عبد الرحمن ربوع_
لا تندلع الثورات بدون ظروف اجتماعية وسياسية تفضي إليها، الثورة ليست سلعة أو كمالية، وليست ترفًا أو تسلية، كما أنها ليست مجانية أو “على البيعة”، إنها وسيلة لتحرير أو بناء وطن، وطن حر كريم ينعم أبناؤه (بُناته) بعيش حر كريم.
تطمح الشعوب الإيرانية منذ عقود للخلاص من النظام الحالي، الذي أسسه الخميني عقب ثورة شعبية استولى عليها مع رفاق له (على شاكلته)، وتحولت إلى ثورة دينية طائفية، أرست لنظام ديني طائفي فئوي إقصائي.
مُذ وعَيْنا ونحن نسمع عن الاحتجاجات الإصلاحية في إيران ضد النظام، ورغم جنوح المعارضة الإيرانية للمشي في طريق النضال السلمي من خلال الانتخابات والتغيير الديمقراطي عبر صناديق الانتخاب؛ إلا أن النظام دائمًا ما حرص على الاحتفاظ بنظامه ومناصبه مهما كانت الوسيلة، على عادة وخطى أسوأ الأنظمة الاستبدادية العسكرية.
ولا زلنا نذكر ليلة 12 حزيران سنة 2009، بعد عشر سنين من النضال الإصلاحي، عقب الإعلان عن فوز محمود أحمدي نجاد بفارق كبير عن منافسيه، رغم كل الشواهد البيّنة على التزوير والتلاعب لتحريف نتيجة الانتخابات، حيث اندلع يومها ربيع إيران الأخضر أو الثورة الخضراء احتجاجاً على فساد واستبداد النظام، وارتكابه السافر لجريمة تزوير إرادة الشعب، وفرض مرشحه الأصولي الشوفيني المتطرف، ضاربًا عرض الحائط بكل المبادئ السياسية والأخلاقية التي يدّعي تبنّيها واحترامها والاحتكام إليها.
لا مطالب فئوية للمجتمع الإيراني يثور أو ينتفض لأجلها، إنها حاجات بديهية فطرية تحوم حول الحرية والكرامة، إرادات ترفض تجيير (تحويل بدون توثيق أو ضمانات) ثروات وقدرات البلد لأجل مشاريع دينية طائفية عابرة للحدود، عفا عليها الزمن وانقضى عصرها منذ قرون.
وعلى مدى خمسة عشر عاماً لم يتوقف الإيرانيون والإيرانيات بكل شرائحهم وإثنياتهم، عن الاحتجاج، شعب بأكمله يبحث عن منفذ نجاة يخرج عبرها إلى الخلاص من نظام جاثم على صدره، كاتم على فمه، باذِلًا بطيب خاطر أرواح الآلاف من أبنائه وبناته.
قبل أيام مرّت ذكرى جينا أميني؛ شهيدة الحرية والكرامة التي أزهِقت روحُها بأيدٍ عنصرية تكفيرية حاقدة مجرمة، رأسُها المُتْرع بالعزة والكرامة رفض الانحناء لحثالات شرطة “اللاأخلاق”، فتلقى من الضرب الوحشي ما تعجز عن احتماله حجارة “جبال ألبرز”.
منذ عام و”جينا أميني” أيقونة حيّة في وجدان نضال الشعوب الإيرانية ضد فساد واستبداد وعنصرية نظام خارج من التاريخ بسند كفالة، أيقونة نضال إنساني لأجل الحرية والكرامة في وجه عصابة حاكمة انتهت صلاحيتها، لا وظيفة لها إلا التنغيص على الشعوب حياتها وإفساد عصر الشعوب الديمقراطية.
لم تكن “جينا أميني” المنحدرة من مدينة سقز بولاية كردستان ناشطة سياسية، ولم يُقبض عليها خلال مظاهرة أو احتجاج، لكنها ابنة عائلة مثقفة عانت ويلات القمع على مدى عقود، ولم تسمح لشرطي مأفون أن يعلق بملاحظة على زيّها وردائها في محطة مترو في طهران، وردّت له الصاع صاعين، فانتقم منها وزملاؤه بالقبض عليها واحتجازها وضربها بوحشية لتكسير رأسها الكردي العنيد!، إنَّ استشهاد “جينا أميني” حرّك وجدان ملايين الإيرانيين غضبًا وثأرًا، وعلى الأخص الكرد باعتبارهم أكثر الشعوب في ايران معاناة من هذا النظام المفتري، ولأن “جينا” ابنتُهم؛ ابنتهم غير المسموح لأحد، كائنًا مَنْ كان، أن يمس منها شعرة أو “يدعس لها على طرف”، كما أثار استشهادُها حفيظة كل حرة وحر في العالم معنيّ بقضية حرية الإنسان والنضال لأجلها.
إن ثورة أذكاها استشهاد جينا أميني، ومَن قبلها ومَن بعدها، تحت التعذيب والاعتداء الوحشي مستمرة بلا هوادة حتى تحقيق أهدافها، لأن من يقوم بها جيلٌ على قدْر كافٍ من الوعي والجرأة والمسؤولية، جيل واعٍ باهتراء النظام وفساده ورجعيته، فضلاً عن كونه نظاماً منبوذاً محلياً وإقليمياً ودولياً.
حاولت السلطات الإيرانية منع إحياء ذكرى استشهاد جينا أميني، التي أصبحت رمزًا للقمع الممنهج الذي يمارسه النظام ضد النساء، من خلال فرض قيود على المعارضين، لطمس المقاومة والتضامن في المجتمع الإيراني عبر زيادة القمع ونشر اليأس باعتقالات واسعة النطاق للحيلولة دون عودة الاحتجاجات التي عادت بعد انتشار هشتاغي #جينا_أميني و #المرأة_الحياة_الحرية، واعتُقل المئات وربما الآلاف، وعمّت الفوضى خصوصاً في كردستان غربي البلاد، ليخرج الأهالي إلى الشوارع مُرددين شعارات مثل “هذا النظام باطل”، “الحرس الثوري قاتل”.
وامتدت الاحتجاجات المناهضة للنظام في مناطق “جيتكر” و”باقري” في طهران، وفي مدن عدة منها مدينة كرج ومدينة سنندج بمحافظة كردستان مُطلقين شعارات “الموت للديكتاتور” و”الموت للحرس الثوري” و”الموت لخامنئي”، واستنفرت أجهزة الأمن مئات الآلاف من عناصرها، فيما يعاني الجيش والحرس الثوري حالة استنفار مزمنة منذ سنين، ووصل بها الحال إلى تنفيذ انتشار واسع بمعدات ثقيلة في المدن الكردية مثل سقز ومريوان وبوكان وسنندج، ولكن إلى متى؟!
إن ثورة أيقونتها الشابة الشهيدة جينا أميني لا يمكن إيقافها لأنها نابعة من بيئة نقية رافضة للتعايش مع نظام سرطاني قمعي ومع أدواته ورموزه، رغم الوحشية والقمع والإعدامات خارج نطاق القانون، وعلى المستولين على الحكم في طهران، وغيرها من دول شرقنا البائس، أن يعوا أنهم في عصرٍ؛ “الحكم” فيه لا يكون إلا على أساس الرضا والقبول من الشعب أولًا وأخيرًا، كما تأتي الكفاءة والاقتدار ضمن الشروط التي لا تخطؤها أذواق وأفهام ومُدْرَكات الشعب في المرشَحين لنيل ثقته وأصواته، ومحال أن يختار الشعب مجرمًا أو مجنونًا أو خائنًا أو زومبيًا خارجًا للتو من القبر.