من أروقة الإبداع/ القصة: نظرة/ الكاتب: يوسف إدريس

 عبد الرحمن محمد –

الكاتب والأديب الدكتور يوسف إدريس، كاتب مسرحي وقصصي مصري أُثرى الأدب بالعديد من الأعمال والروايات، من مواليد قرية” البيروم” التابعة لمركز “فاقوس” عام 1927، عُرِف منذ صغره بحبه للعلوم الكيميائية والعلوم الأخرى، فالتحق بكلية الطب وتخرج منها عام 1947 م، وتخصص في الطب النفسي ولكنه لم يستمر في العمل في هذا المجال، حيث كان ولِعاً بالأدب وفن القصص والمسرح، طُبعت أعماله الأدبية وتحول الكثير منها لأعمال مسرحية وسينمائية شهيرة مثل النداهة والحرام .

كان إدريس في حياته الطلابية معروفاً بكاريزما القيادة وشخصيته القوية وتأثيره فيمن حوله، اشترك خلال سنوات دراسته للطب بالمظاهرات المعادية للاحتلال البريطاني، وللملك فاروق، وكان سكرتيراً تنفيذياً للجنة الدفاع عن الطلبة، ونشر أولى قصصه القصيرة عبر مجلات طلابية نالت إعجاب من حوله.

عمل يوسف إدريس في مجال الطب في أماكن ومناصب عدة، ثم عمل محرراً صحفياً بجريدة الجمهورية، وكاتباً بجريدة الأهرام في الفترة من 1973 وحتى 1982، وعُرِف كذلك بشغفه بالسفر، وكان عضواً في العديد من المؤسسات والجمعيات الأدبية.

أصدر مجموعته القصصية “أرخص الليالي” بعد أن نشر الكثير من القصص في صحف ومجلات عديدة، ثم واصل عمله كطبيب حتى 1960 ، وفي عام 1961 انضم إلى مقاومة ثوار الجزائر وأصيب فيها لينال وسام الشرف لنضاله، أضافة لانشغاله بالقضايا السياسية وكان يمتلك الجرأة للتعبير عن رفضه للمواقف السياسية التي لم توافق رؤيته.

ليوسف إدريس العشرات من المجموعات القصصية وعدد من الروايات والأعمال المسرحية إضافة إلى كم هائل من المقالات في مواضيع شتى. وتوفي في الأول من آب عام 1991.

“نظــــــــرة“

كان غريباً أن تسأل طفلة صغيرة مثلها، إنساناً كبيراً مثلي لا تعرفه في بساطة وبراءة أن يعدل من وضع ما تحمله، وكان ما تحمله معقداً حقاً. ففوق رأسها تستقر «صينية بطاطس بالفرن»، وفوق هذه الصينية الصغيرة يستوي حوض واسع من الصاج مفروش بالفطائر المخبوزة، وكان الحوض قد انزلق رغم قبضتها الدقيقة التي استماتت عليه؛ حتى أصبح كل ما تحمله مهدداً بالسقوط.

ولم تطل دهشتي وأنا أحدق بالطفلة الصغيرة الحيرى وأسرعت لإنقاذ الحمل. وتلمست سُبلاً كثيرة، وأنا أسوي الصينية فيميل الحوض، وأعدل من وضع الحوض فتميل الصينية، ثم أضبطهما معاً فيميل رأسها هي، ولكنني نجحت أخيراً في تثبيت الحمل وزيادة في الاطمئنان نصحتها بأن تعود إلى المخبز.

ولست أدري ما دار في رأسها، فما كنت أرى لها رأساً، وقد حجبه الحمل، كل ما حدث أنها مضت وهي تغمغم بكلام كثير لم تلتقط أذني منه إلا كلمة «ستي».

ولم أحول عيني عنها، وهي تخترق الشارع العريض المزدحم بالسيارات، ولا عن ثوبها القديم الواسع المهلهل الذي يشبه قطعة القماش التي يُنظَف بها الفرن، أو حتى عن رجليها اللتين كانتا تطلان من ذيله الممزق كمسمارين رفيعين. وراقبتها في عجب وهي تنشب قدميها العاريتين كمخالب الكتكوت في الأرض، وتهتز وهي تتحرك ثم تنظر هنا وهناك بالفتحات الصغيرة الداكنة السوداء في وجهها، وتخطو خطوات ثابتة قليلة، وقد تتمايل بعض الشيء، ولكنها سرعان ما تستأنف المضي.

وراقبتها طويلاً؛ حتى امتصتني كل دقيقية من حركاتها، فقد كنت أتوقع في كل ثانية أن تحدث الكارثة ويسقط الحمل، وأخيراً استطاعت الخادمة الطفلة أن تخترق الشارع العريض المزدحم في بطء كحكمة الكبار.

واستأنفت سيرها على الجانب الآخر، وقبل أن تختفي شاهدتها تتوقف، ولا تتحرك فظننت وخُيِّلَ إليّ أن هناك عربة قادمة لتدهسها. وكادت عربة تدهمني وأنا أسرع لإنقاذها، وحين وصلت كان كل شيء على ما يرام، والحوض والصينية في أتم اعتدال. أما هي فكانت واقفة تتفرج ووجها المنكمش الأسمر يتابع كرة من المطاط يتقاذفها أطفال في مثل حجمها، وهم يهللون ويصرخون ويضحكون، وهي تتابعهم بنظرات حسرة وألم.

ولم تلحظني ولم تتوقف كثيراً، فمن جديد راحت مخالبها الدقيقة تمضي بها، وقبل أن تنحرف استدارت على مهل واستدار الحمل معها، وألقت على الكرة والأطفال نظرة طويلة ثم ابتلعتها الحارة.