سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

الصحافة… المرآة المهشمة للشعوب في الشرق الأوسط

حمزة حرب_

مع تزايد حدة الاستقطاب والهيمنة الدولية واستفحال الأنظمة الاستبدادية والرأسمالية التي تتفنن بالتضييق على مهنة لمنع إيصال الكلمة الحرة إما بالترهيب القائم على الاعتقال والقتل والخطف والتهديد أو الترغيب المستند على ضخ الأموال لحرف بوصلة الشفافية والمصداقية التي تمتاز بها مهنة المتاعب، لذا فإن الواقع الصحفي الكلاسيكي والمعاصر المحلي والعالمي يدفع ثمناً باهظاً على الرغم من الجهود المضنية المستمرة والشجاعة في نقل المعلومة وقول الحقيقة الغائبة عن أنظار الشعوب حول العالم، وهذا الثمن الباهظ ربما يتضاعف في منطقة الشرق الأوسط الذي يصنف على أنه ينفرد بواقع متردي على صعيد حرية الصحافة والإعلام وهو ما يعتبر من أهم المقاييس المُعبّرة عن نسبة الديمقراطية المتدنية فيه.
مهنة المتاعب
“مهنة المتاعب” تسمية لم تأتِ من فراغ على الرغم من إنها تصنف من أرقى المهن لكنها من أخطرها هذه الثنائية المتضادة التي جمعتها مهنة الصحافة في طياتها هي نتاج الصراع الكوني القائم بين الحق والباطل بين النور والظلام بين القمع والحرية لذا نرى في معظم الأحيان يضع الصحفي نفسه عرضة للخطر والمضايقات والاستفزازات وقد يقدّم حياته عربوناً لخبر أو حدث، فحتى إن تعرّض لهذا النصيب السيئ ستنقسم الشريحة المتلقية لهذا الخبر بين من يعتبر الصحفي بطلاً صميدعاً وبين من يعتبره متهوراً متسرعاً، فالآراء ووجهات النّظر تنقسم بقدر الانقسام الفكري والعقائدي وما إلى ذلك، وفي كل الأحوال يتمحور هدف الصحفي في الالتزام المهني والأخلاقي الذي يمليه عليه الاجتهاد في نقل المعلومة وتسليط الضوء على الأحداث البارزة والمفصلية.
مستنداً الى مبادئ مهنية عدة على رأسها تعريف منظمة “مراسلون بلا حدود” لحرية الصحافة بأنها “الإمكانية الفعالة للصحفيين، بشكلٍ فردي وجماعي، لاختيار وإنتاج ونشر المعلومات التي تصب في المصلحة العامة، وذلك في استقلال عن التدخل السياسي والاقتصادي والقانوني والاجتماعي، ودون أي تهديدات ضد سلامتهم الجسدية والعقلية”.
بينما الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل أيقونة الصحفيين ورجل عصره في هذه المهنة وصفها في منطقة الشرق الأوسط بكل تجردٍ بالقول: “مهنة الصحافة تواجه مشكلة أصعب وأعقد، من كل ما تعرَضت له منذ عرفتها بلادنا أواسط القرن التاسع عشر(…) فهي واقعة في أزمة مصداقية (…) فالبيت الصحفي العربي أصابه ما أصاب المدينة السياسية العربية، وتحوَّلت به إلى عشوائية آيلة لسقوط تاريخي مخيف، حتى وإن لاحت على أطراف الخراب ناطحات سحاب تبدو من بعيد وهمًا يرسمه سراب!!”.
ومن هنا نجد في كلام هيكل الكثير من التوصيف المجرد لواقعٍ صحفيٍ مرير مرت ولا زالت تمر به المهنة التي تستند في أبرز معاييرها على المصداقية والشفافية والجرأة في نقل المعلومة ووضعها بين يدي القراء والمستمعين لكن ما يفرض عليها من عوامل ومعوقات خارجية يجردها من معاييرها الهامة والبارزة ويجعلها مهددة على الدوام شكلاً ومضموناً.
الصحفي والإعلامي إسماعيل خضر بين في تصريحاتٍ خاصة لصحيفتنا أن “تصاعد التوترات حول العالم وتغليب المصالح السياسية والاستراتيجية على حرية نقل المعلومة كان له الأثر الكبير في تصاعد العبء الملقى على كاهل مهنة الصحافة وهذا كان جلياً في الحرب الروسية الأوكرانية على سبيل المثال والانقسام العمودي الحاصل بين الشرق والغرب وحرب المعلومات المتضاربة بينهما وسعي كل منهما عبر ماكيناته الإعلامية الى تضليل الرأي العام وتزييف الحقائق وهذا ما ينعكس سلباً على مصداقية نقل المعلومة وعلى حياة الصحافي الساعي الى نقل الحقائق لأنها ستتعارض مع مصالح هذه الدول. فالأنظمة القمعية من جهتها تكاد لا تنفك عن محاولاتها في إسكات صوت الحقيقة وتكسير الأقلام الحرة وفق المعادلة الميكافيلية القائمة على إن الغاية تبرر الوسيلة وفق معطياتٍ قائمة على أنه من أجل فرض الاستقرار يجب التنازل عن الحريات، بينما يبقى العكس هو الصحيح بأنه حين تكون هناك حريات ينعكس ذلك استقرارا، لأن المعلومة الصحيحة ستوضع في أيدي الشعوب، وحينها تصبح هناك معرفة لمواطن الضعف والخلل في أي نظام حاكم لتلعب الصحافة دوراً بارزاً يساعد الأنظمة في محاسبة المقصرين والمتورطين والمتواطئين على حساب أمن واستقرار المجتمعات، وبالتالي تتوافر معايير الديمقراطية وهي مقدمة للتطوير والتنمية والتقييم”.
واقع الصحافة في الشرق الأوسط
قمع الصحفيين في كل دول الشرق الأوسط والدول العربية يحصل بشكل بنيوي، ويتجه نحو التزايد، عوضاً عن التراجع، محققاً أرقاماً قياسية، وهذه حالة باتت تحصل على صعيد عالمي وليس فقط في المنطقة، ولكن في الشرق الأوسط الأرقام أكثر ارتفاعاً والاعتداءات أكثر عنفاً وقسوةً، وهذا يدل على الاستبداد السائد في هذه الدول، في سبيل قمع الصحفيين ومنع وصول المعلومات.
وبهذا السياق نستذكر أن عام 2022 كان الأسوأ على الإطلاق فكادت أن تكون حرية الصحافة وسلامة الصحافيين شبه معدومة حول العالم حيث اتخذت سياسة التضييق مناحٍ أكثر دموية باغتيال الصحفيين واخفاء بعضهم قسراً الى جانب الترهيب والتهديد كسياسة متعبة سابقاً في دول الشرق الأوسط التي تذيلت دول العالم بحرية الصحافة بحسب المؤشرات الأممية المختصة بهذا الشأن.
ففي العام ذاته قُتل نحو 57 صحفياً في مختلف أنحاء العالم و 533 صحفياً وإعلامياً في عداد المحتجزين منهم 78 صحفية الى جانب ما لا يقل عن 65 رهينة و49 صحفياً مفقوداً،  فالأنظمة المستبدة ذات اللون الواحد والتي يحكمها الشخص الواحد والفرد الواحد والقرار الواحد تحاول دفن الأهداف الحقيقية والنبيلة لهذه المهنة وإخماد صوتها أو تكسير أقلامها أو تشويه صورتها بالاعتقال والتصفيات والتنكيل وفي أفضل الأحوال اتباع سياسة التسقيط والتخوين.
الصحفي إسماعيل خضر أضاف في تصريحاته أن: “بلدان الشرق الأوسط توصف بأنها بلدان العالم الثالث لأن هناك أنظمة ديكتاتورية استبدادية أوتوقراطية لا تريد أن يكون لديها صحافة صادقة، لأن هذا النوع من الصحافة ربما يتعارض مع منظومة الحكم ومصالحها، على سبيل المثال في تركيا رأينا ملاحقات عديدة لصحفيين وتوجيه تهم تصل لحد الإرهاب لصحفيين كل ما ارتكبوه انهم نقلوا معلومات شفافة او انهم دعموا تياراتٍ معارضة وهذا يساهم في تراجع مؤشر الديمقراطية في ظل مثل هذه الأنظمة”.
كما تقول معظم التقارير بهذا الشأن أنه منذ سبعينيات القرن الماضي وحتى اليوم الشرق الأوسط لم يحصل فيه أي تحقيق جدي في أي قضية لكشف الفاعلين أو محاسبة المتورطين بانتهاكاتٍ واغتيالات وممارساتٍ لا أخلاقية ارتكبت بحق الصحفيين أثناء تأديتهم عملهم وسعيهم لنقل الحقيقة التي دفعوا حياتهم ومستقبلهم ثمناً لها. ففي سوريا وحدها كجزءٍ من واقعٍ مرير يعاني منه الشرق الأوسط أفادت معظم التوثيقات الحقوقية وعلى رأسها توثيقات المرصد السوري لحقوق الإنسان أنه منذ انطلاق الحراك الشعبي في سوريا قتل حوالي 600 صحفي، فيما أُعتقل العشرات أثناء أداء عملهم المهني والميداني، كما أن معظم هؤلاء الصحفيين لاقوا مصيراً مجهولاً إلى يومنا الحاضر.
لعنتا التمويل ومواقع التواصل الافتراضي
لا يوجد الى يومنا الحاضر فهم لدور الإعلام داخل الأنظمة المستبدة على إنه صانع رأي عام ورقيب لتصحيح المسار بما يصب في صالح المجتمعات لخلق ظروفٍ حياتية أفضل وليس أداة سياسية كما بات ينظر له ويوضع بين خيارين إما إعلام ممول من سياسيين، وبالتالي ينقل صورتهم ويعبر عنهم، أو أنه إعلام رسمي للأنظمة والدول فيقدم لغة بعيدة عن الموضوعية والحيادية والمعلومات الحقيقية، إنما فقط تلميع للنظام الحاكم وهذا ما يعيق الوصول لعتبة الشفافية في نقل المعلومة.
خضر سلط الضوء على أن “الأنظمة الرأسمالية والتحكم في التمويل من خلال ضخ مبالغ طائلة لتشكيل مؤسسات إعلامية عملاقة بهدف الترويج لأفكار وأيديولوجيا تعزز مكانة أنظمة على حساب أخرى ومنها من عمل على تجييش المهنة وإقحامها في حرب المصالح السياسية والاقتصادية وحتى العسكرية وهذا ما تم بناءه على حساب المصداقية والشفافية بكل تأكيد”.
معوقات التمويل والتحكم في الكلمة والقلم ليست هي وحدها من ضاعفت العبء على كاهل الإعلاميين والصحفيين وإنما عولمة الفضاء الرقمي وعدم انتظامه وصل إلى درجة بات يشكل معها أرضا خصبة لانتشار المعلومات الكاذبة والدعاية التي من شأنها تظليل الرأي العام الشعبي
إسماعيل خضر تطرق أيضاً إلى إن “وسائل التواصل الافتراضي هي أشبه بالموس ذو حدين، فمن جهة كانت إيجابية في سرعة نقل المعلومة والتخفيف قدر الإمكان من المخاطر التي قد تطال ناشر المحتوى ووضع العالم كقرية صغيرة بين يدي المتلقي لكن على الجانب السلبي هناك أزمة ثقة وأزمة مصداقية فالتواصل الافتراضي متاح للجميع وبالإمكان نشر معلومات غير موثقة أو فيديوهات مصورة تكون غير مرتبطة بمكان الحدث على سبيل المثال حالات تعذيب في أي بقعة جغرافية يتم نشرها على إنها حاصلة في بقعة أخرى فهذا المصدر يحتاج الى الحذر الشديد للتعامل معه من خلال التأكد من مصداقيته على الرغم من سرعة انتشاره وهذا مطب آخر وقعت فيه مهنة الصحافة”.
لكن حتى ومع اللجوء لوسائل التواصل الافتراضي على الرغم من عيوب المصداقية التي تشوبها من خلال السماح للجميع استخدامها حتى وإن كانت بطرق غير مهنية إلا انها لم تكن بمنأى عن قبضة الأنظمة المستبدة فتفننت بخلق طرق المنع والحجب الإلكتروني الى جانب الملاحقة والمتابعة والقبض على مدوّني أو مستخدمي تكنولوجيا المعلومات والاتصالات أو سجنهم أو احتجازهم لفترة طويلة بسبب محتوى سياسي أو اجتماعي، أو تعرضهم للهجوم الجسدي أو القتل.
ومهما تم اعتبار وسائل التواصل الافتراضي طرفاً في العملية الإعلامية، إلا انها تبقى طرفاً لا يتمتع بالمهنية التي تتمتع بها الوسائل الإعلامية وتفتقد للدقة والموضوعية في نقل الحدث ليصل الحال ببعض مستخدمي التواصل الاجتماعي في تعمد اختلاق الأخبار أو تحريفها حسب المصلحة أو الهوى، لتبقى وسائل الإعلام المهنية مهيمنة على نقل الأخبار والمعلومات الدقيقة، أو الأكثر دقة، وتغطية الأحداث العالمية بنزاهة وموضوعية وهنا يكمن جوهر الصحافة الناجحة.
دور الصحافة في نهضة المجتمعات وديمقراطية الحكم
لن تكون معركة الحريات سهلة، وفق اتجاه الأمور نحو تراجع مؤشر حرية الصحافة حول العالم والذي يعتبر تراجع عملي في مؤشر الديمقراطية لأن المنظومات الحاكمة في دول الشرق الأوسط لا زالت تسير بالذهنية ذاتها إلا أن الثورات الشعبية الفكرية وثورة الوعي والإدراك وضع مفاهيم راسخة قائمة على حكم الشعب نفسه بنفسه وهذا ما عبّد الطريق الى إعلام نابع من إرادة الشعوب الحرة. لذا؛ نرى أن الشعوب حول العالم تدعم الصحافة التي تنقل أخبارًا ومعلومات موثوقة بعيداً عن التعصب والتحيز وهذا التنامي الجماهيري يضع الأنظمة الحاكمة امام ضغوطٍ كبيرة شعبياً ويدفعها للتحول الديمقراطي الذي يستوجب عليها ان تتأقلم مع كيفية الرد بشكل مناسب على انتقادات الصحافة، وفتح مساحة لوسائل الإعلام للتعبير ويمكن أن يترتب على ذلك حلقة إيجابية من العلاقات الحكومية والإعلامية للانتقال بواقع أكثر رقياً وتطوراً. وبهذه الطريقة، تعتبر الحكومات الديمقراطية أن الإعلام عنصر مهم ووسيلة للتواصل مع الشعوب حول برامجها وإجراءاتها وأيضًا كمقياس لقياس مكانتها الجماهيرية.  يمكن ترجمة المفهوم الحقيقي للوصول الى للديمقراطية بأنه التفويض الحقيقي لإعلامي ديمقراطي وأن تلعب الصحافة دور الراعي العام للتواصل بين الشعوب والمجتمعات بما يهيئ مناخاً حراً ديمقراطياً للنقاش العام وطرح الأفكار المتنوعة والمتضاربة أحياناً من خلال الربط بين الأدوار الصحفية والأبعاد الديمقراطية، لذا فإن الضامن الوحيد لإنعاش المجتمعات وخلق الأطر الديمقراطية هو التقييم الصحيح للواقع الصحفي ومساهمته في صناعة الديمقراطية وترسيخها بمفاهيمها المنطقية المبنية على الوطنية.
وبالتالي كل المقاييس التي تجلت شعبياً بعد ما مرت به المنطقة من تخبطات كبيرة تبين إنه لا انتقال ديمقراطي في الحكم، دون حرية الإعلام والصحافة التي تعتبر معياراً أساسياً عند النظر الى مقياس الديمقراطية لأي منظومة حاكمة لذلك ووفق المعطيات على الأرض تبقى الصحافة مرآة الشعوب ومهما حاولت الأنظمة القمعية والذهنيات الدكتاتورية الشوفينية ذات الطابع الواحد واللون الواحد والفكر الواحد تهشيم تلك المرآة ومهما سعت لإخماد صوت الحقيقية وكسر الأقلام الحرة وتشويه الصورة الصادقة التي تحمل مهنة المتاعب على عاتقها إيصالها بكل السبل لتكون نبراساً وشعاعاً ساطعاً في سماء الشعوب الحرة.