عبد الله رحيل
كثيرٌ ما نجد في اللغة العربية كلمات، تؤدي الجمع، والمفرد باللفظة نفسها، إذ لا يوجد مفرد لجمع معين، مثل التراب، والعسل، والماء، والهواء، والحليب، واللبن، فهذه الكلمات تطلق على الجمع والمفرد بالكلمة نفسها، وهذا ما يُسمى، اسم الجنس الجمعي، وهو ما نجده في كلمة الخيل، فهي مؤنثة، وواحد الخيل: خائل، مثل: طير، وطائر، وسمي الفرس بذلك؛ لأنه يختال في الحركات والهيئة، وقيل: الخيل هو اسم جمع، لا واحد له من لفظه، واحده فرس، وسمي الفرس فرساً؛ لأنه يفترس مسافات الجو افتراس الأسد، وسُمّيت الخيل خيلاً؛ لاختيالها في المشـية. لهذه المنزلة العظيمة للخيل عند الإنسان في مختلف المجتمعات، والأماكن، والعصور، اتخذ الإنسان منذ القدم، والأزل الحيوان صديقا له، فاعتزّ به وأمن، وآنس، محاكيا بعض الأحيان حياته المجتمعية، والبيئية، فأُنشِئت معه حياة تشاركيّة في مجالات الحياة المتعدّدة، في علاقة ودودة حميدة، حين كانت الصحراء، والبراري مقرًّا له في حلّه وترحاله، وفي بعض الأحيان يبتعد الإنسان عن حياة البشر؛ لما لها من تقلبات، وتبدّلات في أهوائه النفسية؛ فيلجأ إلى عالم الحيوان، يبثّه شعوره، ومحبّته، وألفته، ومشاركته الأعمال.
وقد يصل الإنسان إلى حاجته للحيوان، أكثر من حاجته للكلأ والماء، فقد كان يسعى جاهدا وراء الماء والكلأ، يطوي البيد، ويجوب الأرض؛ بحثا عنهما، فقد كانت حاجته إلى الخيل أكثر، وأعمق، فهي عماد حياته، ليس للتنقّل فحسب، فهذه غاية قامت الإبل مقامها في الغالب، وإنما لشنّ الغارة، وردّ العدوان، حيث أوجدت عندهم غاية تضارع حاجتهم إلى الماء والمرعى، ففي كلا الأمرين الحياة.
ومن هنا كان اهتمام الإنسان بالخيل، وعنايته بتربيتها، وحسن إعدادها، وقد تفنّن الإنسان في طرق امتلاك الخيل، فجعل لها حياة تضارع حياته في المسكن، والمأكل، وطرق التدفئة، وحسن انتقاء الصفات، والأسماء، بل وأحيانا يفقد حياته في سبيل الدفاع عن خيله، أو حيوانه، الذي يقوم على رعايته.
وقد أظهرت النقوش والرسوم، وبعض الكتابات في المغاور، والكهوف القديمة، اهتمام الإنسان بالخيل منذ أقدم الحضارات والعصور، تظهر أنماط المعيشية، التي كانت تُثار للخيل من ممارسات، وطقوس دينية مختلفة، وقد اُكتُشفت في الرسومات القديمة صورة تمثال صغير لحصان في روسيا، وفي كهف لياسكو، وُجدت صورة لتيس عملاق إلى جانب حصان قزم، حيث أنّ هذه الكهوف، والمعابد هي إشارات مقدّسة من العالم الحيواني، ليستحضر الإنسان من خلالها قوّة العالم الموازي، وليقيم نقاط تواصل بين الإنسان والحيوان، وقد بيّنت بعض الروايات، والرسوم، أنّ أول من روض الخيل لغاية العمل، والحرب، والركوب، كانت مدينة آشور قديمًا، هي أوّل من استخدمت سلاح الفرسان والعربات، التي تجرُّها الخيول، وظهرت عند البابليين في استخدامهم لعربات، تجرُّها خيول أربعة، وقد استخدمها البابليون في بناء مدينة بابل، وظهرت الخيول أيضا مشاركة في الحروب، التي كانت تقام، وأظهرت نجاح الحيثيين العسكري في معركة قادش، قديما في سوريا.
لذلك حظيت الخيول بمكانةٍ كبيرة منذ الزمن الأوّل، واهتمّ بها العرب اهتماماً غير عادي، وتعلّموا علومها، وكتبوا فيها أشعارهم، وظلّت مكانتها في الإسلام حاضرة؛ كونها الوسيلة الأولى في القتال والحروب، وتكمن أهمية الخيل عند المسلمين، فأقسم الله تعالى بالخيْل في سورة العاديات؛ تشريفاً لها، ورفعاً لِذِكْرِها، ووصف حركاتها واحدة واحدة، منذ أن تبدأ عَدْوها وجَرْيها، ضابحةً بأصواتها المعروفة حين تجري، قارعة للصخر بحوافرها، حتى تُورِي الشرر منها، مغيرةً في الصباح الباكر لمفاجأة العدو، مثيرةً للنَّقْع والغبار، غبار المعركة على غير انتظار، وهي تتوسّط صفوف الأعداء على غِرَّة؛ فتُوقِع بينهم الفوضى والاضطراب، قال تعالى: “وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا* فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا* فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا* فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا* فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا”.
وقد شرفها الله تعالى؛ لما لها من أهميّة كبرى في آيات عديدة في القرآن الكريم، حيث شرّفها لعزتها، ولقوّتها من أعظم الأعوان، ودفعا للعدوان، وقد بيّن الله تعالى الخيول أنّها زينة في الحياة الدنيا، وتؤخذ للركوب، ووسيلة للدفاع عن الأهل والأرض، وقد وُصفت الخيل بالفضيلة والكمال في حالة وقوفها، وحركتها، فعند وقوفها وُصفت بالصفون، وفي حال حركتها بالجودة، فكانت سريعة في جريّها، فإذا طلبت لحقت، وإذا طُلبت لم تلحق، قال تعالى:
(وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)
وقد تنامت أشراف الخيل باهتمام الإنسان على مرّ التاريخ والعصور؛ لما لها من أهمية كبيرة في الحياة، وقد اتّسمت بصفات منفردة عن باقي المخلوقات، فقد أفردوا العرب للحصان صفات كريمة، وعديدة، فقد شبّهوه بالنعامة، والظليم، وشبّهوا مِشيته بمشية الذئب، وفم الفرس بالجوالق، وظهره مسد، والمتنان كالزحلوف، أي الحجر الأملس، والمنخر مثل وجار الضبع، وأرساغه كأعناق الضباع، وفيما يروى عن الشاعر الأخطل التغلبي، حين قال:
أَحِبُّوا الخَيْلَ وَاصْطَبِرُوا عَلَيْهَا
فَإِنَّ العِزَّ فِيهَا والجَمَالَا
إِذَا مَا الخَيْلُ ضَيَّعَهَا أُنَاسٌ
رَبَطْنَاهَا فَأَشْرَكَتِ العِيَالَا
نُقَاسِمُهَا المَعِيشَةَ كُلَّ يَوْمٍ
وَنَكْسُوهَا البَرَاقِعَ وَالجِلَالَا
ومن هنا كان اهتمام العرب بخيلهم، وعنايتهم بتربيتها وحسن إعدادها، وانبرى الشعراء يذكرونها بأسمائها، فحمزة بن عبد المطلب مثلاً يذكر فرسه، ورد، مشيراً إلى عتقه وكرمه، وأنّه من بنات ذي العُقَّال، فيقول:
ليس عندي إلا سلاح وورد
قارح من بنات ذي العُقَّال
أتقي دونه المنايا بنفسي
وهو دوني يغشى صدور العوالي
بل إنّ فرسان العرب، قرنوا فروسيّتهم بأسماء الخيل في كثير من الأحيان، فالأخنس بن شهاب التغلبي “فارس العصا” و”فارس زِيَم، وحسان بن حنظلة الطائي “فارس الضُّبيب”، وعامر بن ربيعة بن صعصعة “فارس الضحياء”، وفي هذا المعنى يقول أحد الشعراء:
أبي فارس الضحياء يوم هُبالة
إذا الخيل في القتلى من القوم تعثر
والأبيات التي قالها عبيدة بن ربيعة بن قُحفان التميمي في فرسه (سكابِ) هي من أجمل ما عبّرت به الشعراء، عن حبّ العربي للخيل، وتعلّقه بها، ومكانتها في نفسه، يقول: