أوكرانيا دروس وعِبر ـ2ـ

مصطفى بالي_

في أوكرانيا ما زالت شعوب العالم تراقب عن كثب، لوياثان الدولة وهو يتأهب لافتراس البشرية، الدولة التي وصفها أبو مسلم الخراساني (بأننا نبنيها فتتحكم بنا وبمصائرنا) هكذا هي لها منطقها الخاص في إشعال الحروب هنا وهناك، التهام الشعوب والأمم، طحن الجغرافيات وعجن البشر بين رحاها، لا مصلحة إلا مصلحتها هي، بجريرتها قتل الآباء أبناءهم، ولديمومة مسيرتها، ذبح الأخوة أخوتهم، ولحماية مصالحها قال كيسنجر يوماً بعد أن ضحى بالكرد ذات غدر (لا أساطيل لدينا تصل إلى جودي).

هي لم تُخلّف منذ أن وجِدت سوى الحرب والخراب والدمار، ولم تمارس في تاريخها سوى السلب والنهب والعنف، إلا أن ما يجري هناك في صقيع الروس، ما زالت مليئة بالدروس والعِبر التي تمنحنا آفاقاً للتفكير بما عشناه أو سنعيشه لاحقاً، دروساً بليغة، حاولت الآلة الإعلامية العملاقة للحداثة الرأسمالية طمسها وإقناع الشعوب بعدم جدوى مقاومة الدولة والاستسلام لأقدارها.

الشعب الأوكراني كان له رأي آخر تماماً – وأراني مضطر دائماً للتأكيد بأننا نتحدث عن هذه الحرب وتداعياتها بغض النظر عن الموقف السياسي للحكومة الروسية أو الأوكرانية، فكلاهما وجهان لعملة واحدة هي الدولة كما أسلفنا وصفها- هذه الحرب التي بدأت، والتي اعتقد العالم بأن الاجتياح الروسي للسيطرة على العاصمة قد يستغرق مدة أقصاها أربعة أيام بناءً على المعطيات العسكرية المعروفة، وتفاوت ميزان القوى بين الجيش الروسي والأوكراني، إلا أنها  قد دخلت شهرها الثاني والأوكران يزدادون ثقة بأنفسهم يوماً بعد يوم، ويلحقون الضربات الموجعة بالجيش الروسي وشكلوا حالة من المقاومة الشعبية المتلاحمة مع جيشهم دفاعاً عن بلادهم.

قد يقول قائل، أنه ما كان لهم ذلك لولا الدعم الغربي، وهذا بالذات ما أريد توضيحه ومقارنته مع ما عشناه هنا في روج آفا، إذ أن نفس القائل ولغاية في نفسه ينسب ما حققه أبناء شمال وشرق سوريا بفضل قواتهم وشهداء هذه القوات إلى التحالف الدولي، وكأن مصيرنا محتوم إما بالفناء أو أن يكون هناك تحالف يحمينا من الفناء، وبالتالي خياراتنا هي المسافة الفاصلة بين السيف والنطع من جهة، وبين الأذن المشفرة في يد النخاس في أسواقه، هي سيكولوجية العبد الذي يبحث عن سيد جيد دائماً ولا يمكن أن يفكر بأي حال من الأحوال بأن يكون سيد نفسه وسيد قراره.

القضية ببساطة، هي اتخاذ قرار الموت بشرف، تلك الجملة التي قالها يوسف العظمة يوما للملك فيصل (اسمحوا لنا أن نموت بشرف) وهي ذاتها كربلاء المعركة الوحيدة والخاسرة التي خاضها الإمام الحسين ضد السطوة والجبروت والطغيان، وهو يعلم يقيناً أنه لا تكافؤ للفرص في معركته، بيد أنه طبع التاريخ بطابعه.

في أوكرانيا عندما بدأ الغزو الروسي، أرسلت دول القرار رسائل مبطنة للحكومة الأوكرانية تشجعها على الاستسلام من خلال التلميح بإرسال بطاقات الطائرة للرئيس وعائلته وأعضاء حكومته، حتى بلغ الأمر بطرح فكرة الخروج وإعلان حكومة في المنفى، لكن الرجل وبمعية أعضاء حكومته عندما قال “لا نحتاج لرحلات سياحية بل نحتاج للسلاح وسنقاوم”، اضطر العالم للتضامن معه واضطر العالم لتقديم الدعم والمساندة له، وهو ذاته ما حدث في روج آفا، حيث ما كان للتحالف أن يقدم كل هذا الدعم لولا أنه كان هناك قادة عِظام ومقاتلين شجعان ضحوا بأنفسهم دفاعاً عن مدننا وقرانا، وفي الوقت الذي انهزمت فيه جيوش سوريا والعراق أمام داعش، وتم تسليم شنكال بأهلها ومقدساتها إلى تنظيم داعش، كانت قوات روج آفا تقتحم الحدود في أول عملية مقاومة ضد الإرهاب خارج الحدود، وأتبعتها بالمقاومة الأسطورية في دفاعها عن كوباني، حتى هذا التاريخ كنا لوحدنا وببنادقنا فقط، لكننا كنا متخمين بالإيمان واليقين أننا منتصرون لا محالة، ومهما كانت الآلام والصعاب والتضحيات.

إذاً والحال هذه، ودون أن ننكر للتحالف فضله ودعمه وإسناده، لكن ما كان له أن يحرر شبراً لولا وجود قوات على الأرض مسلحة بإيمانها بحقها، والدليل أن داعش سيطرت على شنكال في الوقت الذي كان التحالف يقصف داعش في كل مكان، فبدل أن يتقلص داعش كان يتمدد، العبرة ليست في امتلاك التقنية العسكرية بقدر ما هي امتلاك إرادة المقاومة والإيمان بها.

لقد دفعت شمال وشرق سوريا أكثر من عشرين ألف شهيد لتنجز ما أنجزته بالتعاون مع التحالف الدولي، وكان دور التحالف هو تخفيف حدة الخسائر لا غير، إنما قرار النصر كان قراراً محلياً بامتياز، وكان هذا النصر سيأتي ولو متأخراً.