع دمشق؛ كون المشكلة سوريّة وداخلية، مع العلم أنّ روسيا موجودة في غرب سوريا في حميميم وفي دمشق وطرطوس مع إيران، ولديهما اجتماعات أستانا العديدة ولقاءات سوتشي الثلاثية والرباعية، مرة مع وزراء خارجية كل من تركيا وروسيا وإيران وحكومة دمشق، ومرة على مستوى أنظمة استخبارات الدول المذكورة؛ فلكل طرف مطامعه وأهدافه وأجنداته. وقد تفاهمت الأطراف المذكورة في اللقاءات السابقة الذكر، لكنّها تحوّلت إلى سراب؛ كون الأزمة السوريّة معقّدة الأطراف والجوانب إقليمياً ودولياً وداخلياً، ويبدو أنّ الضغوط الروسية هي التي دفعت بشار الأسد ليُظهِر المرونة في احتمالية لقاء الرئيس أردوغان، بعد أن يُنجز لقاء رباعي وتفاهم بين الأطراف الأربعة، على مستوى وزراء خارجية كل من روسيا وإيران وتركيا وحكومة دمشق، ومن المتوقّع أن يحدث ذلك في نهاية الشهر الحالي (أيلول) من عام 2024 م، وللسعي الروسي في هذه الوساطة والتقارب أسبابه؛ حيث الضيق الذي تعانيه من الحرب الأوكرانية، وتقدّم الجيش الأوكراني في الأراضي الروسيّة في إقليم كورسك، ولذلك تضغط روسيا على الولايات المتحدة الأمريكية وقواعدها في مناطق الإدارة الذاتية، خاصةً أنّها – روسيا – تستغلُّ انشغال أمريكا بحرب غزة وإرسال أساطيلها وقوّتها العسكرية إلى الشرق الأوسط دعماً لإسرائيل التي تنتظر الردّ الإيراني (الذي لم يحدث حتى الآن)، تريد إسرائيل تحييد أذرع إيران في المنطقة، وتأمين أمنها القومي مع الدول المجاورة، كما تستغلّ روسيا انشغال أمريكا بالانتخابات الأمريكية الجارية حتى نهاية العام الحالي بين كل من الرئيس السابق دونالد ترامب (عن الحزب الجمهوري) و(عن الحزب الديمقراطي) كمالا هاريس (نائبة الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن) ولكلّ منهما مواقف مختلفة عن الآخر فيما يخصّ الشرق الأوسط ودوله من إسرائيل وتركيا وإيران وسوريا والخليج ومجلس التعاون الخليجي، ومن المرجّح أنّ هذا المسعى الروسي لتحقيق هذا التقارب إنّما بضوء أخضر من إيران، التي استثمرت في سوريا بكل ما أوتيت من قوة، خاصةً في دمشق وفي الأماكن الشيعية المقدّسة وفي القواعد العسكرية ومخازن السلاح وتأمين الطريق البرّي من العراق إلى البوكمال السورية ودير الزور والبادية إلى حمص ولبنان بدعم حزب الله، والخروج من حرب غزة بتسوية تحقّق مصالحها، في فتح الملف النووي الإيراني واستكماله مع أمريكا ودول الاتحاد الأوروبي وضمن هيمنتها الإقليمية في سوريا والعراق والخليج والبحر الأحمر، كما أنّ إيران ترغب في رفع العقوبات الأمريكية المفروضة عليها، وإعادة الأرصدة المالية المحتجزة، كما حدث في فترة أوباما.
والمرجّح أيضاً أنّ تركيا تتفهّم المصالح الإيرانية وتدرك الأجندات الإيرانية جيّداً، لذا؛ فقد تفاهمت مع روسيا حول ذلك، وسوف تنسحب من الشمال السوري ولكن على مراحل، وهذه المراحل مرهونة بتحقيق أهدافها، ومنها: القضاء على قوات سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية (وهي رغبة رباعية مشتركة مع كل من حكومة دمشق وإيران وحتى روسيا)، وتحقيق مزاعم تتعلّق بأمنها القومي في حدودها الجنوبية مع سوريا والعراق، وقد سبق لتركيا أن عقدت مع العراق تفاهمات تتعلّق بالمياه والنفط مقابل مشاركة الحكومة العراقية وإقليم كردستان والحزب الديمقراطي الكردستاني في محاربة حركة التحرّر الكردستانية، وقد تم ذلك بين أردوغان ورئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، ويرغب أردوغان أن يحقّق ذات الهدف في سوريا مع حكومة دمشق وبمباركة روسية وإيرانية.
والجدير بالذكر حول أهداف تركيا أنّها ترغب بضم كل الشمال السوري (بما فيه مدينة حلب وشرق الفرات والموصل وكركوك) وفق الميثاق الملّي بعد تشكيل الدولة التركية زمن كمال أتاتورك، والمتوقّع أنّ تركيا تسعى، من خلال التقارب مع حكومة دمشق وبتفاهم إيراني وروسي، لإحياء اتفاقية “أضنة” التي وقّعت بين الجانب التركي والسوري عام 1998م والتي تسمح للقوات التركية بالتوغّل في الأراضي السورية مسافة 5كم، وهذا التعديل، الذي يتم بمساعي روسية، يسمح لتركيا بالتوغّل داخل الأراضي السورية لمسافة 15كم أو أكثر.
ورغم التهديدات التركية لمرتزقتها بالتضييق والترحيل، خاصة تلك التي لا تنسجم مع حكومة دمشق وترفض التطبيع، إلّا أنّها تعاني أيضًا التمزّق والخلافات ضمن ما يسمّى بالجيش الوطني الذي تحوّل إلى ورقة مرتزقة بيد دولة الاحتلال التركي، يحقّق بهم أجنداتها في محاربة حركة التحرّر الكردستانية، ويرحّلون إلى ليبيا وأفريقيا وغيرها لتحقيق الأجندات التركية، وخلافات المجموعات المرتزقة الموالية عبارة عن تهم متبادلة حول النهب والتخريب في عفرين وتل أبيض/ كري سبي، وسري كانيه، كخلاف المجموعات المرتزقة التابعة للجولاني وأحرار الشرقية وما يسمى مرتزقة السلطان مراد وغيرها مع رئيس الحكومة المؤقتة في الأراضي المحتلة، وهذه أيضاً تعدّ من العقبات التي تعترض التقارب السوري – التركي، وكذلك فمن العقبات المزمنة التي تعاني منها تركيا هي أزمتها الاقتصادية؛ فهي تعاني من التضخّم وتدهور الليرة التركية أمام الدولار، وأزمة البطالة، وأزمة اللاجئين السوريين الذين يفوق عددهم في تركيا ثلاثة ملايين، كل ذلك يدفع بتركيا إلى التفاهم مع بشار الأسد لفتح جميع المعابر الشمالية وتنشيط التجارة إلى البلاد العربية والخليج لإنعاش اقتصاده ومجابهة المعارضة في الداخل التركي، والعودة إلى سياسة “صفر مشاكل” مع دول الجوار، وتسعى حالياً لإعادة العلاقات مع مصر لنفس الغرض.
وبالعودة إلى حكومة دمشق، فهي مثل أردوغان، تريد التخلّص من العزلة السياسة ومن عقوبات قيصر ومن الوضع الاقتصادي المتدهور، كما تريد الاستفادة من فتح المعابر وإعادة العلاقات بشكلٍ كامل مع الدول العربية، رغم أنّها استعادت مقعدها في جامعة الدول العربية وهي بحاجة ماسة للمال الخليجي لضمان البقاء في السلطة لفترة قادمة أطول، ورغم محاولات بعض الدول الأوروبية إعادة العلاقات الدبلوماسية معها، ولكنّها – حكومة دمشق – رغم ممارسة القمع والإرهاب وسياسة التجويع مع كل الشعوب السورية، لاتزال تقابَل بالرفض والاحتجاجات في الشمال السوري وفي السويداء.
شمال وشرق سوريا والإدارة الذاتية الديمقراطية
الإدارة الذاتية منفتحة على الحوار مع جميع الأطراف، بما فيها روسيا وإيران وحكومة دمشق وحتى تركيا، لقد طرحت الإدارة الذاتية مبادرات لحلّ الأزمة السورية والتشارك مع حكومة دمشق في النفط والاقتصاد والدفاع عن البلاد على أساس من المساواة بين جميع المواطنين والشعوب على أساس من اللامركزية التي سوف تعم كل سوريا، كما أكّدت على وحدة الأراضي السورية، وهذا يدحض كل ادّعاء أو اتّهام للإدارة بالانفصال، والإدارة الذاتية تعلم ما يجري من حولها من تغيّرات دولية وإقليمية، خاصةً من تركيا وإيران وحكومة دمشق، وأغلب التقديرات أنّها تعوّل على قواها الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية وعلى شعوبها المتوافقة على العقد الاجتماعي، وبهذا تسعى لتحقيق الاستقرار والتنمية لصالح كل الشعب السوري، خاصة شعوبها في شمال وشرق سوريا من العرب والكرد والسريان والآشوريين والكلدان والتركمان، ولكلّ الأديان والإثنيات المختلفة على أرضية الأممية وأخوّة الشعوب والمساواة والديمقراطية.
التوقّعات وسيناريو التقارب التركي – السوري
الغالب أنّ هذا التقارب الذي يحصل في الآونة الأخيرة بين كل من سوريا وتركيا وروسيا وإيران، سواء من خلال لقاءات علنية أو سرية استخباراتية أو لقاءات بين الأطراف المذكورة، لن يجدي ولن يُثمر، وفي أحسن الأحول إذا حقّقت نجاحاً فسوف يكون هذا النجاح جزئيًا ومنقوصًا؛ لغياب أطراف فاعلة كقوات سوريا الديمقراطية وهي معنية بالصراع الدائر في المنطقة، كما قدّمت عشرات الألوف من الشهداء ويجب أن تشارك في المفاوضات المتعلّقة بالشأن السوري وتشارك في اللجنة الدستورية أيضًا، وكذلك لغياب الولايات المتحدة الأمريكية كطرف أساسي فاعل في منجز أو أي تقارب، كما أنّ أجندات التقارب التركي – السوري قبل الحرب في غزة لن تكون كما بعده في قادم الأيام، والأمر ذاته ينطبق على الحرب الدائرة في أوكرانيا حاليًا، والأمر الآخر الذي يجب ألّا يغيب عنّا في الأشهر الأخيرة من السنة هو أنّ نجاح الرئيس ترامب لن يكون كما نجاح كمالا هاريس؛ فمواقفهما مختلفة من أطراف الصراع في الشرق الأوسط.