No Result
View All Result
المشاهدات 19
عبد الله رحيل
للفنّ الكليّ بجوانبه كافة، إشكاليّة الخلق والإبداع، خلق نتاج أدبيّ، أو فنيّ للتوّ، تشكّل وفق فكرة خُلقت أيضا للتوّ، وبهذا المعنى خلق فكرة أو جنس أدبيّ أو علميّ أو فنّيّ، ينشأ، بدافع نفسيّ، يوافق فكرة المبدع، لحالة نفسيّة داخليّة؛ فنتج إثر ذلك جانب من جوانب الإبداع لدى الشاعر في قصيدة فريدة عميقة، أو لفنان رسم لوحة غاية البراعة، أو لقاصٍّ سرد بكلماته، وبأسلوبه قصّة تميّزت عبر الزمن، وهكذا بجوانب الإبداع الباقية الأخرى، فمن الذي يوجد الفنّ المبدع؟ الذي يبقى بسيرورة العصور كلّها متميّزا، رغم اختلاف الثقافات والرؤى، لدى المفكّرين من البشر؟ هل هو الدافع، الذي برز عبر مؤثّر خارجيّ؟ أم الشخصيّة النفسيّة العميقة، التي خلقت هذا التميّز؟ وهذا ما حاول الفلاسفة، والمفكّرون النظر فيه، فبرزت في العصور الحديثة نظريّة الخلقة البنيويّة للفنّ، ما يّعرف بالمعادل الموضوعي.
وفي العصور الأولى لوجود الفنون، نرى بعض التفسيرات، التي من الممكن أن تفسّر هذه الظاهرة، التي ربما لم يعرفوا حقيقتها، لكن عزوا هذه الآثار النفسيّة والدوافع إلى حالات خارقة، وخارجة عن طبيعة تفسيرهم، فحين نحاول الغوص في نقد سبب وجود المشكلة، نرى أن البعض من المفكّرين، وردت عنده صور لأحداث لم يرها، ولم يتخيّلها، فأنتج أفكارا لمعلومات دون رؤيتها.
فنجد أن الشاعر بشار بن برد يتخيل صورا لأحداث لم يرها، ولم يحس بوجودها البصري، في صورة غبار المعركة المرتفع والمتصاعد في فضاء السيوف والخيل، وهي تصارع الفوارس؛ حيث أن لونه أسود، والسيوف برّاقة ولامعة وسطه، مشّرقة متهاوية بيضاء –فوق رؤوس الأعداء، وينقل صورة الليل الأسود البهيم في منظر مبدع، مع تهاوي نجومه البيضاء الساطعة، وصورة الجبال والكواكب، فهي صور مركبة، لأحداث لم يرها، فهو أعمى بالولادة، ولم يدرِ ماهية هذه الصور، ولا أشكال الأشياء من حوله، فكيف خلق هذا الشعور النفسي عنده:
كأنّ مثار النقع فوق رؤوسنا
وأسيافنا ليل تهادى كواكبه
كأَنَّ جَناباوَيهِ مِن خَمِسِ الوَغى
شَمامٌ وَسَلمى أَو أَجاً وَكَواكِبُه
ثم إن كانت الثقافة هي مولدة الإبداع اللغوي عند الشاعر، فلِمَ لمْ يكن ابن عبد ربه الأندلسي، وأبو الفرج الأصفهاني، أو ابن جنِّي، أو المبرّد، وهم الذين يمثلون الأساس اللغوي، والوعاء الثَّر للألفاظ اللغوية والمعاني، وحازوا عمدة التأليف عند العرب؟ ثم لِمَ كان زهير بن أبي سلمى شاعرًا، ولم يكن الفيروز أبادي مثله؟! إذا نحن أمام ظاهرة لم تُفسّر على العهد القديم، وفي معترك الثقافة العربية، والإغريقية قديما، فحاول العرب عزو هذه الظاهرة إلى الجنّ؛ محاولين رسم طبيعة هذا الشعور
وبهذه النظرة الدافعية لخلق الشعر، شاع عند العرب منذ القدم، أنّ لكلّ شاعر ملهماً يُعلِّمه الشعر؛ فذكروا أن لافظ بن لاحظ، هو صاحب امرؤ القيس، وهاذر بن ماهر صاحب النابغة، وجالد بن ظلّ صاحب عنترة، وشاع عندهم نسبةُ هذا الإلهام إلى وادي عبْقر، الوادي السحيق الواقع في نجد، وهل كان الشعراء قديمًا في جزيرة العرب فقط؟ وحديثًا حاول العِلم أن يتحايل على تلك الحال التعبيريّة لدى الشعراء؛ فظهر علم النفس مموهًا ذلك بوصفه إياها بالإلهام، فهو يرى أن الشِّعر لونٌ من الإبداع التوتريّ المحتاج إلى الإلهام.
إنّ أحد وجوه العلاقة المركبة بين القصيدة، والشاعر، والقارئ، كما يعرف في نظرية المعادل الموضوعي، هو أنّ القصيدة لها حياتها الخاصة، إنّها عالم معزول مغلق على ذاته بقوانينه، وبمبادئه، التي تنتظمه، ولأنّ المشكلة مشكلة الانفعال، الذي يريد الشاعر أن يعبّر عنه، تقدّم القصيدة سياقا فريدا، والانفعال، الذي يمكن الحصول عليه من القصيدة يوجد في هذا السياق، لا في أي مكان آخر: “أنواع الشعر كلّها هي شعريّة للسبب نفسه إذ إنّها تعبّر عن استيعاب خيالي للموضوع، سواء أكان هذا الموضوع، هو مشاعر الشاعر الخاصة، أم مشاعر غيره”، د. ج. جيمس.
وهذا الاستيعاب الخيالي للموضوع، يتضمّن عملية تحويل، بما في ذلك الحقائق الخارجة عن القصيدة، كما كتب لويس ماكنس: “الحقائق التي تولّد قصيدة، ليست بعد ذلك الحقائق نفسها، التي اندمجت لتوليد القصيدة”، إذ إنّها تخضع لتغيّر كيماوي حيوي، وكما أشار الدكتور ريتشاردز: “إن الزنبقة، التي توصف في بيت شعريّ، ليست الزنبقة الفعليّة، فالوصف يتعلّق بتجربة رؤية، أو تخيّل الزنبقة، والانفعال، الذي يثيره الشعر يوجد في الموضوع، لا في ذاته، ولكن بعد أن يُستوعَب خياليّا من قبل الشاعر…” وبذلك حين نقرأ القصيدة، ننسى كل ما هو خارجها، وننسى قائلها كذلك.
فيعدّ المعادل الموضوعيّ هو المؤثر الخارجي لقيمة الإبداع، والخلق الفنيّ، ويعدّ أساسا لنظرية ت. س. إليوت النقدية، التي استطاعت أن تؤثّر في النقد الأدبيّ الحديث، ابتداء من القرن التاسع عشر الميلاديّ، لأنّها أتت محصلة طبيعيّة لسلسة من الآراء النقديّة، بشّر بها أدباء إنكليز، وأمريكان، مثل باوند، والشعراء التصويريّين.
فكتب إليوت في مطلع القرن التاسع عشر مفسِّرا الإبداع الفني في لحظة الخلق، “الطريقة الوحيدة للتعبير عن الانفعال في شكل فنّ تنحصر في إيجاد المعادل الموضوعي، وبهذا المنحى يكون الخلق بمجموعة من الموضوعات، والأوضاع وسلسلة من الحوادث تكون معادلة لذلك الانفعال الخاص، حتّى إذا ما أعطيت الوقائع الخارجية، التي ينبغي أن تنتهي بتجربة حسيّة استعيد الانفعال نفسه حالا…وإنّ الحتمية الفنيّة، تكمن في هذه المقدرة التامة للعنصر الخارجي على التعبير عن الانفعال…”
لكن إليوت في تفسّيره ذاك، قد سبقه، أزرا باوند، في تعريفه للشعر، فكتب في “روح الرومانس” أنّ الشعر نوع من الرياضيات الملهمة، لا يعطينا معادلات للأرقام المجردة والمثلثات، والمحيطات، وما أشبهها، بل يعطينا معادلات للانفعالات الإنسانية…”، فيتأتّى من ذلك، أن الشعر ليس نقلا، ولكنه خلق شيء موضوع، وهو أمر جديد ناتج عن تركيز الشاعر بتجاربه، فيتحوّل انفعال مشاعره إلى شيء.
فتبقى القصيدة شيئا قائما بذاته، أي أنّها تُجسَّم، وبهذا التفسير، أن الشعر ليس فيضاً عفوياً للانفعال، كما قال الابتداعيون ذلك؛ لأنّ الشعر حسب إليوت “استغلال للغة، حتى تنقل المادي”، فيبدو الشعر وفق ذلك، تحويل مشاعر مختلفة إلى موضوع مركّب جديد في ذهن الشاعر، وينبغي أن يكون واسطة مناسبة للمشاعر المختلفة، ثم عرج، كيتس” إلى إنّ عملية الخلق والعملية الكيماوية متماثلتان، وهما قائمتان كلتاهما على التحويل، تحويل المواد الصلبة إلى موضوع جديد”.
إذاً إثارة الانفعال، الذي يُنتج العمل الفنيّ، هو القيمة الأولى، والمثلى لدى الشخصيّة المبدعة، وبهذا الاستئناف لعملية الخلق الفنيّ للنصوص المختلفة، وحتى التصويرية منها، تخضع لعملية المعادل الموضوعي عند إليوت، الذي يعد جزءاً أساسياً من نظريّته النقدية، وهو يعني عنده عدة موضوعات، ومواقف، وسلسلة حوادث، يعبّر عنها الشاعر عن الانفعال، وشرط جماليتها، أن تثير لدى قارئ العمل الأدبي تجربة حسيّة، تتضمّن الانفعال نفسه، الذي انبثقت عنه، وهذا الانفعال يتطلّب خلق موضوع ناتج عن تركيز تجارب الشاعر، أو الأديب، ويعد الشعر بهذا المعنى ليس تعبيرا مباشرا عن الشخصية، إنّه تعبير غير مباشر لتركيز الشاعر على مهمته، وهي خلق شيء جديد.
والفن يكون عملية خلق موضوعية تتطلّب قدرة على هضم، وتمثل العواطف، التي هي مادة الخلق، وتكون اللغة المؤلّفة السليمة، تمثّل العمل، وهي وثيقة الصلة بهذا العمل إلى حد التطابق، وعلى هذا يكون الانفعال ليس شخصيّا، أيّ أنّه يتعلّق بالعمل الفنيّ لا بصاحبه، فيترتّب على ذلك أنّ القصيدة لها حياتها الخاصّة، وقوانينها، ومبادئها التي تنتظمها، وتتضمّن تغيرا حيويا كيماويا للحقائق، التي اندمجت لتوليدها، وحين نقرأ العمل الفنيّ، أيًّا كان، ننسى كل ما هو خارجه، بما في ذلك صاحب العمل، ومؤلّفه إذا نحن نتعامل مع العمل الفنيّ نفسه، لا مع خالقه.
فعروة الأعمال، والقصائد الشعريّة المثيرة للجوانب الإنسانيّة، كلّها تآلف معها أصحابها، وفق انفعال مطّرد جماليّ، مطلق حين استثار عندهم هذا المنحى الجمالي؛ فقدموا أعمالا تمخّض عنها جمال الخيال، والصورة، واللفظ، والمعنى، واندماجية القارئ، والحدث معا، مؤلّفين كلاًّ متكاملا، أخذ منحاه العظيم في صورة الجمال الخالدة، لهذا يمكننا القول: إنّ الانفعال المُثار لدى الشاعر، هو الذي أوجد الفكرة، واستقاها الشاعر ممّا حوله، خالقا بفنّه، وبلغته وعمق تأثره بالحدث نتاجا أدبيّا معبّرا عن أهواء النفس البشرية الجميلة كلها.
No Result
View All Result