يُعدُّ المسار التصالحيّ بين أنقرة ودمشق والذي ترعاه موسكو أكثر ملفات المرحلة سخونةً، ولا يُتوقعُ من هذا المسعى التوصّلُ لحلٍّ شاملٍ للأزمة السوريّة، وفي انعكاساته المباشرة انقسمت المعارضة السوريّة بين مؤيد ومعارض اعتبره جرسَ الإنذارِ لقربِ تخلّي أنقرة، إذ تتخوّف أنّ يكون فتح معبر الزندين بريف حلب الشرقي أولى الخطوات، التي قد تؤدي مستقبلاً إلى مراكز التسوية، وفي تأكيد أنّ مسار التصالح لا يضمن السلامَ كثف جيش الاحتلال وتيرة استهدافه لعدة مناطق بينها منطقة الشهباء.
قصف للدعاية
مساء السبت 7/9/2024، تعرض مرتزقة “القوة المشتركة” وهو تحالفُ مرتزقة “سليمان شاه والحمزات” لخسارةٍ كبيرةٍ، وقُتل خمسةُ عناصر منهم، وهؤلاء لم يُقتلوا عبر القصف، بل في اشتباكاتٍ مباشرة، بمعنى أنّ محاولة التسلل التي وقعت كانت ناجحة في هدفها، ونعى المرتزقة قتلاهم في بيانٍ رسميّ.
كان البيانُ إنشائيّاً للغايةِ لذر الرماد في العيون، وزعموا أنّه “تم التصدي لعملية التسلل”! ووصف ما حدث بأنّه محاولة تسلل غادرة، إلا أنّ الحادثَ لم يكن محاولة، بل تسلّلاً فعليّاً، وإلا لِما قُتل خمسة مرتزقة، والقتلى لا يتصدون! ولكن ليس لدى المرتزق “محمد جاسم/ أبو عمشة” صاحب الاستثمارات الضخمة في تركيا وصديقُ “يوسف ضياء أرباجيك” القياديّ في الذئاب الرمادية غير هذا ليقوله، والقضية على الشكل التالي: ينحدر القتلى من مناطقَ سوريّةٍ مختلفةٍ، وقد جيء بهم إلى عفرين ضمن تفاهمات روسيّة ــ تركيّة، ولا أحد يجرؤ أن يطرح السؤالَ: لماذا يُقتلون في عفرين، وهل كانت عفرين مطلب السوريين عام 2011؟
تأتي أهمية عملية التسلل الناجحة لأنّها أفشلت مسعى إظهار مرتزقة “القوة المشتركة” على أنّها القوة الضاربة الأكثر تنظيماً وقوة بصورةٍ مبالغة فيها عبر مقاطع مصوّرة لتدريبات عسكريّة، مقابل تقزيم شأن باقي مجموعات المرتزقة، وأنّها الأكثر عرضة للخسائر في خطوط التماس.
بعد عملية التسلل نشرت مرتزقة “القوة المشتركة” مقاطع مصوّرة لعمليات قصف بقذائف الهاون وصواريخ غير موجهة، وقالت إنّها تنتقم لقتلاها، ومعلوم أنّ القصف هو أيسر أشكال العمل العسكريّ واستخدام القذائف غير الموجهة مُحرم بالقانون الدوليّ عندما تستخدم بالقصف على المناطق السكنية المأهولة، لأنّ نسبة الخطأ فيها كبيرة واحتمال وقوع ضحايا من المدنيين كبير وكذلك تسبب الدمار لمواقع غير عسكريّة.
ما تم ليس عملاً عسكريّاً بالمعنى الدقيق للكلمة. بل محاولة ترميم السمعة التي تم صنعها بالتضخيم والتهويل، وفي مقطع يقول مسلحٌ “يضع على صدره العلمَ التركيّ”: إنّ القصفَ استهدف مواقع حزب العمال الكردستانيّ، أو “قسد” وهو ما يناقضُ الواقعَ لعدم وجود شيء من هذا القبيل، فالمنطقة تخضعُ لتفاهمٍ روسيّ تركيّ إيرانيّ سوريّ، ولكن هذا أسلوبُ الإعلامِ التركيّ، ويُظهرُ المقطعُ استهدافَ بيوتٍ في قريةٍ مهجورةٍ.
ومعلوم أنّ قوات تحرير عفرين التي نفذت العملية ومن وقتٍ لآخر تهاجم مواقع المرتزقة، لا مقرات ولا ثكنات لها، وهي مجموعاتٌ تقومُ بعملياتٍ عسكريّة مُباغتة وسريعة بأسلوب الكر والفر، ولا تهدفُ للسيطرةِ على المواقع، بل فقط إلحاق الخسائر والانسحاب السريع، وبعبارة أخرى هي أقرب لوحداتِ العملِ الفدائيّ.
شهداء ومصابون من الأهالي
نشر مرتزقة “القوة المشتركة” الاثنين، مقطعاً مصوّراً، لاستهداف منزل، ويقول المتحدث: “القوة المشتركة تدكُّ المعاقل”. والمعقل في اللغة يعني الحصن المنيع، فيما المشهد يُظهِر استهداف منازل في قرية تنب بناحية شران، وبكلِّ الأحوال كان نشر هذا المقطع ضروريّاً لترميمِ السمعة.
أسفر القصف عن إصابة ثلاثة أشخاص هم الطفلان أحمد فيصل جنيد (ست سنوات) وشقيقته زينب (أربع سنوات) والمسنة فاتن فيصل شيخ حمدو (60 سنة)، ووسع جيش الاحتلال ومرتزقته نطاق القصف وطال بلدة دير جمال في منطقة الشهباء، ما أدى لإصابة المواطن محمد صادق عمر (30 سنة) من أهالي كفر ناصح، والذي استشهد لاحقاً في اليوم نفسه.
ويوم السبت استشهد المواطن خالد محمد محمد من أهالي ناحية بلبل والمقيم في منطقة الشهباء باستهداف الجيـش التركي لناحية شيراوا بعشرات القـذائف المدفعيّة.
وكان الجيش التركيّ قد استهدف مساء الخميس 5/9/2024، ما بين الساعة 6 – 7 بلدة تل رفعت بمنطقة الشهباء بطلقات دوشكا المتفجرة من مواقعها بريف إعزاز المحتلة، ما أسفر عن إصابة ثلاث مواطنات (امرأتان وفتاة قاصر) والمصابات هن: زينب علي موسى (55 سنة). ونورا مامد حمدوش (16 سنة) من قرية كفرجنة ــ ناحية شران. وحورية محمد وقفي (41 سنة) من قرية قسطل مقداد – ناحية بلبل.
ورقة عمل تركيّة جديدة بلا ضمانات
كشف السفير السوريّ لدى تركيا نضال قبلان، السبت، إن أنقرة قدمت ورقة عمل جديدة مُعدلة إلى روسيا تماشياً مع مطالب دمشق للانسحاب من الأراضي السوريّة. وذكر قبلان، على صفحته الرسمية على “فيسبوك” أنّ أردوغان “قدّم ورقة عمل جديدة إلى روسيا، تتضمن الالتزام بالانسحاب الكامل للقوات التركية من سوريا وفق جدول زمني محدد مع دمشق”.
الورقة التركية الجديدة تنص على الانسحاب فور ضمان القوات الروسيّة والسوريّة وإيران للحدود بين البلدين وانتشارها على طول الحدود السورية – التركية. وشهدت الورقة تعديل ستة بنود تماشياً مع مطالب دمشق، ومنها تولي إيران وروسيا الإشراف على تحقيق بنود الاتفاق وأهمها الانسحاب من الأراضي السوريّة، كما تعهدت تركيا بفتح جميع المعابر الرسمية خلال خمسة أشهر.
قالت قناة “الميادين” إنه لا يوجد أي مؤشر يستدعي عقد لقاء على المستوى الوزاري أو الرئاسي بين أنقرة ودمشق، مشيرةً إلى غياب أي ضمانات بشأن استعداد تركيا بحث انسحاب قواتها من شمال سوريا.
ونقلت القناة عن مصادر سوريّة، وصفتها بأنّها “موثوقة” دون تسميتها، تأكيدها “غياب أي تطمينات أو ضمانات تركيّة، حتى اللحظة، بشأن إمكانية استعداد تركيا لمناقشة سحب قواتها من شمال سوريا”، مضيفةً أنّه “لا جديد في تصريحات وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، بشأن هذه المسألة”.
وأشارت المصادر إلى “غياب أي مؤشر يستدعي عقد أي لقاء على مستوى وزاري أو رئاسي بين الجانبين التركي والنظام السوري في وقتٍ قريب”.
وذكرت مصادر “الميادين” إن “المبادئ التي أعلنتها دمشق لاستعادة العلاقات مع تركيا ما تزال قائمة، وتشمل مرجعية قانونية دولية “، مشددةً على أن “أحد هذه المبادئ هو الإقرار بالانسحاب من الأراضي السوريّة، على أن يتم التفاهم لاحقاً حول كيفية حدوثه”.
وكان وزير الخارجية الروسيّ قد أكد في وقتٍ سابق وجود خطط لعقد اجتماع في المستقبل القريب بين أنقرة ودمشق بهدف تحريك عجلة التطبيع بين الجانبين. وفي تصريحات نقلتها وسائل إعلام روسيّة، قال لافروف إن روسيا “تمكنت بشق الأنفس، العام الماضي، من عقد مباحثات بين أنقرة ودمشق”، مشيراً إلى أن تلك المحادثات كان الهدف منها “بحث شروط تُسهم في الوصول إلى تطبيع العلاقات بين الجانبين”.
وأكد وزير الخارجية الروسي أن “المباحثات كانت مفيدة رغم إننا لم نتمكن من الاتفاق على المضي قُدماً، حيث تعتقد دمشق أن الاستمرار في عملية التطبيع يتطلب تحديد إجراءات انسحاب القوات التركيّة من سوريا، أما الأتراك فهم مستعدون لذلك، ولكن لم يتم الاتفاق على معايير محددة حتى الآن”.
سِجال عنوانه أبو الزندين
استدعتِ السلطات التركيّة ممثلي المعارضة السياسيّة والحكومة المؤقتة والعشائر والمرتزقة العسكريّة إلى اجتماع عُقد الثلاثاء 3/9/2024 في مطار “عينتاب”، حضره ممثلون عن الخارجية والاستخبارات التركيّة، وذلك في مسعى لاحتواء الحراكِ الرافض لفتح معبر أبو الزندين.
وبرزت في الاجتماع تناقضات عميقة في صفوف المعارضة، وانقسموا ما بين مؤيد ومعارض، لكن لم يجرؤ أي طرف أن يُصرح بموقف الرفض المباشر، فانزلقوا إلى سجال عقيمٍ وتبادل الاتهامات، من جهة المجموعات المغضوب عليها وهي “الشامية والشرقيّة” والتي سبق أن قاتلتها القوة المشتركة (الحمزات والعمشات)، ومن جهة ثانية الحكومة المؤقتة ممثلة بالمدعو “عبد الرحمن مصطفى”. واتهم مرتزقة “الشامية والشرقية” الحكومة المؤقتة بالتقصير وعدم القيام بأيّ واجبٍ وطالبتها بالنزول إلى الداخل، وقالت “الشامية” للحكومة: “أنتم لا تمثلوننا” مطالبةً برحيلها.
المدعو “عبد الرحمن مصطفى” المُحتقن سابقاً من سلوك مرتزقة “الشامية” بسبب دعم اعتصام الكرامة في إعزاز والمطالبة بإسقاطه، كان قد حضر للاجتماع، فطرح ملف الفساد وقضية فقدان مبلغ 17 مليون من صندوق “الشامية” الاحتياطيّ. واتهم “الشاميّة والشرقية” بالمؤامرة والانقلاب ضده. وحمّل “الشامية المسؤولية” الأمنيّة عن عدة حوادث سابقة منها اقتحام مقر الائتلاف في مدينة إعزاز، واعتراض موكب رئيس الاستخبارات التركيّة “إبراهيم كالن” في 17/3/2024، في دوار سجو، وحرق السيارات الشاحنة التركيّة وكذلك حرق العلم التركيّ. وكان واضحاً إنّ “مصطفى” أراد تحريض الجانب التركيّ بالتركيز على الإساءةِ إلى الرموزِ التركيّة!
خلال الاجتماع وبحضور المسؤولين الأتراك تقدّم ثلاثة سياسيين باستقالاتهم ووضعوها على الطاولة، وهم: هادي البحرة رئيس الائتلاف وبدر جاموس رئيس هيئة التفاوض وجهاد مرعي رئيس مجلس القبائل والعشائر. وهنا قال عبد الرحمن مصطفى إنّه لن يستقيل مهما كلف الثمن، ولو أنّه تقدّم باستقالته سيفهم الحضور أنّ دفعاً تركيّاً هو الذي دعاه لذلك، وسيتقدم الجميع باستقالاتهم.
انتهى الاجتماع وأصدرت الحكومة المؤقتة بياناً إنشائياً كان مُعدّاً مُسبقاً بتعليمات مُسبقة أشار إلى الضرورة الحيوية والإنسانيّة والاقتصاديّة لمعبر أبو الزندين. فيما أصدرت “الشامية” بياناً تضمن تجميد التعاون مع حكومة المدعو “عبد الرحمن مصطفى” وطالبت الائتلاف بحجب الثقة عنه، وتشكيل حكومة بديلة…
ملفات الفساد كثيرة جداً وتشمل كلَّ من حضر سياسيين وحكومة مؤقتة ومجموعات مرتزقة، وهي معروفة لدى الجميع، ولكن لا أحد يتحدث عنها، ففي المناطق الخاضعة للاحتلال التركيّ المسألة الأكثر أهمية هي الخضوع للأوامر التركيّة وإخضاع الناس… بل تقع كثير من الاشتباكات بين المجموعات المرتزقة بأوامر تركيّة.
غابت الكثير من القضايا عن الاجتماع وفي مقدمتها شعارات الثورة وأهدافها وقضايا اللاجئين ومخيمات النازحين ولم يتم طرحها أبداً، فيما ساد السِجال والتنازع بين المجموعات المرتزقة. وعكس البيان الختاميّ للاجتماع حقيقة واحدة وهي أنّ الأوامر التركيّة صدرت بفتحِ المعبر بأيّ ثمن!!
معبر سياسيّ وشريان اقتصاديّ
أبو الزندين ليس مجرد معبر للانتقال بين منطقتين تختلفان بالقوة المسيطرة، فالانتقال ليس مكانيّ، بل هو انتقالٌ إلى مرحلة جديدة، وهناك العديد من المعابر التي يتم عبرها نقل السلع والبضائع والأفراد وتذهب عوائدها لصالح المجموعة المسيطرة على المعبر، ولكنها كلها محصورة بالإطار الاقتصاديّ والتجاريّ ولا يعوّل عليها سياسيّاً.
يحظى فتح معبر أبو الزندين بمباركة وموافقة دوليّة من قبل ترويكا أستانه (روسيا، تركيا، إيران)، والقرار فيها روسيّ، والتنفيذ تركيّ، وهذا سببُ تحليق الطائرات الروسيّة شرق حلب، والأوامر التركيّة الصارمة بالتضييق على معارضي فتح المعبر. وفتح المعبر له علاقة بالمسار التصالحيّ، وهو مجرد خطوة أوليّة، وتأتي أهميته من كونه مقدمة لفتحِ طرقِ الترانزيت الدوليّة، بينما المعابر الفرعيّة وغير الرسميّة فهي محدودة في وجهاتِ الانتقال والسلع والأفراد وأصحاب المصلحة.
يخشى معارضو المعبر النتائج المُترتبة على فتحه، وأنّه مقدمة إلى مراكز التسوية مستقبلاً، ويعتقدون أنّ وقف المسار التصالحيّ يبدأ من تعطيلِ الخطوة الأولى، وقد كان هذا سبب الاستنفار، والمجموعات المرتزقة الرافضة لفتح المعبر هي المنبوذة بنسبة معينة، وهي التي اشتبكت مع مرتزقة العمشات والحمزات أو السلطان مراد، وبذلك فالمسألة تنطوي على شيءٍ من الفرزِ. وهي مسألة الصراع على البقاء، ومحاولة تحصيل ضمانات، فتعطيل فتح المعبر من شأنه أن يقوّي موقف البعض لفرض الشروط، فإنّ تم فتح المعبر خسروا فرصة فرض الشروط!!!
أردوغان لن يُغامر!
بات المزاجُ الدوليّ إزاء سوريا واضحاً، والتفاوضُ سيكون مع حكومة دمشق وليس عليه، ولا يمكن لأردوغان معارضة المزاجِ الدوليّ، وإزعاج حليفه الروسيّ الذي منحه الضوءَ الأخضر لتنفيذِ العملياتِ العدوانية التركيّة الاحتلاليّة في سوريا، وإنجاز خطة حشر المعارضة في الشمال.
أردوغان يتقن اللعب على خيوطِ السياسة وابتزاز أصحابه ومعارضيه والانقلاب عليهم، وقد أبدى دعمه للمعارضة السوريّة يوم كانت عشرات الدولُ تحضر اجتماعات مؤتمر أصدقاء سوريا، وكانت دول الخليج تموّل بسخاءٍ، ففتح الحدود ليجني مجاناً عوائدَ دعم ِمختلف الدول للمعارضة السوريّة، وقدم صورة للعالم العربيّ والإسلاميّ ليترجمها اقتصاديّاً وسياسيّاً وحتى في الداخل التركيّ لدى الحاضنة المحافظة على شكل أصواتٍ في صناديق الاقتراع…
من المستبعد أن ينفرد أردوغان اليوم بدعم المعارضة وإلى جانبه قطر وحدها، ويدخل في سجال ومواجهة كبيرة مع مراكز القرار، إذ سيكون ذلك مغامرة اقتصاديّة لا تحتملها تركيا في هذه المرحلة، علاوةً على كونها مغامرة سياسيّة مع تراجع شعبيّة أردوغان حتى بين المحافظين، ولذلك وجد أنّ التصالح مع حكومة دمشق أيسر ويجني مكاسبه الاقتصاديّة عبر فتح المعابر… وبالتالي لن يغامر أبداً!!
وفي حادث موازٍ للمسار التصالحيّ أعلنت إدارة معبر باب الهوى شمال سوريا منع عبور أيّ سوريّ لا يحمل جواز صادر عن الهجرة والجوازات التابعة لحكومة دمشق. رغم وجود عشرات الدوائر والمؤسسات التابعة للمعارضة التي تصدر وثائق شخصيّة بدءاً من البطاقات الشخصيّة، وبات الحليف الأقرب لا يعترف بوثائق المعارضة!