احتفل العالم بمرور 100 عام على انتهاء الحرب العالمية الأولى في الحادي عشر من شهر تشرين الثاني الجاري، وهي الحرب المشهورة في العالم العربي بحرب السفر برلك، واجتمع في باريس أكثر من 70 رئيس دولة وملكاً، تعزيزاً للحظة وقف تلك الحرب في مثل ذلك اليوم. ففي أواخر أشهر الحرب العالمية الأولى (1914- 1918) امتنع بعض الجنود الألمان، وبعض الجنود الفرنسيين على الجبهة، عن إطلاق النار على بعضهم، وبدأوا يستهزئون بأوامر قادتهم الغارقين بروح الانتقام، والمأخوذين بلعبة الموت، وصاروا ينظمون ألعاب كرة القدم بينهم، ويزورون بعضهم بعضاً على خط النار، فقد سئم الجنود من الحرب والموت، ولم يعودوا آبهين بأوامر القيادة التي تهددهم بالإعدام، لقد فرضوا السلام وأوقفوا الحرب التي ملّوا من نتائجها الكارثية.
فهل يحتذي بهم النظام والفصائل الإرهابية في سوريا ليحذو حذوهم ويوقفون الحرب على الشعب السوري، وينهون مآسي تهجيرهم، هل تتوقف حاضنة النظام عن تبرير القتل والتعذيب، وتكف عن تمجيد استعمال البراميل والكيماوي ضد أبناء بلدها، أم أن أمر هذه الحاضنة لم يعد لها أي وجود، وصار للروس، وللإيرانيين، الذين اعتبروا سوريا، والسوريين، أسرى لهم، وأداة للّعب الدولي بيدهم؟ وهل يتوقف تجار الدين من داعش، والنصرة، ومن والاهم وداعميهم الأردوغانيين وبعض الخليجيين، عن النفخ في سعير هذه الحرب، والكف عن تكفير السوريين، وعن الاستمتاع بتهجيرهم باسم الدين والدين منهم براء؟
لقد حاولت الدولة التركية أو ما سمي آنذاك بالرجل المريض المتحالفة مع الألمان، قطع طريق الهند على البريطانيين، فشنت حرب الترعة، وجندت السوريين واللبنانيين في عام 1915، لكن الجنود غير المدربين وغير المؤهلين هلكوا في الطرقات والصحراء، ولم يصل منهم إلا أعداد قليلة، إلى قناة السويس، والإنكليز كانوا لهم بالمرصاد، وبكامل عتادهم الحربي، وقتلوا من وصل إلى مدى نيران سفنهم في القناة، وقد ضاع عدد كبير من السوريين الذين فروا حتى وصل بعضهم إلى اليمن مشياً على أقدامهم. بعد هذا الفشل تحول تسفير السوريين إلى جبهات متعددة في شمال تركيا، وفي أوروبا الشرقية، وحاربوا في معارك لا يعرفون من هو عدوهم فيها، ولا لماذا يحاربونه، فقد كان الضباط الألمان يقودون القطعات التركية، ويوجهون أرتال الجنود المأخوذين من بيوتهم قسراً، أولئك الجنود الجياع والمتعبون الذين وصل غالبيتهم من مدنهم في سوريا ولبنان مشياً على الأقدام، لا يجدون ما يأكلون أو يشربون إلا ما تيسر من العشب، أو ما يتم نهبه من الأهالي الذين لا حول لهم ولا قوة.
هذه الحرب الكبيرة مزّقت ما تبقى من الدولة التركية، فحينها كانت الإمبراطورية العثمانية قد سقطت، واستولى القوميون الأتراك على إرث الرجل المريض، كما كانت تدعى طوال النصف الأخير من القرن التاسع عشر، وكان من نتائج هذه الحرب الكارثية توقيع معاهدة سايكس بيكو عام 1916 بين الفرنسيين والإنكليز، والتي كانت تنص على اقتسام العالم العربي بينهما، في الوقت نفسه الذي كان فيه الشريف حسين أمير مكة يتغنى بوعود السفير البريطاني في مصر (مكماهون)، وينتظر قيام الدولة العربية الكبرى في المناطق العربية التي كانت بحوزة الدولة العثمانية التي حكمت المنطقة أربعة قرون. ومن نتائج هذه الحرب أيضاً موجات الجوع التي طالت أكثر من مليون ونصف المليون من الناس في بلاد الشام، والهجرة الكبيرة من سوريا ولبنان إلى أمريكا الجنوبية والشمالية، هرباً من الجوع، ومن الظلم، ومن انعدام الأمان. وخسرت سوريا ولبنان الكثير من شبابها في هجرات مأساوية، فقد كانت الرحلة تستغرق أشهراً عديدة، وتصل إلى ستة أشهر للوصول إلى البرازيل، أو الأرجنتين، أو غيرهما من البلدان التي امتلأت بالسوريين، ولا تزال الجاليات السورية واللبنانية فيها ذات أثر لا يستهان به إلى اليوم.
اجتمع رؤساء العالم في باريس للاحتفال بالسلام، حضروا مؤتمرا للسلم العالمي، وكان على رأس المجتمعين الرئيس الفرنسي والمستشارة الألمانية، اللذان كانت دولتاهما متحاربتين طوال النصف الأول من القرن العشرين، وكانتا مسرحاً دموياً للحربين العالميتين. وأجرى الرؤساء والملوك لقاءات ثنائية وثلاثية وجماعية فيما بينهم، ولعلهم باعوا الكثير من الأسلحة لقادة العالم الثالث الذين أتوا يتبخترون، وكأنهم أنصاف آلهة، رغم الفشل الاقتصادي، والسياسي، والاجتماعي في بلدانهم، بينما تجد القادة الأوربيين يتحركون ببساطة، مؤمنين بأنهم عابرون على كراسي السلطة، ولا يقبلون الاستمرار بالقوة، ولا بإجبار شعوبهم على إعادة انتخابهم، بينما الملوك والقادة الديكتاتوريون يقلبون وجوههم ويصطنعون العظمة الزائفة، في جميع بلدان الشرق الأوسط. وفي نهاية الحرب العالمية الأولى احتل الجنود الفرنسيون والبريطانيون والإيطاليون مدينة اسطنبول (1918-1923)، وقبلهم كان الروس يعتبرون إسطنبول مدينة تابعة لهم، لوجود الكنيسة الأرثوذكسية فيها، والآن يأتي سلطان جديد ليفعل ما فعله الفرنسيون والبريطانيون والروس في بلده، ليهدد العراق وسوريا بالاحتلال.
العالم يستنكر الحرب، ولكنه يشاهدها ببرود وهي تحصد السوريين، وقادة العالم يجتمعون من أجل السلام وتثبيته، بينما القتل والتهجير يجري أمام أعينهم في سوريا وعلى أشده، فهل هناك ممن يدعون السلام والحرية بمساعدة السوريين على إرساء السلام في هذا البلد، وعلينا كسوريين أيضاً أن نعمل معاً لوقف حمام الدم السوري المستباح، ومن أجل وقف هذه الحرب الظالمة ضد شعبنا، الذي لسان حاله يقول أين حقوق الإنسان ومجلس الأمن من كل ما يجري في سوريا.