No Result
View All Result
المشاهدات 1
صلاح الدين مسلم_
دأبت الماركسيّة على التأكيد على فكرة أنّ ولادة النظام الرأسماليّ نتيجة طبيعية حتمية للنموّ الاقتصاديّ، واعتبرت النظام الرأسماليّ نوعاً من أنواع الاقتصاد، بل هو نموذج اقتصاديّ، ووضع الاقتصاد السياسيّ ركناً من أركان علم الاجتماع، وهو العلم الرئيس لتكوّن الدولة الحديثة العصريّة، ومن هنا بات يعرّف النظام الرأسماليّ على أنّه اقتصاد السوق، وكأنّ الرأسمالية نظام خارج إطار التاريخ، والحضارة والمجتمع والأيديولوجيا، والدولة والسلطة والبيئة، وقد رأى المفكّرون الاقتصاديون الأمريكيون والأوروبيون على أنّه الاقتصاد الجديد والأنموذج الذي يجب أن يطبّق في البلد الذي انتصرت فيه الرأسمالية، ومن هنا احتكروا الحقيقة أيضًا في أنفسهم.
أمّا مناهضو الرأسمالية فقد رأوا أنّه يكفي محاربة الرأسمالية اقتصاديًّا لكي يتمّ الانتصار عليها، وكانت المناهضة بنفس أسلوب تفكير النظام الرأسماليّ أي بالوضعية أو العلمية في تفسير فشل النظام الرأسماليّ، ولم يدركوا أنّ الوضعيّة هي دِين النظام الرأسماليّ، فالعلم خير بنظرهم ولا ينتج إلّا الخير، ومن هنا تنبّؤا بسقوط الرأسمالية وبالتالي سيأتي الفردوس المفقود (الشيوعيّة) وهذه كانت النظرة اليسارية ومازالت.
إنّ المجتمع من خلال بُناه المعرفية والذهنية طبيعة ثانية تختلف كلّ الاختلاف عن العلميّة والوضعيّة التي فسّرت المجتمع بطريقة علميّة، فالفوضى الموجودة في المجتمع هي فوضى في بنيتها الذهنيّة والمؤسساتية والاقتصادية أيضًا، ولا يمكن لنظرية الفوضى الخلّاقة المبتكرة أن تروّض وتقنّن المجتمع، وتفسّره، ولا يمكن أن تقنّن الطبيعة بشكلٍ عام وتضع تفسيرًا علميًّا أو وضعيًّا لها.
لكنّ هذا النظام الجديد للكون متّصل ببعضه بطريقة متشابكة وعنكبوتية، والكم الهائل للمعلومات، واحتكار الحقيقة التي لا تخدم إلّا تكديس المال وفائض الربح، فقد عبّرت القارات وتجاوزت القوميات، فهو عالم يصعب علينا إدراك كنهه، إنّه عالم مثير للحيرة والارتباك، فكلّ شيء فيه له علاقة وثيقة بالأشياء الأخرى: البورصة في شنغهاي على علاقة متينة بمثيلتها في نيويورك، والقروض والعقارات الأمريكية على صلة وثيقة بالمدخرات الألمانية، وفرصة العمل في فيتنام وثيقة العلاقة بفرصة العمل في برلين أو في ولاية بافاريا الألمانية، والين الياباني على ارتباط متين بالعملة الصينية، أضف إلى هذا أنّ العالم الجديد قد أمسى أكثر سرعة، وأنّ الأفكار والأخبار ومشاعر الذعر من أزمات البورصات أيضاً تنتقل الآن بسرعة الضوء فما يحدث في طرف من أطراف العالم نلمس أثره لدينا خلال ثوان معدودة، من ناحية أخرى، فإن مجتمعنا الذي ينطوي على نوافذ يستطيع البعض المرور من خلالها نحو الأعلى، لا تزال فيه نوافذ يسقط منها كثيرون نحو الهاوية.
يعتمد النظام العالمي الجديد على الليبرالية أي حرية الفرد كأساس فكري لهذا النظام، والاعتماد على السوق والديمقراطيّة والحرّيّة والمساواة، لكنّ المؤرخَ فرناند بروديل يُكَذِّب ويُفَنِّد كلياً وجلياً تلك المزاعم، من خلال ملاحظاته الواسعةِ النطاق ومقارناته الدقيقةِ في بحثه المُعَنوَنِ باسمِ “المدنية المادية” (إنه مؤلَّفٌ رائعٌ ومدهشٌ في ثلاثةِ مجلدات، أَنفَقَ فيه جهوداً أَخَذَت منه ثلاثين سنةً بِحالِها).
No Result
View All Result