No Result
View All Result
المشاهدات 25
عبد الله رحيل_
ونحن في معرض الحديث عن الفحولة الشعرية في الهجاء، والرد عليه نذكر للفرزدق قولا:
“ولو ترمى بلوم بنى كليب
نجومُ الليل ما وضحت لِسَارِ
ولو يُرمى بلؤمهم نهارٌ
لدنَّس لؤمهم وضــحَ النهارِ“
فيسارع جرير بالرد متهما الفرزدق:
“لَقَد وَلَدَت أُمُّ الفَرَزدَقِ فاجِراً
وَجاءَت بِوَزوازٍ قَصيرِ القَوائِمِ
وَما كانَ جارٌ لِلفَرَزدَقِ مُسلِمٌ
لِيَأمَنَ قِرداً لَيلُهُ غَيرُ نائِمِ”
ثم يرد عليه الفرزدق:
“أولئك آبائي فجئني بمثلهـــم
إذا جمعتنا يا جرير المجامع”
فيرد عليه جرير بقوله:
“قوم إذا حضر الملوك وفودهـم
نتفت شــواربهم على الأبواب”
وأيضا عندما تدخل الأخطل مناصرا للفرزدق، ومهاجما جرير:
“أزعمت أن بنيي كليب سادة
قبحا لذلك معشرا مذكورا”
فيرد عليه جرير مهاجما:
“الله فضلنا وأخزى تغلـًبا
لن تستطيع لما قضى تغييرا“
قال الفرزدق:
“إن الذي سمك السماء بنى لنا
بيتا دعائمه أعز وأطول
بيتا بناه لنا المليك وما بنى
حكم السماء فإنه لا ينقل”
وقد قال جرير:
“أعددت للشعراء سما ناقعا
فسقيت اّخرهم بكأس الأول
لما وضعت على الفرزدق ميسمي
وضغا البغيث جدعت أنف الأخطل
أخزى الذي سمك السماء مجاشعا
وبنى بناءك في الحضيض الأسفل
إِنّي اِنصَبَبتُ مِنَ السَماءِ عَلَيكُمُ
حَتّى اِختَطَفتُكَ يا فَرَزدَقُ مِن عَلِ
مِن بَعدِ صَكَّتِيَ البَعيثَ كَأَنَّهُ
خَرَبٌ تَنَفَّجَ مِن حِذارِ الأَجدَلِ
وَلَقَد وَسَمتُكَ يا بَعيثُ بِمَيسَمي
وَضَغا الفَرَزدَقُ تَحتَ حَدِّ الكَلكَلِ”
وتتناقل كتب الأدب المختلفة أخبارا من تهاجي الشعراء، التي أسست لفن النقائض في العصر الأموي، فقد جاء أعرابيٌّ إلى مجلسٍ ضم الفرزدقَ، والأخطل وجريرَ، وقد أنشأ الأعرابي يقول:
“فحيا الالـه أبا حـرزة
وأرغم أنفك يا أخطل
وجد الفرزدق أتعس به
ورق خياشيمه الجندل”
فأنشأ الفرزدق يقول:
“يا أرغمَ اللهُ أنفا أنتَ حاملُه
يا ذا الخنا ومقالِ الزورِ والخَطلِ
ما أنت بالحكم الترضي حكومتُه
ولا الأصيلُ ولا ذي الرأي والجدلِ“
ثم أنشأ الأخطلُ يقولُ:
“يا شرَّ مَنْ حملَتْ ساقٌ على قدمٍ
ما مثلُ قولِك في الأقوام يُحتملُ
إنَّ الحكومةَ ليست في أبيك ولا
في معشر أنت منهم أنهم سُفُلُ”
فقام جرير مغضبا وقال:
“أَتَشتُمانِ سِفاهاً خَيرَكُم حَسَباً
فَفيكُما وَإِلَهي الزَورُ وَالخَطَلُ
أَتَشتُماهُ عَلى رَفعي وَوَضعِكُما
لا زِلتُما في سِفالٍ أَيُّها السَفَلُ”
ولم يكن عبثا أن يظهر فنٌّ ثريٌّ باللغة، وبالصور، وبحسن الرد بالرغم من قبحه أحيانًا؛ لأن العصر الذي قِيلت فيه النقائض عصر قريب من الجاهلية، التي تحكم أهلها الحميّة، وثوران النفس البدوية، التي لا تنتظر وقتا للردّ على نقيصةٍ، أو شتمٍ أو تدني منزلةٍ، وهذا ما جعل لفن النقائض ميزة الردّ السريع، والارتجالي المباشِر، وهذا لا يتمُّ إلا من شاعر فحلٍ، متمكنٍ من القيمة الشعرية، ومن قوة المعنى، وتركيب اللفظ، فحينما أراد الشاعر عَرادة النميري، أن يدخل في معركة الهجاء بين الشعراء الثلاثة، وأن يقدم رأيا نقديا في الشعر الهجائي الدائر حين قدم البصرةَ، قال:
“يا صاحِبَيَّ دَنا الأَصيلُ فَسيرا
غَلَبَ الفَرزدقُ في الهجاءِ جَريرا“
فلما بلغ جريرا هذا البيت من النميري، ذهب إليه، ودعاه أن يبقى بعيدا عن صروف المعركة، وقال له: “إني وابن عمي الفرزدق، نَستَبُّ صباحَ مساءَ، فلا تتدخَّل بيننا، فقال له الراعي: صدقت”، ثم حدث أن جاء عُبيد بن الراعي النميري، إلى أبيه، وهو واقف مع جرير، فاستاء من ذلك، وقال لأبيه: مالك واقف إلى كلبٍ من كُليب، فغضب جرير من ذلك أشدَّ الغضب، وذهب وقضى ليلته في نسج قصيدةِ هجاءٍ للنميري، حتى قال، في قصيدة عصماءَ سماها “الدامغة”: وقد بدأها بمطلع غزليٍّ:
“أَقِلِّي اللَّومَ عاذِلَ والعِتابا
وقُولي إِنْ أَصَبتُ لقد أَصابا“
إلى أن يأتي إلى هجاء الراعي النميري بأشد أنواع الهجاء، وقد صرفته تلك القصيدة عن الهجاء برمَّته، حتى قيل في الأدب: أن الراعي ظل يتألم ويعاني من تلك القصيدة شهورًا؛ حتى مات غمًّا وكمدًا، وقلةَ حيلةٍ في ردِّه لجرير:
“أَتاني عَن عَرادَةَ قَولُ سوءٍ
فَلا وَأَبي عَرادَةُ ما أَصابا
أَنا البازي المُدِلُّ عَلى نُمَيرٍ
أُتِحتُ مِنَ السَماءِ لَها اِنصِبابا
إِذا حَلَّت نِساءُ بَني نُمَيرٍ
عَلى تِبراكَ خَبَّثَتِ التُرابا
وَلَو وُزِنَت حُلومُ بَني نُمَيرٍ
عَلى الميزانِ ما وَزَنَت ذُبابا
فَغُضَّ الطَرفَ إِنَّكَ مِن نُمَيرٍ
فَلا كَعباً بَلَغتَ وَلا كِلابا
إذا غَضِبَت عَلَيكَ بَنو تميمٍ
حَسِبتَ الناسَ كُلَّهُمُ غِضابا”
وفي القصيدة نفسها لا يهدأ لجرير بالٌ، إلا أن يهجو غريمّه الفرزدق، حيث يقول فيه:
“لَقَد خَزِيَ الفَرَزدَقُ في مَعَدّ
فَأَمسى جَهدُ نُصرَتِهِ اِغتِيابا
وَلاقى القَينُ وَالنَخَباتُ غَمّاً
تَرى لوكوفِ عَبرَتِهِ اِنصِبابا
فَما هِبتُ الفَرَزدَقَ قَد عَلِمتُم
وَما حَقُّ اِبنِ بَروَعَ أَن يُهابا”
فلما بلغ الفرزدق هجاء جرير المقذع هذا؛ انبرى الفرزدق لهجائه، وقد أجاد في ذلك:
“أنَا ابنُ العَاصِمِينَ بَني تَمِيمٍ
إذا مَا أعْظَمُ الحَدَثَانِ نَابا
مُلُوكٌ يَبْتَنُونَ تَوَارَثُوهَا
سُرَادِقَهَا المَقَاوِلُ وَالقِبَابَا
فَقْبّحَ شَرُّ حَيّيْنَا قَدِيماً
وَأصْغَرُهُ إذا اغتَرَفُوا ذِنَابَا
وَطاحَ ابنُ المَرَاغَةِ حينَ مَدّت
أعِنّتُنَا إلى الحَسَبِ النِّسَابَا”
فمن المعتل من القريض، ومن المتشابه في الألفاظ، والصور، والتراكيب الشعرية العميقة، خَلُد في التراث الأدبي نوع تفرّد عن غيره من الأجناس الأدبية، التي كانت معروفة في العصر الجاهلي، وبداية عصر صدر الإسلام، كان يتمثل في فن النقائض، التي كَثرت شعبيته، ومثلت أفكاره في العديد من المجالس الأدبية، وأسواق العرب الأدبية، كما أثرى المكتبة العربية بالنفائس من الكتب، ومرجعية الألفاظ الكبيرة لطول القصائد، التي قِيلت؛ وهذا ما ألجأ شعراء النقائض إلى النحت اللغوي، والاشتقاق في المعاني، وإحياء أساليب جديدة من النموذج للقصيدة التقليدية المعروفة، وبهذا النهج الجديد من الشعر ظهر فن للنقد الأدبي، الذي جعل الدارسين، والنقاد القدامى، والمستحدثين يعرجون إلى دراسة هذا الفن، وبيان خصائصه، وموازنة ومفاضلة الشعراء، الذين أنشؤوا فن النقائض، لما له من فائدة تاريخية شملت أيام العرب، ومفاخرها ومثالبها، وكانت القصائد مرجعا لمعرفة أحوال الناس، وأنسابهم، وكانت النقائض مرجعا للدراسات اللغوية، والأساليب البلاغية، وخزانة للغايات السياسية، والاجتماعية والأدبية.
ولكن، حيث أن لكل نموذج أدب ألّا يصلَ إلى مرحلة المثالية في الأسلوب، والتطبيق، والمنهج، وفرادة اللفظ، يكون للفن النقائض عيوب قد اعترت سبيل قيامه، فالهجاء المقذع بين الشعراء قد أنشأ ألفاظ فحش في القول، التي تخدش حياء المجتمع المحافظ، التي ربما لا ترتقي إلى مستوى الأخلاقية الشعرية، وتأجيج العصبية القبلية، التي تنشئ بذور العنصرية، وكثيرا ما كان بيت هجاء صادر من جرير، أو الأخطل، أو الفرزدق، يكون سببا لقيام حرب وقتال بين القبائل، لاسيما ما قاله الأخطل الذي كان سبباً في وقعة البشر، التي تعد من شر أيام قيس على تغلب، وكانت قصيدة الأخطل في هجاء جرير وقبيلته، من أشد المؤثرات النفسية لقبيلة كليب، حتى قال عنها جرير: ما هُجينا بشيء قط، أشد علينا من قول الأخطل فمن ذلك:
“ما زالَ فينا رِباطُ الخَيلِ مُعلِمَةً
وَفي كُلَيبٍ رِباطُ الذُلِّ وَالعارِ
النازِلينَ بِدارِ الذُلِّ إِن نَزَلوا
وَتَستَبيحُ كُلَيبٌ مَحرَمَ الجارِ
وَالظاعِنينَ عَلى أَهواءِ نِسوَتِهِم
وَما لَهُم مِن قَديمٍ غَيرُ أَعيارِ
لا يَثأَرونَ بِقَتلاهُم إِذا قُتِلوا
وَلا يَكُرّونَ يَوماً عِندَ إِجحارِ
وَلا يَزالونَ شَتّى في بُيوتِهِمِ
يَسعَونَ مِن بَينِ مَلهوفٍ وَفَرّارِ”.
No Result
View All Result